كلام لا علاقة له بالأمور السياسية...(37)
هل العمل أهم وأثمن شيء في الحياة؟
العميد المتقاعد برهان إبراهيم كريم
سيجد المرء في هذه الحياة الدنيا, ان العمل هو أهم وأثمن شيء في هذه الحياة.
والعمل هو المهمة الدائمة للإنسان. فالحياة لا تأخذ معناها الحقيقي إلا بالعمل. والعمل الفردي, هو إحدى قوى العمل الاجتماعي. وعلم الاجتماع بقواعده واسسه وقوانينه, يحدد قواعد السلوك الاجتماعي, وسلم القيم الاخلاقية, لإعطاء العمل مضمونه الشامل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل يداً ورمت من كثرة العمل. ولما سال عن سبب تقبيله هذه اليد, قال: تلك يد يحبها الله ورسوله. وجسم الإنسان بطبيعته الفيزيولوجية ميال لأن يبلى بالعمل, من أن يصدأ بالبطالة أو الراحة.
· العمل يجنبك من اربعة أشياء غير محمودة, هي: الملل ومن العادات السيئة و ومن ذل الحاجة, ومن جلسات الثرثرة بمضامينها الفارغة والضارة كالغيبة والنميمة واللغو في الكلام. والعمل يمرن العقل ويدربه و يغذيه بوافر الخبرات.
· والعمل ليست كلمة من حروف ثلاث معرفة بال التعريف. وإنما هو جهد وكد و تعب عناء, ويحتاج إلى جهد بخطى ثابتة وموزونة, مجبول مع قدر كبير من الصبر. ويؤديه على وجهه المثل والأكمل إنسان طموح, لا يستكين للإحباط واليأس والعجز والملل, وبدون الجهد لا معنى للعمل. والإنسان لا يحس بقيمة عمله إلا من خلال ما يبذله من جهد. وشكسبير قال: تسلق الجبال الوعرة يحتاج إلى خطى حذرة متمهلة. والمثل الاميركي يقول: ما نكسبه دون جهد, نبذله دون ندم. وإدارات بلادهم لم تلتزم يوماً بهذا المثل. والمثل الصيني يقول: من كد في عناء, أكل في سعادة. وكم سكان الصينين اليوم سعداء.
· في العمل تصادفك فرص, وتحصل على الكسب والربح. الحلال والمثل الفرنسي يقول: لا يمكن أن تحصل على صفقة إذا لم تسعى إليها.
· والقناعة من نتاج العمل, وهي شرط ضروري, لأنها تحد من الغرور والانانية وحب الذات. والمثل الصيني يقول: أن تقبل ربحاً بسيط اًخير لك من ان تفقد عملك. وربما هذا هو من إحدى أسرار تقدم الصين في كل المجالات.
· والعمل يوصل بالإنسان إلى الشهرة والمجد. والمجد وإن كان غايته الانسان, إلا أنه عندما يصل إليه, فإنه يشير بكلتا يداه إلى عمل الانسان, ليلفت نظر الآخرين إلى مسيرة العمل والجهد والكفاح للإنسان صاحب المجد الطويلة. و غوتة قال: العمل هو كل شيء, والمجد هو لا شيء. والمثل الروسي يقول: عندما تصل إلى المجد بكفاحك يأتيك التكريم دون عناء.
· والحياة جميلة بالعمل, ويجملها العمل. و باستور قال: الحياة جميلة , ولكن معنى الحياة أن نعمل شيئاً لا أن نجلس ونرى غيرنا يعمل. فيتبلد لدينا الحس.
· والعمل يُحجم ويشذب مشاعر الفردية, ويفرض علاقات جديدة هي انعكاس لردود أفعال وتصرفات الآخرين في العمل. وينجم عنها آثار تحتاج بمجملها إلى أسلوب متطور للتعامل حيالها, وبدون أن تترك رواسب مرضية وصراعات حادة في نفوس الآخرين, أو تؤثر على الشخصية والسلوك. وقد تصيب وتخطئ خلال عملك, أو في منافستك لغيرك, أو في تعزيزك لروح التعاون.
