الشرعيةُ السياسيةُ

أبو الهمَّامِ الخليليّ

وقفاتٌ مَعَ الشرعيةِ الدوليةِ والشرعيةِ الشعبيةِ

والشرعيةِ الثوريةِ وشرعيةِ السلطةِ وشرعيةِ الثورةِ

أبو الهمَّامِ الخليليّ

الشرعيةُ السياسية من حيثُ واقعُها هي امتلاكُ الحقِّ في الممارسةِ السياسية. فكل ممارسةٍ سياسيةٍ كالثورةِ أو الوصولِ إلى السلطةِ، أو الاستمرارِ بالسلطةِ أو سنِّ الدستورِ أو تعديلِه، أو نحوِ ذلك، يجب أن تكونَ مالكةً "الحقَّ" كي تكونَ شرعيةً و إلا فلا شرعيةَ لها.

وتأتي أهميةُ الشرعيةِ السياسيةِ من توفيرها الغطاءَ الأخلاقيَّ و القِيَميَّ للممارسةِ السياسية وبالتالي القَبول العام لها، مما يوفرُ لها قوةً دافعةً ناعمة، وسنداً طبيعياً متيناً، وخضوعاً سياسياً طوْعيّاً.

ولما كانتْ الشرعيةُ هي امتلاكُ الحقِّ في الممارسةِ السياسية، كانت مرتبطةً ارتباطاً مباشراً بمفهومِ السيادة، فمن يمتلك السيادةَ يمنحُ الحقَّ أو يمنعُه. ذلك أن السيادةَ هي الإرادةُ العليا الآمرةُ للجميعِ: للدولة والمجتمعِ والأحزابِ والأفرادِ، فلا تعلوها أو تساويها إرادة، تُعطي الحقَّ من تشاء وتنزعُه ممن تشاء، فهي السلطة المطلقةُ الحرةُ السامية المتفردة المقدسةُ الأصلية القائمة بذاتِها، لم تُتلقَ الحقَّ من سلطةٍ أعلى منها، فصاحبُ السيادةِ يملك الحق، فلا يُفرض عليه قانونٌ، بل القانونُ هو التعبير عن ما تعتبرُه إرادتُه حقاً، وقرارهُ حقٌّ مقدسٌ ملزم، فمن ملّكتْهُ السيادةُ الحقَّ في الممارسةِ السياسية ِكان شرعياً، وإلا فلا.

ولما استقرّ في الفكرِ الغربيّ أن السيادةَ للإنسانِ وعقلِه على هذه الأرض، وليست للكنيسةِ و إلهِها ودينِها، انسجاماً معَ فكرةِ الديمقراطية، (الحاكمية للبشر)، صار المجتمعُ الدولي الإنسانيُّ، الممثلَ للإنسانِ على الأرض، من خلالِ الدولِ المُشَكِلَةِ له، هو مصدرُ الشرعيةِ على المستوى العالميّ، المعروفةِ بالشِرعة الدولية، وصارَ الشعبُ هو مصدرُ الشرعيةِ الوحيدِ عندَهم على المستوى القطريَّ، و لما كانت السيادةُ في الفكر السياسي الإسلامي هي للإسلامِ كان الإسلام هو مصدرُ الشرعية عندنا.

إن الغرب بجعلِه الإنسانَ هو مصدرُ الشرعيةِ الوحيدِ دخل في تناقضٍ فكريٍّ واضح، على المستويين: العالميِّ المتمثلِ بالشرعيةِ الدولية، والقطريّ، المتمثلِ بالشرعيةِ الشعبية.

