ضياع شعب: جدلية المفاوضات وخيارات المرحله
ضياع شعب:
جدلية المفاوضات وخيارات المرحله
د. هادي عبد الهادي العجلة
انتهى اجتماع نتنياهو- أوباما فى المكتب البيضاوى بدون أى اعلان يشد الانتباه بما يخص المفاوضات الجاريه بين السلطه الفلسطينيه واسرائيل. صحيح أن الملف برمته بيد وزير الخارجيه الأمريكى، ولكن مدح نتنياهو حول قراره العودة للمفاوضات دون حثه على وقف الاستيطان وإطلاق سراح مزيد من الأسرى وأمور أخرى بتحسين حاله حقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية المحتلة انما مدح للمحتل ولسياسته القاضيه بقضب مزيد من الأراضى وتهجير للفلسطينيين. اجتماع الاثنين ركز فقط على موضوع ايران والاتصال الهاتفى بين الرئيسين الايرانى والامريكى والقضيه الفلسطينيه كانت موضوع هامشى جداً.
تبدو الصوره قاتمة، الى حدٍ ما، فى الشرق الاوسط وسيناريوهات ما بعد التدخل الروسى فى منع ضربة ضد دمشق. ولكن، على الجانب الآخر، هناك مفاوضات تجرى بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى لتخطى فشل أوسلو وما بعد أوسلو. بعد توقف دام أكثر من ثلاث أعوام تعود المفاوضات من جديد ويبدو أن القيادة الفلسطينية جادة فى البحث عن إنجازات على الأرض حتى تحقق مكاسب تكتيكية زمنية من أجل الحفاظ على ما تبقى من شرعيتها المفقودة فى ظل مطالبات جدية من الجيل الجديد بإسقاط أوسلو وسلطتها. لم تكن فى جعبة السلطة الفلسطينية ورئاستها إلا خيار واحد وهو المفاوضات. فقد كرر الرئيس الفلسطينيى عدة مرات وأكد على ان المفاوضات هى الطريق الوحيد لحل الصراع "الفلسطينيى الاسرائيلى". ففى 23 سبتمبر، التقى عباس بالجاليه اليهوديه فى نيويورك واكد على أن المفاوضات هى الخيار الوحيد للسلطه (وليس الشعب الفلسطينى).
إن المتغيرات الإقليمية التى حطت أوزارها فى الشرق الأوسط ستؤثر بشكل كبير على سير المفاوضات بشكلها الجديد، فى ظل الوعد الأمريكى لعباس بالضغط والتدخل من أجل دفع عملية السلام للأمام لتحقيق اختراق حقيقى. قبل اتفاق إعلان المبادئ فى العام 1991 والذى جاء بعد حرب الخليج الاولى وخيارات منظمة التحرير الضيقة بعد تجفيف الدعم المالى الخليجى لسوء فهم أو لموقف ياسر عرفات من غزو الكويت، أجبرت الظروف الفلسطينيين إلى الإسراع فى الذهاب إلى عملية السلام وتوقيع اتفاق أوسلو. بعد عشرون عاماً من توقيع اتفاق أوسلو والاجماع الفلسطينى والاسرائيلى والدولى على أن اتفاق اوسلو لم يحقق أى من أهدافه فأصبح جثه ميته إلا من الشق الأمنى فقط. الآن المنطقه أمام متغيرات جديدة ستجعل من الفلسطينيين يتجهون للقبول برزمة اتفاقات جديدة ربما تكون أوسلو الجديدة. أعتقد أن التاريخ يعيد نفسه فالعرب منقسمين ومنشغلين فيما يسمى الربيع العربى وصراعات السلطة و الفلسطينيين أنفسهم منقسمين داخلياَ فى صراع عجزت كل القوى الداخلية والإقليمة عن إيجاد طريق لتوحيد طرفى الانقسام. أضف إلى ذلك افتقاد العرب لخيار آخر غير خيار المفاوضات ومحاولة الخروج من الصراع بشكل خفى. قبل العام 1991، لم يكن هناك قنوات اتصال ما بين قطر والإمارات والأردن والعراق وتونس وليبيا ودول أخرى من جهه وإسرائيل من جهه أخرى. الآن تعج البلدان العربية بقنوات الإتصال تحت مسميات أخرى كمكتب تجارى أو ما شابه ذلك. إن ذلك يعنى أن القضية الفلسطينية قد خرجت من عروبيتها و نجحت أمريكا وإسرائيل من إخراج العالم العربى من دائرة الصراع وأصبح اسمه الصراع الفلسطينى-الاسرائيلى بدلاً من الصراع العربى-الإسرائيلى.
