أمريكا والتوتر التركي ـ الإسرائيلي: قواعد اللعب في سوريا الجديدة

صبحي حديدي

أياً كانت تأويلات قرار الخارجية الأمريكية تخفيض تصنيف العاملين في البعثة السورية إلى الأمم المتحدة، تقتضي الحدود الدنيا من المنطق السليم، القانوني والدبلوماسي والسياسي، الإقرار بأنها مظهر ملموس آخر لحال من النواس والتأرجح والتلوّن، غير البعيد أيضاً عن بعض التخبط، في الموقف الرسمي للبيت الأبيض إزاء سوريا الجديدة ما بعد انهيار نظام «الحركة التصحيحية»؛ بصفة إجمالية بادئ ذي بدء، وليس إزاء الإدارة الانتقالية والرئيس الانتقالي تحديداً أو حتى حصرياً.

وتلك حال كانت قد سادت خلال الأيام الأخيرة من إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، حتى إذا كان الزمن القصير للغاية بين 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 وموعد تنصيب الرئيس الجديد دونالد ترامب لم يُسعف رجالات البيت الأبيض والمستشارين والخبراء؛ مثلما لم يكن معيناً، أو بالأحرى كان معيقاً، ذلك المعطى الذي سجّل هيمنة «هيئة تحرير الشام» على مشهد انطواء صفحة آل الأسد. وهذا في سياقات انتصار سريع ومباغت وخارج عن كثير من الحسابات الباردة التي اعتادت أجهزة الرئاسة الأمريكية على تسخيرها وتوظيفها قبيل اتخاذ خطّ معتمد، في الحدود الدنيا المطلوبة أو المرحلية أو العاجلة، هنا أيضاً.

وإذا صحّ أنّ ترامب قد عوّد الناس على كلام يبدو أقرب إلى الجزاف، في قضايا بالغة الحساسية (على شاكلة مشروع «ريفييرا غزّة» التائه اليوم بين النكتة السمجة والتطهير العرقي وجريمة الحرب المعلنة)؛ فإنّ أقواله حول سوريا من زاوية التوتر التركي ــ الإسرائيلي المحتمل، تقتضي بدورها جرعة إقرار غير ضئيلة بأنّ الجزاف ليس السيّد السائد هنا. خاصة وأنّ رئيس القوّة الكونية الأعظم كان يتحدث في المكتب البيضاوي، وعلى يساره جلس رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو المستدعى إلى واشنطن على عجل، وعلى غير العادة.

وللمرء أن يبدأ من تفصيل صغير هو أنّ الصحافية الإسرائيلية ليزا روسوفسكي، من «هآرتز»، كانت هي المبادرة إلى طرح السؤال عن «مزاعم» تركيا بصدد إشاعة الاستقرار في سوريا، وما إذا كان ترامب يعتقد أنّ «تأثير تركيا في سوريا يمكن بالفعل أن يجعل البلد أفضل، أكثر ميلاً إلى السلام أم العكس؟». وهذا تفصيل ليس منعدم المغزى، لأنه أوّلاً يعكس الهواجس الإسرائيلية الجدّية إزاء احتمالات تمكين تركيا في سوريا، عسكرياً أوّلاً؛ كما يكتسب فحوى خاصة حين يصدر عن ممثلة لصحيفة ليست متعاطفة عموماً مع حكومة نتنياهو وسياساته، وسط رهط صحافي ضيّق العدد ومنتقى بعناية.

هل تطلّب السؤال كلّ ذلك الإسهاب في إجابات ترامب، سواء لجهة: 1) الإعراب عن الودّ الشخصي الذي يجمعه مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان؛ و2) إغداق صفات حميدة على الأخير، الذي «فعل شيئاً لم يكن أحد قادراً عليه»؛ و3) تهنئة الرئيس التركي على «تولّي» سوريا، بما «لم يستطع أحد القيام به على مدى 2000 سنة»؛ و4) عرض الوساطة الأمريكية، فهذه «لن تكون مشكلة»، ما دام «بيبي» سيلتزم حدود المعقول…؟

ليس تماماً، إلا في سياق أوّل يفيد بأنّ ترامب تعمد استثمار الجلسة، أو بالأحرى اختتام سلسلة من المقايضات الأمريكية ــ الإسرائيلية حول إيران وقطاع غزّة والرسوم الجمركية، بهذه النقلة المفاجئة نحو سوريا (وليس العلاقات التركية ــ الإسرائيلية فقط). وهذه بدت متضافرة مع مفاجأة أخرى عنوانها اعتزام البيت الأبيض إجراء مباحثات مباشرة مع طهران، على نقيض مطامح نتنياهو إلى ضربات أمريكية ــ إسرائيلية مشتركة تستهدف المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية.