· والعمل كي ينجح عليه أن يُلزم من يقوم به أو يؤديه أن يسلك الطريق الصحيح والسليم في تعامله مع الآخرين. وذلك من خلال المعطيات التالية:
1. لا تسعى لإضاعة الوقت في التفتيش والتنقيب عن أخطاء الآخرين. ومن يخطأ فتقبل خطأه بصدر رحب, وأجعل خطأه ميسور التصحيح, ولا تلجأ لمحاسبته برفع العقيرة باللوم والانتقاد. بل تفهم موقفه, وانتحل الاعذار له على خطأه أو إهماله أو تقصيره, فهذا أجدى وأنفع وأمتع من اللوم والانتقاد, وأقرب إلى الانصاف, وأجدر بالرجال المحترمين. والمثل الروماني قال: يكره الانسان ما يخشاه.
2. لا تلم أحداً عساك ألا تلام. فالصلاح يتحقق حين يكون ليناً مع الآخرين وقاسياً مع نفسه. فالناس هم عاطفة أولاً, ثم أصحاب منطق وعقول في الدرجة الثانية, نفوسهم ذات مشاعر وأهواء, و هي ملأى بالغرور, وتريد من الآخرين أن يقبلوها ويخدموها كما هي. وأعلم أن أقرب الطرق لجلب العداوة والبغضاء: إنما هو قولك لشخص أنت مخطئ. لذلك من واجبك في علاقتك الانسانية أن تجعل الآخر يحتفظ بماء وجهه. لذلك أتمم نقص نفسك قبل أن تحاول إصلاح عيوب نفس غيرك. حتى ان البعض أعتبر أن أفضل طريقة لإقناع شخص انه على خطأ هو أن تدعه في خطأه.
3. وأفضل طريقة لكسب الجدال هو عدم الوقوع في براثنه. وأعلم بأنك تستطيع أن تغير سلوك إنسان انحرف عن جادة الصواب, وذلك من خلال استثارة عواطفه النبيلة, لأنه ليس هناك من إنسان تخلوا نفسه من العواطف النبيلة. وأبن سيرين قال: إذا أتيت منزل قوم, لم ترضى بما يأكلون, وسألتهم ما لا يجدون, وكلفتهم ما لا يطيقون, وأسمعتهم ما يكرهون , فإن لم يصفعوك فإنك محظوظ ولست بمغبون. وإبراهام لينكولن قال: عندما اتأهب لمناقشة رجل فإنني أقضي ثلث وقتي في التفكير بنفسي وبما سأقوله, وثلثي الوقت الباقي في التفكير بما سيقوله. والامام الشافعي رضي الله عنه حدد طريق يجنبك عداوة الناس, فقال: الانقباض من الناس مكسبة للعداوة, والانبساط مجلبة لقرناء السوء, فكن بين المنقبض والمنبسط.
4. والعمل ميدان فسيح للمنافسة. وفي المنافسة شيء من التحدي, لكنه تحدٍ كريم. والانسان بطبعه ميال إلى قبول التحدي والرد عليه, وما الطموح إلا شكل من التحدي للعقبات التي تعترض الطريق. وفي التحدي والرد عليه, حماسة تشتعل, فتزيد من طاقات المرء, وتدفعه بالإتيان بما لا يسهل إتيانه في الظروف العادية. وكل ما يبتغيه الانسان الناجح إنما الفرصة لإثبات تفوقه حين يتعرض للتحدي. فالحرص واجب مع تعاملنا مع الغير حين نثير روح التحدي والمنافسة الشريفة والهادفة, وهو ما يسمى بالروح الرياضية.
5. والنفس البشرية في كل مراحل العمر تحتاج إلى التشجيع. والتشجيع يحفز الانسان على النجاح, والتشجيع يكون بترغيب الآخرين, وتحبيبهم بالعمل الذي تريده وترغبه وتقترحه وتتوق إليه بالقدر المستطاع والمعقول. وذلك بخلق رغبة جامحة لديه, في أن يفعل ما يريد. وأن تجعل العمل هيناً ميسوراً ,وبعيداً كل البعد عن مصلحتك ومصلحته الشخصية الضيقة.
6. والعمل المنتج لا يكون إلا بإدخال السرور إلى النفوس. وإدخال السرور يكون بأن تعطي العامل أجره كاملاً قبل أن يجف عرقه كاملاً وغير منقوص ويفي بالحاجة, ويساوي الجهد الذي أداه العامل. وبراعتك في الحديث تدخل للسرور إلى النفوس. والمستمع إليك لا يمل من أن تحدثه في موضوع يعنيه. والحديث يجب أن يستند على الامور التالية:
· حدث الناس فيما يودون الاستماع إليه, وفيما يسر محدثك, وتظن أنه يهتم فيه. وبذلك تستدرجهم إلى الحديث الشيق واللذيذ. وأصغي إليهم بشغف كي يعتبرونك محدثاً بارعاً, تستطيع جلب مسرتهم, وبالتالي يحبونك. فشجع محدثك على الكلام عن نفسه وعن تجاربه, وأصغي إليه بشغف, لأنه أعلى ضروب الثناء, الذي يمكن أن تضفيه على محدثك. والمثل الانكليزي يقول: من أساء سمعاً أساء فهماً.