اذاً، كان اتفاق أوسلو هو مجرد أداه للإدارتين الأمريكية والإسرائيلية من أجل حشر الفلسطينيين فى منطقة جغرافية محدودة تحت الإحتلال الإسرائيلى و لتقزيم الخيارات الاستراتيجية للفلسطينيين فى مجمل دائرة الصراع بأكمله وإظهار القضية الفلسطينية كأنها صراع على حدود 1967 وهو ما حصل فعلاً. الآن وبعد عشرين عاماً وبعد نجاح اتفاق أوسلو فى هزيمة الفلسطينيين، يبدو أن المرحلة القادمة مهيئه أكثر من أى وقت مضى للمضى قدماً فى اتفاق مرحلى ثانى يقضى على بقية الطموحات الفلسطينيه فى العيش بسلام واستقرار دائمين على أرض فلسطينية وليست تحت الإحتلال الإسرائيلى أو متعاقديه الأمنيين المتمثلة فى السلطه الفلسطينيه(قطاع غزه والضفه الغربيه)، وهو بالمناسبة أحد نجاحات اتفاق أوسلو المبهرة. الاتفاق المرحلى لربما يستمر لعقود من الزمان وذلك لتمويع قضيتين مهمتين هما قضية اللاجئين وقضية تبادل الأراضى والقدس. ومع وجود نتنياهو المتطرف والذى كان سبباً فى تسريع كشف زيف اتفاق أوسلو فى تسعينيات القرن الماضي، لا بد من النظر على أن وجوده هو استمرار لفشل العملية السلميه واستحالة مقدرة الادارة الأمريكيه على الدفع بها. أى جهود أمريكيه لإقناع نتنياهو لقبول أى اتفاق لا يريده المستوطنين وجموع المتطرفين فى دولة إسرائيل حتماً ستكون فاشلة.
أضف الى ذلك ان الدينياميكية السياسية فى الشرق الأوسط قد تغيرت ما بعد اتفاق لافروف-كيرى حول نزع أسلحة سوريا الكيميائية و المحادثة الهاتفية ما بين الرئيسين الأمريكى والإيرانى. هذا يعنى انتهاء حالة العداء الظاهرى بين الحكومتين ولكن ستبقى سياسه أمريكا لإيران المتمثلة فى "العصا والجزره" مستمرة مع التلويح بالتهديد لاستخدام القوى العسكرية. نتنياهو سيقبل عدم ضرب ايران والإصغاء إلى الإدارة الأمريكية شريطة أن تعطيه الضوء الأخضر فى استكمال تهويد القدس وبناء مزيد من المستوطنات وربما تهجير فلسطينيين من الأراضى الفلسطينية فى القدس الشرقية والأغوار- وهذا ما يحدث فعلاً. فاسرائيل وجيشها يقوم -أسرع من الضوء- بترحيل وهدم قرى باكملها تحت حجج واهيه. سيكون ذلك ثمناً مقبولاً لدى الادارة الامريكية وربما ستضغط على السلطة الفلسطينية من أجل القبول باتفاق مرحلى يشابه أوسلو الى حدا ما ولكن بجدول زمنى يمتد لعقود وهو ما يعنى محاولة إدارة الصراع وصياغة الصراع وتقزيمه على أنه إنسانى وصراع على حدود الدولة (ربما نسبة تبادل الأراضى). هذا السيناريو هو المخرج الوحيد لفشل المفاوضات الحالية بين الجانبين. بعض الأنباء تشير إلى أن جولات المحادثات فاشلة ولم تأت بجديد. فقد أوردت جريدة الحياه اللندنيه عن مسؤول اوروبى رفيع المستوى أن المفاوضات وصلت الى طريق مسدود. فإسرائيل كعادتها تريد وضع العصى فى دواليب المفاوضات من خلال افتعال خلافات تجعل مجرد الوصول الى مبادئ سير عملية التفاوض عبثية. ففى حين يريد المفاوض الفلسطينى البدء فى قضيه الحدود، تريد اسرائيل البحث فى قضية تبادل الأراضى وكأن اسرائيل تريد فرض أجندتها التفاوضية، بل وفرض الحل المناسب لها من خلال الزج بالفلسطينيين فى متاهات التفاوض العبثى.
