ترامب في «يوم التحرير»: لِمَ لا يستأجر الإنسانية جمعاء؟

صبحي حديدي

الكاتبة والمعلّقة الأمريكية المخضرمة برباره إلليس تعاملت مع تلميحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حول ضمّ المكسيك وكندا وغرينلاند وبناما تحت سيادة الولايات المتحدة، فتقدمت باقتراح طريف، لا يخلو من سخرية لاذعة واستهزاء صريح: لِمَ لا يعمد البيت الأبيض إلى استئجار هذه الأصقاع، حيث يمكن لملايين الدولارات أن تستدرج الأغلبية الكاسحة من مواطني تلك البلدان، الرافضين للولاية الأمريكية؟

وكي لا يبقى الاقتراح معلقاً في سقف المزاح والهزء، تسوق إلليس الأرقام التالية: العجز المالي الحكومي في كندا يُنتظَر أن يتجاوز 60 مليار دولار كندي، خلال السنة 2024ـ2025، ورفع الإعانة السنوية التي تمنحها الدانمرك إلى غرينلاند سوف يتطلب، من الجزيرة، تأمين 564 مليون دولار أمريكي، ونفقات الاستئجار يمكن أن يغطيها دافع الضرائب الأمريكي عن طريق ميزانية البنتاغون (833 مليار دولار) والخارجية الأمريكية (إلغاء برنامج المساعدات الأمريكية يجلب وفراً بقيمة 2,22 مليار) وهكذا دواليك…

في المقابل فإنّ مطامع ترامب في غرينلاند ليست خافية، وهي مجزية تماماً لأنّ أرض الجزيرة تحتوي من الثروات الكثير المتنوع: فحم ونفط وغاز وحديد وذهب وفضة ونحاس ورصاص وزنك وغرافيت وكريوليت، إضافة إلى اليورانيوم والثوريوم والمعادن النادرة على غرار الإتريوم والسكانديوم والنيوديميوم والديسبروسيوم… ولأنّ الرئيس الأمريكي لم «يرفع عن الطاولة» خيار استخدام القوّة العسكرية، فإنّ ملايين الدولارات يمكن أن تقوم مقام القنابل الثقيلة زنة 2000 رطل، حتى إذا كان اقتداء ترامب بسلفه الرئيس الأمريكي الـ25 وليام ماكنلي، الجمهوري ذي الهوس الاستعماري وصاحب المغامرات التوسعية الدامية في بورتو ريكو والفلببين وهاواي، لا يقلّ حماقة وتهوراً وعربدة.

وأمّا إذا شاء المرء النأي قليلاً عن طرافة مقترحات إلليس، التي لا تغيب عنها روحية النقد اللاذع للتذكير مجدداً، فإنّ علاقة الولايات المتحدة بالعالم خارج النطاق اليانكي، وفي مستوى أنشطة الأجهزة الاستخبارية والعسكرية تحديداً، وتحت ستار «الأمن القومي» الشهير، حافل بالأرزاء والويلات والجرائم والعواقب: هذا بلد يزعم أنه رائد «العالم الحرّ»، لكنه شارك في إسقاط أنظمة ديمقراطية أو إصلاحية منتخبة شعبياً، في غواتيمالا، غويانا، الدومينيكان، البرازيل، تشيلي، الأرجنتين، اليونان، أندونيسيا، بوليفيا، وهاييتي. الأجهزة ذاتها كانت وراء، أو هي الصانعة الفعلية لسلسلة من مؤامرات خفية، وظّفت مرتزقة وعملاء وطوابير خامسة ضدّ حكومات شرعية في كوبا، أنغولا، الموزامبيق، إثيوبيا، كمبوديا، تيمور الشرقية، الصحراء الغربية، مصر، لبنان، البيرو، زائير، جنوب اليمن (سابقاً) وجزر فيجي. ومنذ الحرب العالمية الثانية، قامت الولايات المتحدة بشنّ هجمات أرضية أو جوية ضد فيتنام، لاوس، كمبوديا، لبنان، غرينادا، باناما، ليبيا، العراق، الصومال، وسوريا.

قبل ترامب واضرابه، منذ مطلع القرن المنصرم، كان الرئيس الأمريكي الـ28 وودرو ولسون قد اعترف بالدور الداعم الذي يتوجب على جهاز الدولة الرأسمالية أن يلعبه بالنيابة عن الرساميل الوطنية، ثمّ الكونية قاطبة، فقال: «لأنّ التجارة تضرب صفحاً عن الحدود، والصناعيّ يلحّ على امتلاك العالم بأسره سوقاً له، فإنّ من الواجب على عَلَم بلاده أن يرفرف خلف ظهره. ويجب على جيش الأمة أن يقاتل لكي تنفتح الأبواب الموصدة أمام التجارة والصناعة. وينبغي على أجهزة الدولة حماية التنازلات التي يتوصل إليها التاجر والصانع، حتى إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم في هذه السيرورة. ويجب الحصول على المستعمرات أو إقامتها إذا لم تكن موجودة، بهدف استثمار وتوظيف كل زاوية من جهات الكون».