أما على المستوى الدوليّ، فإن السيادةَ الـمُدَّعاةَ للإنسانِ مختطفةٌ، من قبلِ الدولِ الغربية، فالقانونُ الدوليُّ أي الشِرعةُ الدوليّة، هو في حقيقتِه ومنشئِه هو القانونُ الذي ارتضتْهُ لنفسِها دولُ الإنسانِ الغربيِّ حصراً، أي دولُ العائلةِ الأوربيةِ النصرانيةِ، وصبغتْهُ زوراً بالصفةِ الدوليةِ وخلدتْهُ، وفرضتْهُ على العالم بعدما انتزعت مركزَ العالم من الخلافةِ الإسلاميةِ العثمانية، وأنكرت بعُنْجُهِيَّتِها كلَّ أحد من البشر إلا هي، فاختطفتْ عالمياً واحتكرتْ التحسينَ و التقبيحَ والتوصيف والتصنيف السياسي عرفاً وقانوناً. فالشرعيةُ الدوليةُ لم يدعَ ولم يستشرْ أيٌّ من الدولِ غيرِ الغربية بها، فلم نكتبْ فيها، مثلاً نحنُ المسلمين، على كثرتِنا، حرفاً واحداً، وصارتْ الشرعيةُ الدوليةُ هي قانونُ الدولِ الغربيةِ الكبرى المسيطرةِ على العالم، المُشَكِّلة، لما يُسمى بدولِ المركز. فالشرعيةُ الدوليةُ في العالم، ليس مصدرُها الإنسانُ في هذا العالم، بل هي شرعيةٌ مختطفةٌ من الدول الكبرى، دولِ المركز، مفروضةً بعصا شُرَطِيّةٍ على دولِ الهامشِ الضعيفةِ، فلا يُسمحُ لأحدٍ بتعدي الشرعية الدولية التي رسمها كبراءُ العالم، وعلى الجميعِ الالتزامُ بما يُملوه، وأن يتقبلوا قواعدَ الشرعيةِ الدوليةِ وأفكارِها العامةِ كقطعيات غيرِ قابلةٍ للنقاشِ والتفاوضِ، وإن اجتهدَ أحدٌ أو تحركَ لانتزاعِ حقٍ له، فلا يُسمح له إلا تحتَ سقفِ شرعيتِهم وقانونِهم الـمُدَّعى بأنه إنسانيٌّ وعالميٌّ. وهو في حقيقتِه قانونُ استبداديٌّ متغطرس، وليس أدلَّ على ذلك من اغتصابِه واحتكارِه القرارَ الدوليَّ الإلزاميَّ في مجلسِ الأمنِ الدوليِّ.

نعم، إنَّ القانونَ الدوليَّ (الشرعيةَ الدوليةَ) تمييزيٌ وانتقائيٌّ، واستبداديٌّ، فالديمقراطيةُ - التي يزعمون - تعني أن الحكمَ للإنسان، وأن الإنسانيةَ سواسيةٌ كأسنانِ المشط في الحقوقِ والواجباتِ والسلطةِ والسيادة، هي كذبةٌ دعائيةٌ إعلاميةٌ كبيرةٌ، فأين هي المساواةُ والديمقراطيةُ على المستوى الدولي، والعالم كلُّه تحتَ وصايةِ وهيمنةِ دولِ المركزِ؟! التي احتكرت الحقَّ والحقيقةَ والسيادةَ المطلقةَ، فلا تُسألُ عمّا تفعلُ، فضلاً عن أن تُعاقبَ. الشرعيةُ الدوليةُ هي قانونُ الأقوياءِ المتغطرسين، قانونُ القوةِ وليس قانونُ الحق، وإن ادعى المضبوعون خلاف ذلك. لذا يجبُ هدمُ منظمةِ الأممِ المتحدة، مغارةُ اللصوصِ المجرمين الكبار، التي تُصادرُ العدلَ بحقِّ النقضِ الفيتو، وتشرعُ للظلمِ الدولي، وإنه لَـمِنَ الغريبِ، أنَّ كلَّ العالمِ ساكتٌ عن هذا المنكرِ الدوليِّ وشرعيتِه، ولا يُطالبُ بإغلاقِ هذا النادي الإجراميّ، ونزعِ الشرعيةِ عنه، بل يريدُ المشاركةَ فيه بزيادةِ عددِ الجبارين، وعلى ذاتِ قواعدِهم التقليديّةِ، بدلَ الإمساكِ بعصا النبوةِ لتحطيمِ الأصنامِ وشرعيتِها المزعومةِ كما فعلَ إبراهيم عليه السلام.

