مبيض الفرايغ
عقدتي من مهنة "مبيض الفرايغ"
نشأت في عصر الأواني النحاسية. كانت القدور والأواني والأطباق والملاعق، وفي حلب نقول "المعالق" وربما كان لها وجه، كلها نحاسية. وكان أهل حلب يتواصون بالنحاس فيقولون تفاخرا "النحاس وبنات الناس"
وعندما افتقر المجتمع السوري نسبيا في العصر الذي أتحدث عنه، مال بعض الناس إلى استعمال آنية "الألمنيوم والجينكو" في غير حلب اسمع الناس يقولون شينكو..وهي أطباق من معدن خسيس تطلى بطبقة شبه زجاجية سريعة العطب، سريعا ما تتكسر..
ودخل مصطلح ألمنيوم وجينكو لغة التقويم الحلبية، فإذا أراد إنسان أن يلمز جانب إنسان نبذه بأنه
"ألمنيوم" أو "جينكو مطروق"..
يعني مثلا أو فرضا.. كل الكتّاب الذي قرأتموهم تتلاعب بهم الأهواء، ويميلون مع الريح حيث تميل، وأثبتوا أنهم عُمش يفقدون الرؤية قبيل الغروب يستحقون أن يصنفوا "بجينكو مطروَق حقو فرنكين وفي وقت المساء يطوف على الماء.."
وأعود إلى مهنة مبيض الفرايغ، والفرايغ تعني الآنية النحاسية. فقد اقتضى استعمال النحاس بحسب طبيعته الأصيلة، وتغلب الأكسجين عليه، أن يطلى بين الفينة والفينة بطبقة من القصدير، تحمي الآكلين فيه من تفاعلاته المتسارعة..
وعلى هذا فقد اقتضى هذا أن تكون في المجتمع حرفة، يتولى القائمون عليها أمر هذا العمل "طلي الآنية النحاسية بهذه الطبقة القصديرية" وهي مهنة كريمة شريفة، كانت منتشرة في فضاءاتنا الاجتماعية..بل كان بعض المزاولين لها يخرجون إلى القرى والساحات فينصبون ورشاتهم هناك ويعملون ليوم أو يومين حسب ما يقتضيه الحال.
في ساحة المشاطية في حلب المحلة التي نشأت فيها، كان عندنا مبيض فرايغ، كان اسمه "أبو نايف" ولعلمكم فإن أبا نايف هذا وهو رجل ضئيل صغير الحجم، كان من "الجتا" الذي دوخ الفرنسي أيام الاحتلال. وظلت التقارير تغدو وتروح إلى باريس تتحدث عن أفاعيل أبي نايف، ومما سمعت من أهل الحي أن الكومندان الفرنسي، لا أعرف دلالة هذه الرتبة، رفع أبا نايف بيد واحدة ، بعد اعتقاله، وقال لهم: هذا هو أبو نايف الذي كنتم تخوفوننا به!! انتهى.
كنت أرى المجاهد الذي دوخ الفرنسيين في جورة المبيض كما يقولون!! وهذه هي الدنيا أيها الناس.. المجاهد في الجورة والشببح على الحنطورة.
وأعود بكم…
في جورة المبيض كانت المهنة تقتضي استعمال نوع من الرمل أو الحصى الناعم، كان لونه يصير او يبدو أسود مربادا.. مع أنه مجرد رمل خشن الذرات…
كنت كلما مررت من أمام جورة أبي نايف مع والدتي رحمها الله تعالى تهددني: إذا لم تكن ناجحا في مدرستك فسأجعلك تشتغل في جورة المبيض..ومنذ ذلك اليوم عندي عقدة من المبيض والمبيضين..ومن مهنة ودور مبيضي الفرايغ على حساب الآخرين.
ولن أختم قبل أن أعتذر لكل الأسر والحمولات الكريمة التي تحمل عنوان المبيضين…
وأضيف.. وأظل أهل حلب يستعملون المصطلح بعناوين، يسأله لماذا يقول زهير هذا؟؟ مثلا فيجيبه: تبييض فرايغ..ثم انتقلوا فقالوا تمسيح جوخ، ثم صارت الأحوال أشد بؤسا فقالوا: تمسيح خاكي وبعضهم عرب الخاكي على الكاكي تظرفا…
وأعجبهم من إذا سمع رجلا يتمدح صاحب سلطة أو صاحب مال قال:
الغني غنولوا.. وب…. فلولوا !!
ما استطعت الوفاء بشرط الجاحظ..
يا زمان الوصل بالأندلس
وسوم: العدد 1123