نساء غزة..."جبال راسيات" هزمن الاحتلال

حينما علمت هاجر أن زوجها إبراهيم (عليه السلام) يمضي في طريقه بأمر الله (تعالى)، واستجابة له ،في تلك اللحظة تيقنت أن الله (عزوجل) لن يضيعها.

هذا اليقين جاء في وقت صعب جدا حيث إنها امرأة مع رضيعها إسماعيل(عليه السلام) في أرض قاحلة من الشجر والبشر ولا ماء فيها.

كل أسباب الضعف اجتمعت عليهما فالهلاك لا محال سيدركهما فالأرض موحشة قد غاب بها زوجها الذي تنسد رأسها ع كتفه كلما تعبت، هو نفسه الذي كان يحب طفله الذي انتظره سنوات طويلة وجاءته البشرى به على الكبر.

ورغم ذلك لم تطلب منه أن يبقى معهما وأن لا يغادرهما، إنما ثبتت بيقين كان أكثر ثباتا من الجبال الراسيات بأن الله (تعالى) لن يضيعهما.

اليوم المشهد يتجدد في حرائر غزة فهن يخضن أعظم الحروب نصرة للإسلام والمسلمين.

حرائر غزة

كل واحدة منهن تحمل في قلبها اليقين ذاته بأن الله (سبحانه وتعالى) لن يضيعها حينما يغادرها زوجها حاملا مصحفه، وعدته العسكرية، ومتوشحا على رأسه " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"، تودعه بنظرات حانية، لكنها تحمل القوة وهي تهمس في أذنه " أمضي في سبيل الله والله لن يضيعنا".

هي تحبه حبا لو كتبت فيه مجلدات لم اكتفت، لكنها تدرك أنه أمر الله(تعالى).

تحصنه قبل خروجه بآيات الرحمن، وتذكره بها رغم أنها تدرك أنه يتقن سرد القرآن غيبا على جلسة واحدة فكان صوته الحنون مرتلا له ومعلما لها فكان يتابع معها حفظ أجزاء من القرآن الكريم، ويصبر عليها حتى وإن أعادت تسميع الصفحة الواحدة أكثر من عشرين مرة.

المجتمع كله

العالم حينما يريد أن يثني على المرأة يصفق لها بأنها نصف المجتمع، وهم لا يعلمون أنها في غزة المجتمع كله فهي الشهيدة، والأسيرة، والمقاومة، وأم الشهيد، وأم الأسير، والجريحة وأم الجرحى كذلك.

هي ذاتها الأم الحنون والزوجة الهنية المخلصة لزوجها، وهي نفسها من تمسح سلاحه بعد كل معركة.

تمنح مقاومها القوة قبل أن يخرج إلى التدريب، ومن ثم إلى المعركة تعلمه أن الجهاد الذي يحبه الله (تعالى) هو الجهاد في سبيله كما قال في كتابه العزيز: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 244].

و"أم أسامة" خنساء غزة علمت جيدا معنى الجهاد في سبيل الله(تعالى) فقدمت خمسة من أبنائها شهداء ربتهم على الجهاد فكانت لأسمائهم نصيب من ذلك فشهيدها الأول اسمه أسامة تيمنا بأسامة بن زيد، أما شهيدها الثاني حمزة تيمنا بحمزة عبدالمطلب، أما شهيدها الثالث فكان أحمد تيمنا باسم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقد استشهدوا مع شقيقتهم جراء قصف منازلهم على رؤوسهم فلم يتبق لهم جثمان للوداع.

فلم تستطع والدتهم أن تلقي عليهم نظرة أخيرة تقبل فيها جباههم الطاهرة، أما شهيدها الخامس الذي استشهد بعد إخوته بأيام من الجهاد، عبادة فكان اسمه تيمنا بعبادة بن الصامت، حيث كانت تسير بخطوات متسارعة وقد ارتسمت على ملامحها الرضا حتى تلتحق بوداع نجلها قبل دفنه فكان الوحيد الذي تواجد جثمانه.

لا عجبا لصمودها فقد علمتهم منذ نعومة أناملها على الجهاد في سبيل الله (تعالى) فهي تدرك خطواتهم وتحثهم عليها فالإيمان في قلبها كبير جدا؛ لأنها تدرك دورها المهم في المعركة فالأمر الذي زادها صبرا وثباتا في البقاء على أرض غزة.

هي تيقن أن الله (تعالى) مع غزة وأهلها، وأن هذه المعركة بين الحق والباطل، وإن استشهدوا أبنائها قبل استرجاع الحق فأحفادها يسيرون على نفس النهج.

نزوح وصمود

لم تكن معركة واحدة تخوضها نساء غزة؛ بل كانت معارك متزاحمة ورغم ذلك لم تنال من عزيمتها وإن كانت تحملت بها الكثير من الوجع والمعاناة.

معركة هجوم جنود الاحتلال على البيوت واعتقال الرجال؛ واجبار النساء والأطفال للنزوح القسري من غزة إلى مناطق الجنوب من أجل تحقيق هدف إخلاء غزة والسيطرة عليها، وبالأدق من أجل كشف ظهر المقاومة ويكون الاستهداف لهم أسهل وأكثر وضوحا.