إننا لا نؤمنُ بفكرةِ القانونِ الدوليِّ الحالي، أي ما يُسمى بالشرعيةِ الدوليةِ، وتنفيذِها بقوةِ السلاحِ والعقوباتِ، لأنه سلبٌ لإرادةِ وسيادةِ دولِ الهامشِ، واستعبادٍ لَـها، واستعمارٌ يُصفدُ الدولةَ بالأغلالِ، ويُصيبُها بالشللِ والكُساحِ، ولأنه يسببُ الحروبَ والمنازعاتِ الدمويةَ، لذا لا يَصح أن توجدَ قوةٌ فوقَ المجتمعِ الدوليِّ، وكأنها دولةٌ عالميةٌ لها شرعيةٌ وتَشريعٌ، تحكمُ عدةَ دولٍ استكباراً واستعلاءً عليها، بل الأصلُ أن تتكونَ المجموعاتُ الدوليةُ بحريةِ الاختيارِ وبالمساواةِ دونَ تمييزٍ، وأن تكونَ للجميعِ حريةُ تركِ الجماعةِ الدوليةِ متى شاءت، وأن لا يُفرضَ على أحدٍ من أعضائِها تنفيذُ المقرراتِ بالقوة، باعتبارِها قانوناً وشرعيةً دوليةً فَوقيّةً لا معقبَ لها، بل تكونُ بينها اتفاقياتٌ بالرضا وحسب مصالـِحها. بذلك فقط تكونُ الجماعةُ الدولية جماعةً دوليةً بحق.

إننا نؤمن بفكرةِ العرفِ الدوليِّ، الذي يُطبقُ عن طريقِ الرأيِ العام، وبالعاملِ المعنويِّ الضاغطِ على الدولِ، كقاعدةٍ أخلاقيةٍ لا يترتبُ على مخالفتِها أيةَ مسؤوليةٍ قانونيةٍ. إذ العرفُ العامُ هو الذي تنظرُ فيه الجماعةُ الدوليةُ  طوعياً وطبيعياً حين تنظرُ في المنازعاتِ الدولية. والعرفُ الدوليُّ كتحريمِ قتلِ الرسل نقبلُه ونعتبره شرعيّاً، لقَبولِ الإسلامِ له، والعرفُ المضادُ لمفاهيمِ الإسلامِ نرفضه، ونسعى بالدعوةِ والدعايةِ لتغييرِه انسجاماً معَ الشرعيةِ التي نؤمن بها. و ليسَ هنا مجالٌ لتفصيلِ ذلك، فالغرض كان نزعُ الشرعيةِ عما يسمونه الشرعيةَ الدوليةَ المتمثلةَ بالقانونِ الدولي.

على كلٍ، تكلمنا عن الشرعيةِ على المستوى الدولي، أما الشرعيةُ على المستوى الإقليمي، متمثلةً بالشرعيةِ الشعبيةِ، والشرعيةِ الثوريةِ، وموقفُ الإسلام من ذلك فأقول، بلا مقدماتٍ مطوِّلة:

إنّ الغربَ صعد مبدؤه الديمقراطي الليبراليُّ إلى الحكمِ من خلال ثوراتٍ لا شرعيةَ شعبية لها، كالثورةِ الفرنسيةِ أو الانجليزيةِ أو الأمريكية، فقد قامت بـِها جميعِها نسبةٌ ضئيلةٌ من الشعبِ وليست الأغلبيةُ، ومن يدّعي أن النسبةَ الضئيلةَ تلك كانت هي الشعبُ، أو الممثلةُ للشعبِ بأغلبيتِه فليثبتْ ذلك، فكل طرفٍ يدعي بأنه الشعب!، فلمْ يُسْتفْتَ إذاً أحدٌ عليها بطبيعة الحال، فمن أين لها الشرعية الشعبية؟! وأين انسجامُها مع كذبةِ الديمقراطية، كذبةِ حكمِ الأغلبيةِ أو الأكثريةِ؟! وللخروج من الورطة خرجوا علينا بمصطلحِ "الشرعيةِ الثوريةِ"، ليجعلوا منها مصدراً للشرعيةِ السياسية، فباتت الثورةُ "غيرُ الديمقراطية" مصدراً للشرعية الديمقراطية، في تناقض صارخ! فالشرعيةُ الثوريةُ تعني الاحتكامَ إلى الشارع والاحتشاد، وشرطٌ فيها الكمُّ لا الأغلبية، وهذا الكمُّ يدعي لنفسِه أنه هو الشعب!،بلا برهان، بينما الشرعيةُ الديمقراطيةُ تعني الاحتكامَ إلى أغلبيةِ الصندوقِ وإلى الدستورِ و القانونِ وفي ذلك تناقض.

