على الأمة الإسلامية أن تتدارك أمرها بتنزيل مشروع إصلاح شامل لأحوالها مرجعيته إسلامية دون شوائب وهي تمر بمرحلة تاريخية في منتهى الحساسية والخطورة

لا يختلف اثنان ، ولا يتناطح كبشان أو عنزان في كون الأمة الإسلامية اليوم تعيش أسوأ حال بعدما ابتليت في القرنين التاسع عشر والعشرين باحتلال غربي بغيض ،أعقبه  غزو تغريب ممنهج على جميع الأصعدة، وفي كل المجالات، خصوصا الحساسة منها كالمجال الفكري والتربوي اللذين صارا مطيتين ذلولتين لتمرير ذلك التغريب الهدام  بكل دهاء وخبث ومكر ، وذلك في غفلة من سواد أفراد الأمة   ، واستخدام وتوظيف المنبهرين به من أبنائها الشُرَّدِ كالقوَّاص من الأغنام فرائس الذئاب الشرسة، وذلك لنقعه سما  في الأمة عبر مصل كالذي ينقع فيه الدواء دون أدنى شعور أو إحساس منهم فأذعنوا للتغريب منبهرين  وراضين به بديلا عما أراد الله تعالى لأمتهم  من خيرية وشهود على البشرية وقيادتها إلى بر الأمان بفضل ما خصها به من  نعمة خاتمة الرسالات التي ضمنها سبل وأسباب الحياة  الكريمة الطيبة.

ولقد اختار الغرب المحتل بالأمس بديلا عن غزوه العسكري لبلاد الأمة الإسلامية بعد رحيله عنها غزوا فكريا وإيديولوجيا هو أخطر عليها من الغزو العسكري ،خصوصا وأن هذا الأخير أمكنت مقاومته ومواجهته بالسلاح ، بينما الأول  لم تأبه به الأمة وقد موّه عليه بشعارات رنانة مغرية من قبيل  شعار التحديث، ومواكبة الركب الحضاري المعاصر ، و القيم الكونية  ...والنهج الديمقراطي ، والانفتاح ، و مطلق الحريات فكرا، ورأيا ، وتعبيرا ... وهلم جرا.

 و هكذا اختلط على الأمة  الإسلامية أمر تطور الغرب ماديا  تكنولوجيا بأمر توجهه الفكري والفلسفي والإيديولوجي، الذي خليط من تراثه الديني الكنسي وتوجهه العلماني اللائكي  الذي تمخض عن صراع  بين الكنيسة وبين الفكر الفلسفات اللادينة  التي صاحبت التطور المادي والتكنولوجي . ولقد وقر في عقول المنبهرين من أبناء الأمة الإسلامية ، وهم من طليعتها  المحسوبة على الفكر والثقافة  أنه لا سبيل إلى بلوغ شأو  الغرب ماديا وتنكولوجيا إلا بتبني نهجه الفكري والإيديولوجي ،والعض عليه بالنواجذ ، وهي النخبة التي  أغرت عموم الأمة المسلمة دون أن تنتبه هذه الأخيرة إلى فخ الغزو الفكري والإيديولوجي الغربي الذي نصب لها وحل بديلا عن  الغزو العسكري لبلادها خلال القرنين الماضيين . ولقد كان الغرب سخيا كل السخاء في تصدير فكره وإيديولوجيته  إلى العالم الإسلامي  مقابل  شحه في تصير علومه المادية وتكنولوجيته التي استأثر بها وحده كي يظل العالم الإسلامي مجرد مستهلك لما ينتجه ، ومع شديد الأسف لا زال  فريق من النخبة المثقفة من أبناء الأمة المسلمة يؤمن إيمانا راسخا بأن بلوغ شأو تطور الغرب تكنولوجيا لا بد أن يكون  الطريق إليه أو وسيلته  هو اعتماد الفكر والإيديولوجا الغربية المؤطرين للحياة العلمانية . وهذا الفريق عبارة عن نوعين، نوع يمكن وصفه بالطابور الخامس المسخر من طرف الغرب  لتسويق الغزو الفكري في بلاد افسلام  ، ونوع يمكن تبرئته من  تهمة " الطابورية  الخامسة " ، ولكنه مع السف  يخدم  الطرح الغربي سواء وعى بذلك أم لم يعه .

ومع هذا الوضع الذي تمر به الأمة المسلمة ، والذي يمكن وصفه بالكارثي، لا مندوحة لها عن التفكير الجاد والمسؤول في مواجهة الغزو الفكري الغربي  الذي هددها ولا زال يهددها كما واجهت غزوه العسكري في القرنين التاسع عشر والعشرين ، وذلك بما تقتضيه المواجهة من ذكاء ،وخبرة ،وبصيرة ،وبعد نظر، وهي مواجهة  لا بد أن تعتمد على تبني إصلاح المجال  الفكري ، والعلمي ، والتربوي .

