زمن صابر بن حيران
كاظم فنجان الحمامي
صابر بن حيران: مواطن عراقي مُسالم من فقراء البصرة, لا تعرفونه أنتم, لكنني أعرفه تماماً, لأنني عشت معه العمر كله. لم نفترق عن بعضنا في يوم من الأيام. عراقي حتى النخاع. يحمل هموم وطنه, لا يتردد لحظة واحدة عن مواجهة أشقى أشقياء الأرض من الذين أساءوا للعراق مهما بلغت ضراوتهم وعدوانيتهم.
يحب الخير للناس ويسعى في سبيل إسعادهم. يجد متعة كبيرة في قضاء حوائجهم بما يتوفر في يديه من مال, لا يختلف كثيراً عن أبناء القرى الفلاحية المتناثرة على ضفاف شط العرب, بل يكاد يكون نسخة طبق الأصل من طيبتهم وبساطتهم ونقاوتهم وبراءتهم وسذاجتهم.
لصابر بن حيران حصة كبيرة من اسمه الغريب, فقد منحه الله الصبر على الشدائد, وحيَّرته المآسي التي صبتها حمم الويلات والنكبات والمصائب فوق رأس العراق, فهو صابر وحائر, ومكافح مثابر. بيد أن صفات الصبر والحيرة كانت لها انعكاسات أخرى في حياته اليومية, حتى أصبحت هي الجدران الكفيلة بامتصاص الضربات الموجعة, التي سددتها له أنياب الغادرين ومخالب المنافقين, من الذين كان له الفضل عليهم, فاكتشف متأخراً أنهم افتروا عليه, ودبروا له المكائد, وشوهوا صورته, على الرغم من مواقفه المشرفة معهم ومع المقربين منهم.
يعيش صابر بن حيران الآن في الزمن الذي عاش فيه حاتم زهران, مع الأخذ بنظر الاعتبار فارق التباين الكبير بين الشخصيتين, ولسنا مغالين إذا قلنا أن معظم الذين أساءوا إليه كانوا من فئة حاتم زهران.
الكثير منكم لا يعرفون حاتم زهران, بطل الفيلم المصري, الذي أنتجه نور الشريف عام 1986, من إبداعات الكاتب عبد الرحمن محسن, تدور أحداث الفيلم حول رجل ينتمي إلى الطبقات الطفيلية, ظهر فوق سطح الأحداث في مصر بعد انتصارات أكتوبر, رجل يرى في الكرسي كل شيء, ويرى في المال كل شيء, فداس على كل شيء من أجل الوصول إلى ما يصبو إليه, داس على وطنه, وداس على ضميره وعلى إنسانيته.
عاش حاتم زهران في زمن التقلبات السياسية الخادعة, فكان هو المدير اللامع, والمستثمر الفائز بغنائم الفوضى الديمقراطية بحلتها الجديد المترهلة, في ظروف مشابهة لما نمر به اليوم من تقلبات عجيبة لا تخطر على بال الجن الأزرق, حتى جاء الزمن الذي فازت فيه الرويبضة, فكذَّبوا الصادق, وصدقوا الكاذب, وخوَّنوا الأمين, وائتمنوا الخائن, واختفى صابر بن حيران, وظهرت على السطح أكثر من نسخة مستنسخة لحاتم زهران, صارت المبادئ في زمنه عبارة عن سلعة رخيصة في أسواق التلفيق والمراوغة والمخاتلة.
ربما يطول بنا المقام في سرد تفاصيل المنغصات الكثيرة, التي واجهها صابر بن حيران في زمن حاتم زهران وإخوانه, لكننا سنكتفي باستعراض بعض المشاهد المؤلمة:
تعرَّفَ صابر عام 1993 على (ع خ ص), وكان مبهوراً بعلمه وثقافته, فلم يدَّخر جهداً في مساعدته في عمله, ودعمه في دراسته, وكان له خير صديق في المواقف الحالكة, وخير معين في الأزمات الثقيلة, حتى بلغ (عين) أرفع المناصب, وارتقى أعلى المراتب, وكانت المفاجأة عندما ظهر (ع خ ص) على حقيقته, واكتشف صابر متأخراً أنانية صديقه, الذي كان يرى في الناس مجرد إكسسوارات مرحلية, يمكن الاستغناء عنها, واستبدالها في أي وقت, والأنكى من ذلك كله أن صديقه هذا كان في طليعة الذين ناصبوه العداء حتى يومنا هذا, فلم يكن بيته بمنأى عن المداهمات الليلية التي ربما كان فيها صديقه هو الواشي, ولم يسلم حتى الآن من الحملات التشويهية التي ربما كان فيها صديقه هو المحرض.
موقف آخر لم يقف فيه صابر بن حيران مكتوف الأيدي وهو يرى لوعة أطفال جاره الشاب (م ع ر), الذي اعتقلته أجهزة المخابرات عام 1999, فخصص لأسرته حصة من راتبه الشهري. كان سعيداً في مواساتهم, مندفعاً لمؤازرتهم, مسروراً في الوقوف معهم في محنتهم لأكثر من عامين متواصلين, لم يفكر في الانقطاع عنهم, أو التخلف عن مساعدتهم, حتى أفرجت السلطات الحاكمة عن الشاب المُعتقل وأطلقت سراحه, فجاءت المفاجأة عندما ظهر الشاب على لؤمه ووقاحته في نكران الجميل, وكانت المقاطعة من نصيب صابر, الذي كان جزاؤه كجزاء (سنمّار).
صار ذلك الشاب اليوم من مدراء الشركات الأمنية التابعة للقطاع الخاص, في حين ظل (صابر) معتكفاً في صومعته على ضفاف شط العرب, من دون أن يفهم سيناريو الفيلم الجديد, ومن دون أن يرى أي بصيص أمل في نهاية هذا النفق الزمني المظلم.