أما في الإسلام، فلكون الشريعةِ هي المصدرُ الأصليُّ للشرعية السياسيةِ، كان الإسلام في حالةِ انسجامٍ كامل، فهو من يعطي الشرعيةَ للثورةِ، ثم للنظامِ والدستورِ والحاكمِ، وهو من ينزعُ الشرعيةَ عن الحاكمِ والحكم، من خلال تفصيلٍ فقهيٍّ تشريعي.

إن مفهومَ الشرعيةِ الثوريةِ مرتبطٌ بمفهومي: الثورةِ و القانونِ، وهما مفهومان متعارضان، حيثُ الثورةُ هنا، حركةٌ تغيريةٌ جذريّةٌ شاملةٌ، حيثُ تصلُ القناعةُ إلى انعدامِ إمكانيةِ التغييرِ من خلالِ القانونِ القائمِ، وأنه يجبُ الخروجُ على هذا الإطارِ وهدمِه من أجل بناءِ مجتمعٍ جديدٍ. فلا يمكنُ تصورُ أن تقومَ ثورةٌ وتحترمُ النظامَ القانونيَّ السابقَ وإلا كانت مجرد حركةِ إصلاحٍ ترميمية، تؤمنُ ببقاءِ النظامِ الحاكمِ وشرعيتِه، فالثورةُ تؤمن أن لها شرعيةً هي فوقَ شرعية القانون والدستور السابق.

ونحنُ لا نقولُ بالشرعية الثوريةِ، لأننا لا نؤمن بمرجعيةٍ فكريةٍ تمنحُ الحقَّ السياسي، إلا أن تكونَ إسلاماً محضاً، لأنه وحدَه يمتلكُ السيادةَ، ويمنحُ الحقَّ ابتداءً، والثورةُ كحركةِ تغييرٍ ليست إسلاماً، بل هي حركةٌ يجبُ أن تكونَ مَقودَةً ومحكومةً بالإسلام، لا منفلتةً من عقالـِها، فليست الثورةُ  قائِداً فكرياً، وشرعيةُ أفكارِ الثورةِ هي بمقدارِ قَبولِ الإسلامِ لها، فالنظامُ القانونيُّ الجديدُ القائمُ على أنقاض النظام القانوني البائد بسبب الثورة، وكلُّ مُنتجات الثورة، تَستمدُّ شرعيتَها من الشرعِ لا من الثورة، وفي الوقت ذاتِه القياداتُ الثوريةُ إن تمثلَ فيها إرادةُ تطبيقِ الإسلامِ وارتضتْها الأمةُ حقَّ لها أن تستلمَ السلطةَ وتقودَ البلدَ وَفْقَ الشرع، ولا تعارض.

وهنا مسألتان محوريتان في هذا المقال، الأولى: شرعيةُ السلطة، والثانيةُ: شرعيةُ الثورةِ في الإسلام.

أما شرعيةُ الوصولِ إلى السلطة، فإن الشرعَ قد حصرها بعقدِ البيعة، فمن وصل إلى السلطةِ بعقدِ البيعةِ كان شرعياً، وإلا فلا شرعيةَ له. وعقدُ البيعةِ مبناهُ على ركنين: السيادةُ للشرعِ والسلطانُ للأمة. فلا شرعيةَ في الإسلامِ لمن يصلُ إلى السلطةِ بدونِ البيعةِ، أي لا شرعيةَ لمن يصلُ السلطةَ بدونِ سيادةٍ للشرعِ، أو بدونِ رضا من الأمة.

وإنه من العُجاب اليومَ أن تُفرَّغ الشرعيَّةُ من الشريعة عندَ المسلمين، من خلال تفريغِ عقد البيعة من الركن الأهمِ فيه وهو السيادةُ للشرع، أي الحكمُ بالشريعة، ويُكتفى بشرعيةِ صندوقِ الانتخاباتِ جرياً على سنةِ الفكرِ السياسيِّ عند الغرب. فالرئيسُ شرعيٌّ عندهم، ولو حكمَ بكلِّ أنواعِ الكفرِ، ولو كان نصرانيّاً، أو علمانياً، أو ملحداً، مادامَ وصلَ إلى الحكمِ بالانتخاب!