فخاضت المرأة في غزة معركة النزوح، وهي لاتعلم شيء عن مصير زوجها وأبنائها الشباب، لتسير بخطوات مثقلة متعبة نحو الجنوب داخل خيمة تفتقد لأبسط مقومات الحياة.

ومع ذلك صمدت حاولت جاهدت، استمرت بالعطاء، لتحتفظ على بقاء وجودها في المعركة، رغم استهداف صواريخ الاحتلال لخيمتها وارتقاء أطفالها.

وقد ارتقت كذلك ابنتها وعائلتها في شمال غزة ولم تستطع أن تودع ابنتها بعد أن حرمت من رؤيتها لعام، ومع ذلك بقيت صامدة؛بل تثبت أمهات الشهداء وتقوي من عزيمتهن وتذكرهم بمكانة الشهيد وأجر الصبر كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة : 153-156]

الاعتقال لم يقتصر على الرجال فكان للنساء نصيب من ذلك القهر والظلم حيث كبلت ووضعت في معتقلات لاتصلح للحياة، حرمت من الطعام والماء، حرمت من الحصول على دواء مرضها المزمن، هجمت على أجسادهن الكلاب البوليسية، منع عنها الحصول على أبسط حقوقها باحتياجاتها الصحية، الأمر الذي جعلها تنزف على جسدها دما بدون أي مراعاة بأنها امرأة.

معركة التجويع

كانت المعارك كثيرة على كاهلها فلم تكن معركة واحدة فقد نالت منها مرارا معركة التجويع المتعمدة من قبل الاحتلال للضغط عليها من أجل النزوح حيث نفد الطحين والطعام ، الأمر الذي أدى إلى نزول مؤشرات الأوزان بشكل واضح، ومع ذلك لازالت صامدة فلولا صمودها وثباتها لعام؛ بل أعوام فغزة تعاني من الاحتلال والحصار وحروب سبقت "طوفان الأقصى"، لهزمت غزة.

غزة انتصرت

رغم مرور عام من التجويع والقصف والدمار والحرمان والاستشهاد إلا أن غزة لازالت صامدة ثابته راسخة أكثر بكثير من رسوخ الجبال الراسيات.

ولازالت مقاومتها تدك حصون الاحتلال، لازالت تلقي ضربات موجعة للاحتلال، الأمر الذي يؤكد أن غزة انتصرت ليس بعد عام من الحرب؛ بل سبق ذلك بكثير منذ اليوم الأول من معركة "طوفان الأقصى" فالسابع من أكتوبر سيكون شاهدا على نصرا غير عاديا استطعت فيه المقاومة أن تمرغ أنف الاحتلال في الأرض وتكسر شوكته وهزمت مقولته المزعومة"الجيش الذي لايقهر" فقد قهرته المقاومة التي أنجبتها أرحام نساء غزة الطاهرات.

 الصمود والنصر

كثير ما يدور في أذهان العالم كيف لغزة أن تصمد أمام الاحتلال الذي ينفق المليارات على جيشه وأسلحته ؟!!

من الصعب لأي محلل سياسي أن يحلل الوضع القائم في غزة، من الصعب لأي إنسان في العالم أن يفهم ماذا تعني غزة فأهلها أعلم بها، لكن سأبوح للعالم ببعض أسرار هذا الصمود.

حقيقة أن غزة في معية الله (تعالى) فالمشاهد على أرض الواقع يتيقن بذلك حيث جاء في كتابه العزيز:{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح : 7]، الله (عزوجل) له جنود في السماوات والأرض يؤيد بها عباده المؤمنين، وهذا الأمر واضحا في غزة.

هذه المعية جعلت نساء غزة أكثر صمودا ورسوخا وقوة في دفاعها عن عقيدتها وإسلامها ووطنها فهي امرأة واعية تدرك مهمتها لنصر إسلامها العظيم.

هي تدرك أن معركتها مع الاحتلال ليس من أجل وطن وطين فحسب؛ بل عقيدة ودين.

وتيقن أن الله معها وسيعينها على هذا الثبات حيث جاء في كتابه العزيز:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال : 12].

هذا جعلها تختار خطواتها بعناية ليس منذ بداية تربيتها لأبنائها؛ بل سبق ذلك في قبولها بزواج رجل مقاوم، وهنا المقاومة لا تقتصر على حمل السلاح فحسب؛ بل في كافة الميادين التي يحتاج له الوطن.

منذ طفولة أبنائها المبكرة علمتهم على موائد القرآن، علمتهم آيات الجهاد، وعلمتهم أن هذا الدين عظيم يستحق أن نقدم له كل غالي، علمتهم الشجاعة والقوة.

هي تيقن أنها دورها أساسي في كل معركة مع الاحتلال، فهي لا تسمح لنفسها أن تكون في الاحتياط، وغير مقبول لدى قناعتها الراسخة التخلي عن ذلك فإن تخلت عن دينها فسوف يستبدلها الله(تعالى) فهي تذكر نفسها بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة : 54].

تدرك أن الحمل ثقيل، لكنها تيقن أن الله(سبحانه وتعالى) وعدها بالنصر والثبات حيث جاء في قوله (تعالى):{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7].

وسوم: العدد 1096