مطامع ترامب في غرينلاند ليست خافية، وهي مجزية تماماً لأنّ أرض الجزيرة تحتوي من الثروات الكثير المتنوع: فحم ونفط وغاز وحديد وذهب وفضة ونحاس ورصاص وزنك وغرافيت وكريوليت، إضافة إلى اليورانيوم…

وفي تأويل أوسع نطاقاً للمقاربة الإجمالية ذاتها، لعلّ المرء لا يملّ من اقتباس دافيد روثكوف، الاقتصادي والمنظّر والموظّف في إدارة بيل كلنتون والمدير الإداري الأسبق لمؤسسة «كيسنجر وشركاه»، في دراسة صريحة/ وقحة تقول، من دون تأتأة أو استحياء، إنّ ثقافات العالم بأسره لم تستطع، ولن تستطيع، مقاومة غزو أمريكي «شرعي»، لا يتمّ بوسيلة الأساطيل والقاذفات والصواريخ وحدها، بل عن طريق الهيمنة التكنولوجية التي تلوي ذراع العولمة بالشدّة التي تقتضيها تلبية المصالح الأمريكية. ذلك لأنّ الثقافات العالمية غير الأمريكية في حال تشبه بلاهة الملك كانوت (أحد زعماء الفايكنغ في القرون الوسطى) الذي نصب عرشه أمام البحر وأمر الأمواج بالانحسار.

تأسيساً على ذلك المبدأ، تابع روثكوف: «ينبغي ألا يعفّ الأمريكيون عن القيام بما هو في صلب مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، التي ليست في نهاية الأمر سوى مصالح العالم على اختلاف جغرافياته وثقافاته. وينبغي على الولايات المتحدة ألا تتردد برهة واحدة في تعميم قيمها وأخلاقياتها، وينبغي على الأمريكيين ألا ينسوا لحظة واحدة أنّ ثقافتهم، وحدها من دون ثقافات جميع الأمم على امتداد تاريخ العالم، هي الأكثر عدلاً، والأكثر تسامحاً، والأكثر استعداداً لإعادة تقييم وإعادة تطوير عناصرها، والنموذج الأفضل من أجل مستقبل الإنسانية».

وضمن هذه السياقات، التي لا تتقادم إلا كي تستجدّ على أكثر من نحو اجتراري، ليست مطامح ترامب في عوالم هنا وهناك خارج الجغرافيا الأمريكية، ومثلها ما أعلنه في «يوم التحرير» حول فرض رسوم جمركية على واردات أمريكا من «دول العالم أجمع» عملياً، ها نحن، من جديد، أمام اهتزاز المشهد الغربي برّمته، خصوصاً في تلك الرؤية التي نهضت، وتزعم مواصلة النهوض، على ثلاثة أقانيم جوهرية: الرأسمالية واقتصاد السوق، وحقوق الإنسان كما تقترن وجوباً بالشكل الغربي ـ الأمريكي من الديمقراطية العلمانية، وإطار الأمّة ـ الدولة كصيغة هوية معتمدة في العلاقات الدولية. هي ذاتها الأقانيم التي ظلّت ترتدي هيئة مختلفة تماماً كلّما تعلّق الأمر بمجتمعات وثقافات العالم غير الغربي، الأمر الذي ظلّ يفتح باب الاجتهاد حول تصارع حضاري ـ ديني، على طريقة صمويل هنتنغتون، أو توتّر هيلليني ـ آسيوي، على طريقة برنارد لويس، أو ولادة الأيديولوجية التالية، على طريقة غراهام فوللر في كتابه الشهير «مصيدة الديمقراطية: أخطار العالم ما بعد الحرب الباردة».

لا يعدم المرء، مع ذلك وسواه كثير، أن يرتفع صوت سياسي حكيم، شيخ ومخضرم بدوره، من طراز السناتور برني ساندرز، يرجّح أنّ جملة حركات ترامب، الجدية منها والهزلية، لا تهدف فقط إلى توطيد «إيديولوجيا الكراهية اليمينية» التي يعتنقها، ولا إلى مسعى شقّ الصفوف في الداخل الأمريكي، بل هي أكثر من ذلك: «جهد متقن لتشتيت الانتباه بعيداً عن المسائل الأشدّ أهمية التي يواجهها الشعب في بلدنا ولا يرغب ترامب والمليارديرات من حوله في معالجتها لأنها ليست ضمن مصالحهم». وأياً كانت أهلية هذه الفرضية الكلاسيكية في الشرط الراهن لسياسات ترامب الداخلية والكونية، فإنّ إطار اشتغالها يصعب أن ينحصر عند ترامب وحده، وبالتالي في أمريكا دون سواها، بمعزل عن مآزق العالم الرأسمالي المعاصر، بأسره في الواقع، سياسة واقتصاداً وتجارة وتكنولوجيا وعسكرة وهيمنة وتوسّع…

وذاك عالم بات على مبعدة ملموسة، بعض فضاءاتها صارخة فاضحة وفاقعة، من تلك المناخات الوردية التي سادت العالم الرأسمالي بعد سقوط جدار برلين، حين تلهّف منظّرو اقتصاد السوق والنيو ــ ليبرالية على التبشير بأنّ القرن الواحد والعشرين سوف يكون أوّل قرون الرأسمالية الصافية الصرفة، بالنظر إلى أنّ القرن العشرين خالطته شوائب مثل الشيوعية والنازية والفاشية والأصولية. وبعض مسافات التباعد ترسمها اليوم حروب الرسوم الجمركية، وهوس ردّ أمريكا إلى حلم العظمة المفتقَد/ الضائع، و… أضغاث استئجار هذا العالم الواسع الفسيح، لِمَ لا!

وسوم: العدد 1122