وهنا مسألةٌ غايةٌ في الحساسية، وهي كيفَ يتحصلُ اليومَ من يصلُ إلى السلطة على رضا الأمةِ، ليكونَ شرعياً إن لم يأتِ بالانتخاب، وكانت الحالةُ، كما هو حاصِلٌ، حالةً ثورية، إذ عقدُ البيعةِ هو عقدٌ بين الأمة والحاكم، الذي يَنوبُ عنها في تطبيق الشرع، ولا نيابةَ بغير رضاً، فإن كان بغير رضاً من الأمة فهو متغلبٌ، غاصبٌ للسلطة؟

سيُجيبُ البعضُ هنا، مسقطاً حق الرضا والاختيار عن الأمة، بأن وصولَ الإسلامِ إلى السلطة، اليومَ بعد غيابِه، هو فرضُ كفايةٍ، وقد تأخر تنفيذُه طويلاً، فلا يحق لأحدٍ أن يعترض على من انتهضَ ليطبقَه، لأنه أتى ليرفع الإثمَ عن الجميع، وحالُه كمن انتهضَ ليدفنَ ميْتاً، والدفنُ فرضٌ على الجميع، فإن لم يقم به أحدٌ، فلا أحقيّةَ لأحدٍ إذاً أن يعترضَ عليه، فهو أتى ليرفع الإثم عن نفسه وعن الجميع!! وأجيبُ على هذا الكلامِ بأن الوصول إلى السلطةِ لتطبيق الإسلامِ واجبٌ، نعم!، ولكنه لا يجوزُ بأي طريقةٍ كانت، وإنما يجوزُ بالبيعةِ، وبالبيعةِ فقط، والطريقةُ جوهريةٌ في المبدأ كما الفكرة، غيرُ قابلةٍ للإلغاءِ أو الاستثناءِ إلا بدليلٍ من الشرع، ولا دليلَ هنا، إذاً، فالغايةُ هنا، أي وصولُ الإسلامِ إلى الحكم، لا تبررُ الخروجَ عن الطريقِ الشرعي، فالغايةُ لا تبررُ الواسطة، فهو قياسٌ مع الفارق.

وعليه نصبحُ أمامَ السؤالِ الملحِّ التالي: كيف نحصلُ على رضا الأمة، فيمن يطبق الإسلام بغيرِ صندوقِ الانتخابِ، لاسيما إن كانت الحالةُ ثوريةً، لا حالة طبيعيةً مستقرة؟

للإجابة على ذلك يلزمنا التفريقُ بين مصطلحي: الشعبِ والأمةِ، فالشعب مصطلح ولدَ في الغربِ متأثراً بالمذهب الفرديِّ، حيثُ يعبرُ الشعبُ عن مجموعةٍ مكونةٍ من الأفرادِ يتمتعون بالحق السياسي كلٌّ بفرديتِه، وهم جمهورُ الناخبين، بينما الأمةُ كمصطلحٍ هي شخصيةٌ معنويةٌ اعتباريةٌ مستقلةٌ عن الأفرادِ المكونين لها، وكأنها كلُّها بمجموعِها، جسدٌ واحدٌ متجانس له تصرفٌ وسلوك. ونحنُ المسلمون لم نعرفْ في تراثِنا مصطلحَ الشعب، بل المصطلحُ الذي أسسْنا عليه هو مصطلحُ الأمةِ، والفرقُ بينهما في مسألةِ الرضا والقَبول، أن رضا الشعبِ وقَبوله له طريقٌ واحدٌ وحيدٌ هو صندوق الانتخابِ لنتعرفَ على رضا المجموعِ من خلالِ رضا الأفراد، أما الأمة فرضاها وقَبولهُا مرتبطٌ بأهلِ الحلِ والعقدِ فيها، وهم من يمثلونها تمثيلاً طبيعياً، وليس شرطٌ فيهم أن يكونوا منتخبين بالصندوق، خلافاً لما يقتَضيه مفهومُ الشعب، فإن جرت انتخاباتٌ كان فوزهم طبيعياً وحتمياً، فالانتخاباتُ إن جرتْ لا تزيدُ عن إعطائِهم الصفةَ التمثيليةَ القانونيةَ، وإلا فهم ممثلون ولا ريب. ومثال ذلك أهل المدينةِ والصحابةِ في الخلافة الراشدة، فهم يمثلون رضا الأمة وقَبولها آنذاك وإن لم ينتخبوا بشكلٍ صريح.

