دور النساء في ثورة 1936 ..
د. محمد عقل
لم يتصد حتى الآن أي باحث لدراسة دور المرأة الفلسطينية في ثورة 1936-1939، وما نجده عن هذا الموضوع لا يتعدى شذرات بين طيات الكتب والصحف والأرشيفات ومنها يبرز بجلاء أن دور المرأة العربية في المدن اقتصر على القيام بتظاهرات حاشدة، وبإرسال مذكرات الاحتجاج على السياسة التي تنتهجها سلطات الانتداب، وبجمع التبرعات لإغاثة المنكوبين والمتضررين من أعمال البطش الهمجية التي قامت بها القوات البريطانية في أرجاء فلسطين؛ بينما كان دور المرأة القروية في الريف أكثر فاعلية، إذ كانت تشارك في صنع أحداث الثورة ولولاها لما تمكنت هذه الثورة من الاستمرار، بالإضافة إلى تبرعها بحليها ونقودها من أجل إغاثة المنكوبين، وإذا كان شباب القرى ورجالها البسطاء هم لحمة الثورة فإن المرأة القروية كانت سداها، ورغم أنها لم تحظ بقسط من التعليم إلا أنها كانت تمتاز بحسٍ وطني مرهف. لقد وجدت نفسها في قلب الثورة وأتونها فتفاعلت معها، لذا نالها من المكاره ما يعجز القلم عن وصفه.
تظاهرات نسائية
في سنة 1936 قامت الطالبات في مدينة نابلس بتظاهرة جابت شوارع المدينة دعماً للإضراب العام، وفي القدس نظّمت جمعية السيدات العربيات عدداً من التظاهرات، وهكذا جرى في يافا حيث تمّ هناك جمع تبرعات للمنكوبين جراء أعمال البطش الهمجية التي قامت بها القوات البريطانية في القرى. ولعل أهم هذه التظاهرات كانت التظاهرتان اللتان قامت بهما النساء في حيفا وعكا في 24/5/1937 حيث قامت النساء في حيفا بالاعتصام أمام سرايا الحكومة حتى يتم إطلاق سراح المعتقلين المضربين عن الطعام في سجن المزرعة في عكا ما اضطر حاكم لواء حيفا إلى استقبال وفد عن المتظاهرات في مكتبه، كما تظاهر الشباب والنساء ووجهاء عكا وأرسلوا مذكرة احتجاج إلى المندوب السامي يطالبونه فيها بإطلاق سراح المعتقلين، وقد وعد المندوب في أعقاب ذلك بإطلاق سراح مئة من المعتقلين والنظر في أمر الآخرين.
إمداد الثوار بالطعام والماء
عندما كانت تنشب معركة بين الثوار والإنكليز كانت النساء القرويات يقمن بإمداد الثوار بالماء والطعام والذخيرة، وقد حدث ذلك في معركة وادي عاره الكبرى في 20/8/1936 وغيرها من المعارك، كما اعتدن أن يزغردن وينشدن الأغاني ليلهبن حماس الرجال، والعار كل العار لمن ينسحب من ساحة القتال، أو يتقاعس، وقد أثنى القائد فوزي القاوقجي على المرأة القروية حيث يقول: "كانت النساء في معركة بلعا ينجدننا بالماء والطعام ونقل العتاد ويثرن الشعور بالزغاريد الوطنية وأناشيد البطولة، وحين حاصرت قوات الإنكليز قوات الثورة كانت النساء تمدنا بكل ما نحتاج إليه وبتأثير تحميسهن انتصرنا". في أيام الثورة انتشرت بين النساء في منطقة وادي عاره هذه الأنشودة:
عَطَّاف عيني عَطَّاف إسبوعه يا رجال الخطاف
إسبوعه يا أهل عارا ما فيكم واحد بيخاف
عَطَّاف يا أم المنديل عَطَّاف عيني عَطَّاف
وغلبنا قوات الانجليز واحنا العراعره ما نخاف
اعتمد الثوار على نظام الفزعة وهو أن يقوم رجال من قرى مجاورة بمساعدة ثوار قرية في المعركة، وقد كانت النساء يلهبن حماس الفزعات القادمة من تلك القرى بالمهاهاة والزغاريد حيث غنت جدتي للفزعة القادمة من يعبد:
هذول أهل يعبد ومين يقدر يحاصركو
يا حاملين البارود والخناجر في خواصركو
سألت ربّ السما من فوق ينصركو
نصرة عزيزة وما يغلث خواطركو
ثوار بزي النساء
كان الثوار ينتمون إلى قرى مختلفة ويلبسون زياً خاصاً بهم ويتجولون بين القرى، لذا كان الإنكليز يضربون أطواقاً على هذه القرى للتفتيش عن الثوار، فإذا ما داهموا قرية لبس بعض الثوار زي النساء وجلسوا بينهن وبذلك كانوا يفلتون من أيدي الإنكليز. يبدو أن الإنكليز قد تنبهوا إلى ذلك فقد قاموا في سنة 1939 بإلقاء القبض على محمود أبو تتنة في قرية عاره وهو متنكر بزي امرأة ويحمل رضيعاً بين يديه وحوله جمهور من النساء اللواتي تصرفن بعصبية مما أثار الشكوك، وقد تبين فيما بعد أن الإنكليز هم الذين غرسوا الثائر الموهوم. في معظم الأحيان كان الثوار يرفضون لبس ثياب المرأة ويعتبرون ذلك جبناً فيسقطون شهداء كما حدث في معركة صفحة النجاص في عرعره.