علاقات أنقرة مع موسكو لم تكن، في غابة تعقيدات الملفّ السوري، زواجاً كاثوليكياً جامداً، وكانت استطراداً نتاج توازن محسوب لسلسلة مصالح متطابقة تارة أو متناقضة تارة أخرى

وسؤال الصحافية الإسرائيلية لم يتطلب ذلك الإسهاب إلا في سياقٍ ثان يُرجّح أنّ ترامب تلقى مقداراً تمهيدياً من الإحاطات الجيو ــ سياسية والأمنية، حول وجوب استخلاص مقاربة للشأن السوري لا تراجع عطالة الموقف خلال ولاية ترامب الأولى وخَلَفه بايدن والولاية الثانية الراهنة، فحسب؛ بل ترتدّ، أيضاً، إلى ما تبقى من عثرات «عقيدة أوباما» حول الشطر السوري من مشهدية الربيع العربي عموماً. وغير مستبعَد أن تفضي بعض مداخل تلك المقاربة إلى البوابات التركية، حيث لا يغفل النابهون في البيت الأبيض عن حقائق نجاح أنقرة في إقامة توازنات ناجحة، ورابحة، في الملفّ السوري طوال عقد من الزمان على الأقلّ؛ وسط تقاطع نيران ومصالح إيرانية وروسية وإسرائيلية، على خلفية مساندة المعارضة السورية المسلحة، وإدارة الحروب مع الـPKK.

وإذا كانت قد انحسرت عناصرُ حضور عسكري وسياسي واستثماري وعقائدي وميليشياتي للاحتلالًين الإيراني والروسي في سوريا، بعد انهيار نظام الأسد ومتغيرات حرب الإبادة في قطاع غزّة والغزو الروسي في أوكرانيا؛ فإنّ الاحتلالات الإسرائيلية والتركية والأمريكية قائمة وتتمدد، على غرار التوغل الإسرائيلي في الجولان وحوران وقصف المطارات ومحيط العاصمة دمشق ذاته. في قراءة أخرى لأقوال ترامب، تأخذ بعين الاعتبار بعض مفاعيل بقاء هذه الاحتلالات أو كلّها، فإنّ وساطة ترامب المقترحة لا تغيب عنها مطالب محاصصة ضمنية على مناطق النفوذ؛ ما دام اردوغان و«بيبي» في عداد أحباب الرئيس الأمريكي، وبقاء الـ900 جندي أمريكي في سوريا مسألة أخذ وردّ.

وحتى الساعة، ورغم الإشارات السلبية أو الإيجابية، أو انعدامها على الوجهتين، فإنّ مقاربة أمريكية للشأن السوري في مجمل ملفاته الشائكة تبتعد، بثبات ملحوظ، عن رؤى تولسي غابارد مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية صاحبة التعاطف الشهير مع نظام الأسد الابن، وهذه نقلة يتوجب أن تكون حاسمة. الأرجح أيضاً أنّ أصدقاء البيت الأبيض من الأنظمة العربية التي رحّبت بسلطات الأمر الواقع في سوريا الجديدة، كلٌّ على طريقته، في السعودية ومصر والأردن والكويت خصوصاً؛ سوف يتولون أيضاً إقناع ترامب (خدمة لمصالح إقليمية مشتركة، غنيّ عن القول) بتعديل نظرة تقليدية جامدة تجاه الرئيس الانتقالي السوري، انتهجها عدد من مسؤولي إدارة ترامب. وتلك انحصرت عملياً في سردية مزدوجة، قاصرة مبدئياً عن ملاقاة الـRealpolitik في اشتراطاته الدنيا: أنه سليل «القاعدة» و«الإرهاب»، وأنه لا يسيطر على كامل الأراضي السورية.

مرجّح، ثالثاً، أنّ زيارة الشرع المقبلة إلى تركيا، والتي لا يلوح أنّ مصادفة عشوائية كانت وراء اقترانها بزيارة إلى دولة الإمارات، سوف تكشف مسارات أكثر وضوحاً لعلاقات سوريا الجديدة مع تركيا، القوّة الإقليمية والأطلسية الأبرز في المنطقة اليوم، وليس مع تركيا اردوغان الراهنة فقط، من جهة أولى. ثمّ لتلك العلاقات كما تنعكس، وسوف تواصل الانعكاس، على القوّة الإقليمية العظمى الموازية، دولة الاحتلال الإسرائيلي، من جهة ثانية يتوجب هذه المرّة أن تختلف قواعد اللعب فيها عن عربدة نتنياهو في المنطقة منذ 15 سنة.

والسادة في البيت الأبيض تحت إدارة ترامب يدركون، كما هي حال بسطاء العقول وجهابذته على حدّ سواء، أنّ علاقات أنقرة مع موسكو لم تكن، في غابة تعقيدات الملفّ السوري، زواجاً كاثوليكياً جامداً، وكانت استطراداً نتاج توازن محسوب لسلسلة مصالح متطابقة تارة أو متناقضة تارة أخرى؛ بحيث أتاح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ينتقل، ذات يوم غير بعيد، من دمشق إلى اسطنبول مباشرة، لتدشين خط أنابيب غاز روسي. ومنتظَر أيضاً أنهم يتذكرون سلامَ محاصصة تركياً ــ روسياً تأسس بعد خصام شديد أعقب إسقاط طائرة السوخوي 24 الروسية بنيران تركية خريف 2015.

ولعلّ الوقت لن يطول قبل أن يتكشف هذا الاشتباك الظاهر عن خلاصات تُكمل مفاجآت ترامب، على نحو أو آخر؛ عملاً أيضاً بحكمة الإمام الشافعي، عن ليالٍ من الزمان حبالى، مثقلات يلدن كل عجيبة!

وسوم: العدد 1123