وعليه، فإن رضا الأمةِ فيمن يطبقُ الإسلامَ عليها هو برضا ممثليها الطبيعيين، من أهلِ الحلِ والعقدِ، وهذا مقبولٌ في الحالةِ الثوريةِ وفي الحالةِ الطبيعية، فيُلجأ إليه في الحالةِ الثورية، بينما في الحالةِ الطبيعيةِ ثمةَ متسعٌ لإجراءِ الانتخاب، ليكونَ الأمرُ أكثرَ ضبطاً ومشروعيةً قانونيةً. فلا مانعَ شرعاً من استخدامِ أساليبِ الكشفِ عن رضا الشعبِ للكشفِ عن رضا الأمةِ، فهو مفضٍ إليه بالتأكيد.

وعليه يتحصلُ اليومَ من يصلُ إلى السلطةِ لتطبيقِ الإسلامِ على رضا الأمة، ليكونَ شرعياً من خلالِ أهلِ الحلِ والعقدِ في القطرِ الذي يُسعى فيه لاستلام الحكمِ بالإسلام. وينبغي التنبيهُ أن الانقلاباتِ العسكريةَ المنفصلةَ عن جماهيرِ الأمةِ، بأهلِ حلِّها وعقدِها، هي انقلاباتٌ فاقدةٌ لرضا الأمةِ، فلا شرعيةَ لمن يأتي إلى الحكم بالإسلام من خلالـِها، إلا أن ترضى به الأمةُ بعد انقلابِه، فبرضا الأمةِ وحدَه يمتلك السلطةَ وإلا كان غاصِباً للسلطة، فإن حصل الانقلابُ نصرةً لدعوة حزبٍ يعمل في الأمةِ ومعها وله قَبولٌ فيها بأهلِ حلِّها وعقدِها، فوصولُه شرعيٌّ طبيعيٌ موافقٌ لطريقةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الوصولِ إلى الحكمِ ولاريب.

هذا عن شرعية الوصول إلى السلطة في الإسلام، أما عن شرعية الاستمرار في السلطة فأقول:

إن الحاكم في الإسلام شرعيٌّ مادام وصل إلى الحكمِ بطريقِ البيعة، وتستمرُ شرعيتُه مادام محافظاً على شروطِ انعقادِ البيعة، يقيمُ أحكامَ الشرع، فإن أظهرَ الكفرَ البَواحَ في نفسِه أو في الحكمِ فقد شرعيتَه، وهنا ينبغي أن نوضحَ معنى إظهارِ الكفرِ البَواحِ، المسقطِ للشرعيةِ، فقد يظهرُ الحاكمُ الكفرَ البَواحَ بوسائلَ عدةٍ  منها الواضحُ المعلومُ للجميعِ كصلاتِه صلاةَ النصارى، أو سبه الإسلامَ مثلاً، ومنها ما يجبُ التنبيهُ إليه لكونِ البعضِ في غفلةٍ عنه، وهو سنُّ التشريعِ المناقضِ لأحكامِ الإسلامِ القطعيةِ، كإباحتِه الربا والدعارةِ بالقانون، أو سنه قانوناً بالمساواةِ بين الرجلِ والمرأة في الميراث وما شاكلَ ذلك، فإنه ليس مجرد معصيةً بل هو ردةٌ عن الإسلام، وإظهارٌ لكفرٍ صُراحٍ، ففرقٌ كبيرٌ بين من يتعاملُ بالربا وبين من يسنُّ قانوناً يبيحُ الربا. إذاً، تشريعُ المعصيةِ القطعيةِ كفر، وعليه فإن تشريعَ الكفرِ دستوراً ونظامَ حياةٍ وإقامةَ القوانين والأنظمة على أساسِ الفصل بين الدين والحياة، وإباحةَ ما حرم اللهُ وتحريمَ ما أحل اللهُ، ووضعَ الشرطة والجيش في حمايةِ القوانين المخالفة لأمر الله، وإجبارَ الجميع على الالتزام بها وتنفيذِها بقوةِ الجندي وصرامةِ القانون، هو كفرٌ بَواحٌ صُراحٌ عندنا من الله فيه برهان. وهو مسقطٌ لشرعيةِ الحاكمِ إن أحدثه. فالشرعيةُ صفةُ نشوءٍ واستمرار.