 أما المجال الفكري، فإصلاحه  يقتضي الصلح مع المرجعية الإسلامية ، والقطيعة مع المرجعية العلمانية اللائكية إذ لا مبرر لاسترادهما ولمّا يعرف عالمنا الإسلامي الصراع الذي عرفه الغرب بين الكنسيين واللادينين .

وأما المجال العلمي، فإصلاحه يقتضي التحرر من عقدة عقلية استهلاك ما يخترعه الغرب، والانطلاق نحو  اقتحام مجال الاختراع .

وأما المجال التربوي، فإصلاحه يقتضي الفصل بين ما هو إيديولوجي وافد من الغرب ، وما هو تكنولوجي وعلمي صرف ، وذلك من أجل  تنقية المناهج والبرامج الدراسية مما ينفث فيها من سموم لتكون تنشئة الناشئة المتعلمة على الصلح مع قيمها الإسلامية كبديل عن القيم الغربية العلمانية  الغازية ، مع تربيتها على  تجاوز عقدة  الشعور بصعوبة اللحاق تكنولوجيا وعلميا بالغرب . ولا بد أن تحصل القناعة التامة لهذه الناشئة بضرورة التمييز بين الوافد الإيديولوجي من الغرب ، والوافد التكنولوجي والعلمي الصرف ، وهي قتاعة  يجب أن تترسخ لديها من أجل التخلص من عقدة تفوقه ، وبذلك  يتم التحرر من التبعية له فكريا وإيديولوجيا وقيميا . ولعل في اعتماد تعاليم ديننا الحنيف ما يوفر لواضعي مناهجنا وبرامجنا  الدراسية الأرضية الصلبة من أجل انطلاق موفق  نحو إصلاح  حقيقي للمجال التربوي  مضمون النتائج بإذن الله عز وجل . ولا بد  أيضا من إعادة الاعتبار لكبار مصلحي الأمة الربانيين الذين يمثلون النبراس الذي تهتدي به الأمة في حركة تحررها من الغزو الفكري الغربي ، تماما كما كانوا نبراسها خلال فترة مواجهة غزوه العسكري في القرنين  الماضيين ،علما بأن لكل عصر من يحملون فيه  راية الإصلاح ، وأن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد للأمة المسلمة أمر دينها ،  وفي تجديده علو شأنها بين الأمم . ولعلها لم تسنح لها فرصة كهذه التي سنحت لها اليوم كي تنهض  من كبوتها ، وتتخلص من التبعية الفكرية والإيديولوجية للغرب  بعدما  سقط القناع  عن زيف حضارته وزيف قيمه  ، كما كشف النقاب عن تهافت شعاراته الجوفاء التي طالما تغتى وفاخر بها ، وذلك عندما اختار صناع القرار فيه الوقوف المخزي مع الكيان الصهيوني العنصري، وهو يقترف جرائم الإبادة الجماعية البشعة في حق الشعب الفلسطيني الأعزل ،الشيء الذي جعل شعوبه نفسها تدينهم  من خلال تنظيم  مسيرات مليونية جعلتهم  في حالة تناقض صارخ   أو شرود فاضح  مع ما يدعونه من قيم كونية على حد زعمهم   ، وهم يفاخرون بها ، وأنى لهذه القيم أن تكون كونية وهي تقر جرائم الإبادة الجماعية الوحشية ، وتحمي المجرمين الذين يرتكبونها من العقاب ؟

وأخيرا نقول حسب هذه القيم  الزائفة ترديا، وانحدارا إلى أسفل درك أن تدين نخب الطليعة الأكاديمية والمثقفة في الجامعات والمعاهد الغربية مساندة  حكامهم وانحيازهم للعرقية الصهيونية الدموية ، ولسان حالها ومقالها كفى ثقة عمياء بارتزاق وتذرع الصهيونية بما تسميه معاداة السامية ، وقد تحولت هذه السامية الشاكية المتباكية إلى ما هو أبشع من النازية  ؟

و آخرا نأمل أن تقود تلك الطليعة شعوبها في الاتجاه  الصحيح من أجل قيم حضارية بالمعنى الصحيح ،والتي من شأنها أن تكون عبارة عن قطيعة مع قيم ما  بعد  فترة الحربين العالميتين التي لا زالت مصدر تهديد خطير للبشرية بأسرها . 

وسوم: العدد 1122