· تذكر أن أحب الانسان اسمه الشخصي, وأن تناديه باسمه, لذلك عليك تَذكر وحفظ أسماء من تعاملهم. وأن تكون ملماً بوضعهم الاجتماعي والأسري, وعملهم, وميولهم السياسية, ونزعاتهم الفكرية.
· سمات الوجه خير معبر عن مشاعر صاحبه, وهي من تطبع الأثر الكبير فيمن تقابلهم. فالوجه الصبوح ذو الابتسامة الطبيعية الصادقة المشرقة الصافية , هي خير وسيلة لكسب بعضاً من مودة وثقة الآخرين, وتسهيل التعامل والتعاون معهم. والصفاء في تلك الابتسامة ,هو من يطبع الاثر في نفوس الآخرين. وهي لا تكلف شيئاً, ولكنها تعود بالخير الكثير. وهي لا تُفقر صاحبها, ولا يوجد إنسان مهما أفتقر أو عجنته الاحزان والهموم بغير قادر على امتلاك الابتسامة. والابتسامة هي راحة للمتعب, وأمل للبائس, وفيض سعادة للسعيد. وهي وإن كانت لا تشترى أو تباع فإن خيرها يعم الجميع. فالبشاشة مصيدة المودة. والشاعر قال: بني إن البر شيء هين*** **وجه طليق وكلام لين.
· أستحسان الناس للمرء طبيعة في كل إنسان. لأن كل إنسان يريد أستحسان الناس له, واعترافهم بقدره وأهميته من خلال إضفاء الاهمية على نفسه. ويكون ذلك بإشباع تلك الرغبة بالثناء والمديح والتقدير. لذلك أسبغ على الآخرين التقدير الذي يأملونه ويتعطشون إليه. ومن بوسعه أن يشبع تلك الرغبة المتأصلة في نفوس الآخرين يبلغ أقصى ما يريد, ويضمن عطفهم وتأييدهم.
· وأن في كل إنسان شيء جميل في روحه أو خلقه, فعليك مهمة التفتيش عنه. وتذكر أن التقدير النقي والمخلص صدق وغذاء أساسي للنفس البشرية, وهي ثروتك التي تنمو وتزداد كلما أنفقت منها. أما التملق فكذب وانتهازية بغيضة. ورالف والدوا يمرسون قال: كل إنسان ألقاه يفضلني في شيء واحد على الأقل, فهو كفء لأن يعلمني إياه.
· واهتمامك بالآخرين خير وسيلة تدفعهم للاهتمام بشخصك, وأن تكون أنت البادئ بالاهتمام بهم. ذلك لأن للإنسان عواطف واهواء. ومن الناس من يقبل الاستجابة ,لكنهم قلما يتحلون بصفة المبادرة. ضع نفسك دوماً مكانهم, وأهتم بهم, وحبهم ومد لهم يد المساعدة بكل نزاهة وإخلاص. وكن سمحاً بشوشاً, ولا تقابل اعمالهم بالهزء والسخرية أو الشفقة, ولا تصدر أحكاماً جامدة وغير ميسورة التنفيذ أو مجبولة بالطمع والجشع وحب الذات.
· وكي تكسب الآخرين لوجهة نظرك, أسألهم أسئلة يكون جوابها نعم. فكلمة نعم لا تحتاج إلى مجهود عصبي. أما حين يكون الجواب لا, فالجهاز العصبي بكامله ومعه الجهاز العضلي تحفزا تلقائياً للدفاع عن موقف رفضه. لذلك أجن العسل دون أن تحطم القفير. والمثل الايطالي قال: من أراد أن يحبه الناس عليه أن يحبهم اولاً.
· والأمر الحازم إن تقبلته النفس فهي تتقبله بصعوبة وبكل قرف وكراهية. أما الاقتراح المهذب فهو من تستسيغه النفس. بيسر وسلاسة, ولا يشعر المرء تجاهه بأية غضاضة , محتفظاً بعزته وتقدير واحترام ذاته. فأبتعد ما استطعت في تعاملك ومعاملتك مع الناس عن لهجة الأمر والاكراه, كقولك: أفعل أو لا تفعل, هذا وذاك. وأجعل كلامك كله بمعنى: هل لك ان تفعل هذا أو ذاك.