إن الحاكمَ الشرعيَّ، في الدولةِ الإسلامية، طاعتُه واجبةٌ، فإن ظلمَ، وأكلَ الحقوقَ، وجلد الظهورَ، تآكلت شرعيتُه، مما يستدعي التمردَ عليه حصراً فيما خالف فيه الإسلامَ بشكلٍ بيّنٍ قاطع، حيثُ لا يطاعُ في ظلمِه أو مُنكرِه البيِّن الذي لا خلاف عليه، ولكنَّه يبقى شرعياً إلى أن يصدرَ قرارٌ قضائيٌّ باتٌّ من المحكمةِ العليا في الدولة الإسلامية (محكمةِ المظالم)، بأنَّ الحاكمَ اختلت عدالتُه، فحينئذ تسقطُ شرعيتُه. كما أن شرعيَّةَ الحاكم تسقطُ إن قضتْ محكمةُ المظالمِ بأنه غيُر قادرٍ على القيامِ بأعباءِ الخلافة، لأن ذلك كلَّه، من شروطِ انعقادِ الخلافة، وهي شروطُ انعقادٍ واستمرارٍ للشرعية، فبفقدِ أحدِها يفقدُ الشرعية.

بقيتْ مسألةٌ وهي شرعيةُ الثورةِ السلميةِ والثورةُ المسلحةُ، في الإسلام، فنقولُ:

إن من حقِّ الأمةِ بل من واجبِها أن تحاسبَ حكامَها، وأن ترفضَ ما تراه انحرافًا، ومن واجباتِ الدولةِ إتاحةُ أجواءِ المحاسبةِ والنصيحةِ السياسية. وإن التجمعَ لإبداءِ المحاسبةِ أو النصحِ السياسي في الأماكنِ العامةِ دون مساسٍ بالممتلكاتِ العامةِ أو أذيةِ الناسِ حقٌّ تكفلُه الشريعة، ذلك أن التجمعَ سواءً أكان وقفةً أو اعتصاماً أو مسيرةً هو تظاهرٌ وهو أسلوبٌ سياسيٌّ، والأصلُ في الأساليبِ والوسائلِ الإباحة إلا وسيلةً أو أسلوباً أوجبَه الشرعُ أو وسيلةً أو أسلوباً منعه الشرع، والأساليبُ المباحةُ - بشكلٍ عام- محكومةٌ بمقاصدِها، لأنها إجراءاتٌ، فالوسيلةُ إلى الحرامِ محرمةٌ، والوسيلةُ إلى الواجبِ قد تصلُ إلى الوجوبِ إن لم يكنْ خِيارٌ غيرُها. فالتظاهرُ السلميُّ بكافةِ أشكالِه جائزٌ إن كان يستهدفُ إحقاقَ حقٍّ شرعيٍّ. فإن كان هدفُ هذا التظاهرِ التغييرَ الجذري، واكتسبَ صفةَ العمومِ، وُصفَ بالثورةِ السلميةِ، ولكونها جائزةً فهي ثورةٌ سلميةٌ شرعيةٌ.

أما الثورةُ المسلحةُ، كما هو الحال في سوريا اليومَ، فتأخذُ شرعيتِها من جهتين، الأولى: دفعُ الصائلِ المعتدي على النفسِ والعرض. أخرج أبو دواد في سننه: عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ". وأخرج أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " ومن المعلومِ بأدلةٍ يقينيةٍ أنّ شبيحةَ بشار قتلوا الناسَ وعذّبوهم ونهبوا أموالَهم وانتهكوا أعراضَهم وحملوهم على التلفظِ بالكفرِ رغمَ أنهم خرجوا في مسيراتٍ سلمية، فاضطرَّ الناسُ للدفاعِ عن أنفسِهم وعرضِهم. قال ابن حجر (في الفتح، ج14 ص309): "وأما من خرج عن طاعةِ إمامٍ جائرٍ أراد الغلبةَ على مالِه أو نفسِه أو أهله فهو معذورٌ ولا يَحل قتالَه، وله أن يدفعَ عن نفسِه ومالِه وأهلِه بقدرِ طاقتِه".