نساء يحملن السلاح
في 27 أيلول عام 1936 حكمت المحكمة المركزية برئاسة المستر ايفانس منفرداً على السيدة صبحة الجلاد من طولكرم بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة حيازة بندقية، وسيقت إلى سجن النساء في بيت لحم وكان يدافع عنها المحامي عثمان البشناق. أجرى الباحث عبد العزيز أمين عرار مقابلة مع السيدة فاطمة خاصكية زوجة المناضل محمد أبو دية في طيرة بني صعب فقال عنها: "واحدة من النساء المناضلات كانت تشجع وتدفع زوجها وتشاركه النضال والكفاح في ثورة 1936-1939 وحرب 1948، عرفت باستخدامها الجيد لأنواع عديدة من الأسلحة، وفي واحدة من أعراس كفر ثلث عام 1956 أطلقت الرصاص بدلا من الزغاريد .
محاكمة نساء
في 7/10/1936 حكم حاكم لواء القدس على المجاهدة فضية خليل (القدس) بالسجن ثلاثة أشهر لأنها تحرض على المقاطعة، فتلقت الحكم برباطة جأش وسيقت إلى السجن مرفوعة الرأس. وفي 21/2/1938 حكمت المحكمة العسكرية في حيفا بالسجن عشر سنوات على السيدة هنية علي الأحمد بتهمة حيازة سلاح ناري، وقد صدرت أحكام مشابهة ضد عدد من السيدات الأُخريات.
ضرب النساء وقتلهن
عندما اشتدت نار الثورة أخذ الجنود الإنكليز يُعذّبون الرجال وينسفون البيوت. في عدد من القرى قاموا كذلك بضرب النساء وبإطلاق النار عليهن ما أدى إلى جرح واستشهاد عدد كبير منهن. وقد وردت في الأدبيات الفلسطينية أخبار كثيرة عن مثل هذه الممارسات الوحشية، فعلى سبيل المثال في 6/8/1938 عمم أكرم زعيتر على الصحف العربية البيان التالي: "ننعى إلى الأمة العربية السيدتين العربيتين سعاد العلي وآمنة الحاج ياسين اللتين قُتلتا برصاص الجند البريطاني في قرية قباطية (جنين)، وذلك حين فتشت القرية بعد هزيمة الجند ولم تجد رجالاً فأطلقت النار جزافاً على النساء في خدورهن فاستشهدت السيدتان المذكورتان، وجرحت السيدة عائشة حسن والسيدة حورية سليمان بجراح خطرة". وقد كان القائد يوسف أبو درة يندد دائماً في بياناته بانتهاك الإنكليز حرمة المرأة العربية ويرى في ذلك مسّاً بكرامة العرب.
تعرية الرجال
في 28/7/1938 أجرى الجند البريطاني عملية تفتيش في قرية الجديدة بأسلوب وحشي، وقد أتلفوا كل ما فيها، وضربوا وجوهها ومخاتيرها من مسيحيين ومسلمين، وعزلوا الرجال إلى جهة خارج القرية وأمروهم بخلع ثيابهم والوقوف عراة، ثم ساقوا النساء ووضعوهن أمام الرجال العراة فأخذن يولولن ويلدمن الصدور.
اغتصاب نساء
في 12/12/1938 وقعت مأساة عتيل حيث داهمت القرية قوة كبيرة من الجند، فقتلت عدداً من رجالها واغتصبت إحدى نسائها ثم قتلتها. وفي 26/9/1938 عذّب الجند رجلاً واغتصبوا زوجته في قرية السميرية الواقعة على بعد عشرة كيلومترات من عكا وكان بجوارها معسكر للجيش.
قصة طلاق
ذكر أكرم زعيتر أن جاسوساً عربياً من يافا اسمه العبد ... قد رفضت زوجته أن تستقبله في البيت وطردته شر طردة، ثم يممت المحكمة الشرعية طالبة من القاضي بأن يفرق بينها وبين زوجها بالطلاق، والتهمة هي الجاسوسية! وقد فعل. وفي مكان آخر ذكر أكرم زعيتر أن الجاسوس عبد... حضر بعد أيام إلى منزله في محلة المنشية يسترضي زوجته التي طردته فأبصره الصبية الصغار فتجمهروا حوله هاتفين بسقوطه باصقين عليه، فشهر مسدسه وأطلق عياراً نارياً فأصاب طفلاً في الثامنة من عمره، فانهال الأهلون عليه بالضرب ولم ينقذه سوى رجال البوليس. في أيام الثورة كان الجاسوس يُقتل فيمتنع أخوه عن المشاركة في تشييع جنازته.
هذا غيض من فيض. لقد سطرت المرأة الفلسطينية بعرقها ودمها أسمى آيات البطولة والبسالة، وما أشبه اليوم بالأمس.