· ومن طبيعة الانسان اعتزازه برأيه, وتحمسه لفكرته الخاصة. فإذا أردت أن تكسب روح التعاون عند الآخرين, فأجعل الشخص يحس ويظن أن الفكرة التي تريدها أو تطرحها عليه إنما هي فكرته. فالطعم المناسب هو من يصطاد السمك. فلا تنتقي الطعوم حسب رغبتك الخاصة وما يناسب هواك, وإنما حسب رغبة السمك ونوعه.
· وأعلم أنه مهما بدا الناس عتاة وقساة القلوب أو لا منطقيين , فإن طبيعتهم الانسانية هي التي تسود في آخر الأمر, تراهم يشكون ضعفهم وقساوة حظهم وسوء طالعهم, ولهذا فهم بحاجة إلى العطف . وأنت حين تقدر أفكارهم وتتفهم عواطفهم, وتمنحهم عطفك, وتحدثهم بلباقة عما تريد منهم, تكون قادراً على كسبهم إلى جانبك, والحصول على نتائج طيبة, وبأقل خسارة ممكنة.
وباختصار : التعامل مع الغير عمل يومي ودؤوب, ومستمر تفرضه طبيعة الحياة من جهة , وعمل الانسان من جهة أخرى, وروح الجماعة وأسس المجتمع من جهة أخرى. فكل إنسان جزء من مجتمعه وعليه أن يتعايش معه, ويتعامل معه بأساليب وطرق هدفها توطيد أواصر القربى والصداقة, بعيداً كل البعد عن الصراعات التناحرية. وبهذه الطرق والأساليب يفرض الانسان وجوده ومكانته ودوره. وكلما كان محبوباً من الآخرين كان أكثر تأثيراً وإفادة. ويكون المرء محبوباً إذا توفرت فيه الصفات التالية:
1. كن بارعاً في الحديث, وحدث الناس عما يرغبون إلى استماعه أو ما يعنيهم سماعه, وإلا فالصمت أفضل.
2. سلم بخطئك حين تخطأ, فالاعتراف بالخطأ فضيلة.
3. امتدح الآخرين, وقدر الأشياء والصفات الجميلة والمميزة فيهم.
4. احترم آراء الآخرين, ولا تقل لأحد بصريح العبارة أنت مخطئ. وألفت النظر إلى الأخطاء تلميحاً وبكل تهذيب ولباقة, كي يكتشف المرء خطأه بنفسه.
5. أحذر الجدال وتجنبه, وخاصة الجدال العقيم.
6. تجنب النكد والغيبة والنميمة والبغضاء والدناءة, فإنها توغر صدور الآخرين, وتدفعهم إلى الحقد عليك.
7. تفهم مواقف وعواطف الآخرين ولا تتبرم بها, وأبدي الاهتمام بها.
8. أستثير العواطف النبيلة لدى الآخرين بكل أدب ولطف.
9. أحرص على أن تثير المنافسة الشريفة وروح التدي البريء في تعاملك مع الغير.
10. أبتعد عن الأوامر الحازمة الصارمة .
11. دع الآخر يعتقد ان الفكرة التي تريدها أنها هي فكرته بالأساس.
12. حبب العمل الذب تقترحه في تفس الغير, وأجعله يبدوا هيناً وليناً وسهلاً ومفيداً.
13. أحفظ ماء وجه الآخر مهما ضاقت بك السبل وأعيتك الحيل.
أكتفي بهذا القدر بالحديث عن موضوع العمل, والذي لا يمكن الاحاطة به بهذه السطور والتعابير القليلة جداً جداً, متمنياً ان يجد القراء فيها بعض المتعة والفائدة. وأتمنى على القراء الاجابة عن هذين السؤالين التاليين:
· هل العمل أهم وأثمن شيء في الحياة, أم أن هناك من هو أهم وأثمن منه؟
· وهل إدائنا لعملنا على الوجه الأكمل يوفر لنا أمراً عدة ,منها: سيادة روح المحبة والوفاق والتعاون والتعاضد, ويقينا شرور الكراهية والخلاف والشقاق والتناحر والبغضاء, ويدفع بالمجتمع إلى أعلى درجات التقدم والتطور والرخاء؟