أما الجهةُ الثانية فهي: فهي قتالُ مغتصبِ السلطةِ، إذ من المعلومِ أنّ بشارَ الأسدِ ورثَ السلطة عن أبيه ولم يخترْه الناس، فقد عيّن بالقوة بدون مشورةٍ من المسلمين، فحكمهم بالكفرِ وبالحديد والنار، وارتكب من الموبقات ما يُسقطُ أي شبهةِ شرعية له، فقتالُ أهلِ الشامِ له ولشبيحتِه اليومَ من بابِ قتال مغتصبِ السلطة، وإن كان القتالُ هناك في مبدئِه لم يكن لاستردادِ السلطة والحكم بالإسلام، بل كان قتالاً لدفع الصائلِ المعتدي على المدنِ والحاراتِ والأزقة، التي يتواجد فيها الناس السِلميون يطالبون بحقوقِهم البسيطةِ الشرعية، فانتشرت حالةُ الدفاع على مساحة سوريا مع انتشارِ حالة العدوان والتظاهر السلمي الشرعي، حتى باتت الثورة في حالة شوكة وقوة متصاحبةٍ مع ارتفاعٍ في مُنحنى الوعيِ لصالحِ الحكمِ بالإسلام، فانتقلت الثورة هناك إلى قتالٍ لافْتِكاكِ السلطةِ من بشار وعصابته وإعادتِها إلى الأمة لتختار من بينها من يحكمها بالكتاب والسنة. أخرج أبو داود عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ". فحكمُ الغاصبِ أنّ عليه أن يردَّ ما غصبَه لصاحبِه، ويجوزُ قتالُه لاسترجاعِ المغصوبِ منه. وخطبَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه في جموعِ الصحابةِ في المدينةِ قائلا: " ... ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ أَلَا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا" (رواه البخاري). قال ابن حجر في الفتح (ج14 ص118): "( تَغِرَّةَ أن يقتلا) ... والمعنى أن من فعلَ ذلك فقد غرر بنفسِه وبصاحبِه وعرضِهما للقتلِ". وفي وصية عمر رضي الله عنه للصحابةِ بعد طعْنِه: "أمهلوا، فإن حدثَ بي حدثَ فليصلِّ لكم صُهيبٌ ثلاثَ ليالٍ، ثم أجمعوا أمرَكم، فمن تأمَّر منكم على غيرِ مشورةٍ من المسلمين فاضربوا عنقه" (رواه ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح). وبناء على هذا فقد قامَ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يزيد بن معاوية، وثار عليه لاغتصابِه السلطة وأخذه البيعة بالإكراه، وإن من نصحه من الصحابة بعد القيامِ بثورته، كعبد الله بن عباس، وغيره لم ينصحوه لاعتقادهم بعدم مشروعية هذا القتال، بل نصحوه بذلك خوفاً من غدرِ أهل العراق آنئذٍ، وانعدام الثقة بتأييدهم بعد الذي فعلوه مع الإمام علي رضي الله عنه، فكان في مشروعية قتاله لاسترداد السلطة إجماعاً من الصحابة.

وينبغي التنبيهُ هنا بأن القتالَ الجائز ضد النظامِ في سوريا هو ما بيّناه، المندرجَ تحتَ البندين المذكورين، بانضباطٍ بتفصيلهما الفقهي، وما عدا ذلك فهو محظور، وجريمةٌ بحق الثورة.

وفي الخلاصة، هذه المقالة غايتُها كانت التعميقَ والتدقيقَ وبعضَ الإنشاءِ والبناءِ لمفهوم الشرعية السياسية، وإسقاطاً لمفاهيمَ في الشرعية كالشرعية الدولية والشرعية الشعبية، وتثبيتاً وإبرازاً لمفاهيمَ تتعلقُ بشرعيةِ الوصولِ إلى السلطةِ والاستمرارِ بها، ومدى شرعيةِ فكرةِ الثورةِ والشرعيةِ الثورية، إن أحسنتُ فمن اللهِ تعالى، وإن أخطأتُ فمن نفسي، }رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) {،آمين.

وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.انتهى