إن السلام الحقيقى يبدأ من الإعتراف الكامل بحق الشعب الفلسطينى فى العيش بكرامة وبحرية والاعتراف بالنكبة الفلسطينية وبحث قضية اللاجئين فى العوده لديارهم ومن ثم عدم التفاوض على مكونات أساسية وهى المساواة والعدل والحرية والسيادة الكاملة لدوله فلسطينيه مستقلة. ولكن يبدو أن إسرائيل ما زالت مستمرة فى ممارساتها على أرض الواقع وكأن المفاوضات تجرى حول أراضى فى جزر الكاريبى وليست على أراضى فلسطينية محتلة. فمجرد إعلان العودة إلى مسار المفاوضات، أعلنت بلدية القدس عن إقامة حى استيطانى جنوبى مدينة القدس. ليس ذلك فقط وانما نقلت صحيفة "هارتس" عن وزير الاقتصاد الإسرائيلي ورئيس حزب البيت اليهودي "نفتالي بينت" أن الأشهر القادمه ستشمل اعلان نشر المزيد من العطاءات لاقامه احياء استيطانيه جديده او أعمال توسعيه فى فى المستوطنات المقامه على الأراضى الفلسطينيه. إن ذلك وبلا شك، يجعل التفاؤل بنتائج مرضيه للفلسطينيين صعبة جداً، بل ومستحيلة. فاسرائيل تسرق المزيد من الأراضى والفلسطينيين منشغلين فى انقسامهم الداخلى وتقزيم معاناتهم إلى قضايا معابر حدودية واحتياجات إنسانية.
وبعكس ما تقولة الحكومة الاسرائيلية من أنها تسعى لتحقيق السلام على أساس دولتين لشعبين(وتشترط يهودية الدولة العبرية وهو ما يرفضه الفلسطينيين)، يسعى دانى دانون وهو نائب وزير الدفاع الاسرائيلى لاصدار ميثاق ليكودى لمنع اقامه الدوله الفلسطينيه. هذا يأتى من قمة الهرم السياسى فى أحد أهم الأحزاب الإسرائيلية وبالاطلاع وبدراسة التركيبة السياسية للدولة الاسرائيلية وأحزابها، فإنه من الممكن فى حال التوصل الى إتفاق، ان يعود الليكود(تداول الأدوار فى اللعبه السياسيه) الى سدة الحكم وبالتالى تقويض اى اتفاق مرحلى قادم وهو ما يعنى الدخول فى سيناريو ما بعد اوسلو والانتفاضه الفلسطينيه الثانيه. ليس فقط المستوطنات ولكن سياسة الاستفزاز الاسرائيلى فى القدس المحتله والخليل من خلال مراسم دينية واعتقالات تعسفيه تجبر الفلسطينيين على الرد على هذه الاستفزازات مما يخلق جواَ يحقق فيه الاسرائليين مزيداً من الدعم الامريكى فى مواجهة المفاوض الفلسطينى الذى لا يمتلك حتى خرائطه او قلمه الذى يكتب به محاضر لقاءات التفاوض.
إن أسوأ ما فى هذه المرحلة الحالية ومفاوضاتها هو عدم صراحة القيادة الفلسطينية مع الشعب الفلسطينى وإطلاعه أولاً بأول على ما يدور فى الغرف المغلقة حول مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة. ولكن هناك الأسوأ وهو عدم وجود استراتيجية فلسطينية مشتركه تضم كافة االفصائل الفلسطينية وليس فقط منظمة التحرير كممثل شرعى ووحيد للشعب الفلسطينى(وهذا لا خلاف عليه). فالرئاسة الفلسطينية لم توضح حتى اللحظة استراتيجيتها بالنسبة لملف المصالحة الذى أصبح غير مطروح بسبب تعنت حركة حماس وقادتها فى غزة. أضف الى ذلك حالة العداء المباشر والموجه لأهالى قطاع غزه من قبل الجيش المصرى بسبب التدخل السافر لحركة حماس وجناحها العسكرى فى الشان المصرى بعد خلع الرئيس المصرى. بسبب ذلك، أصبح المواطن الفلسطينى كالابلة محبط من التنظيمات وافتقد القدرة على اعطاء شرعية أو حتى إضفائها على أداء كلاً من سلطة الضفة الغربية أو حماس. سينتج عن ذلك صعوبة فى اقناع هذا الشعب بشرعية أى اتفاق مرحلى او دائم يتم فيه التنازل عن قضايا أساسيه منها الأغوار واللاجئين والقدس. فالجيل الجديد أوعى من أن يتم تمويع آرائه وتسقيتها فى بوتقة الأحزاب السياسيه وإن ظهر الآن غير ذلك نتيجة الاستقطاب الحاد بين أيدلوجية فتح وحماس. وهنا يجب الإشارة على أن حالة الاستقطاب ليست بين مشروعين وإنما بين أيديلوجيتين رأس حربتها فتح وحماس وحالة الاستقطاب ليست بالضرورة تعبيراً وقبولاً عن مشروعى حماس وفتح.
أعتقد أن الاتفاق القادم سيكون الأخطر على الوجود الفلسطينى وكيانه المستقل. على القيادة الفلسطينية استنتاج أخطاء اتفاق اوسلو ودراستها جيداَ والاستعانة بخبراء فلسطينيين وليس بريطانيين أو أمريكيين حتى يكون أى اتفاق مرحلى سواء طويل الأمد أم قصير الأمد ذو مغزى واضح ويحقق آمال وطموحات الشعب الفلسطينى. إضافة الى الحاجة الملحة بأن تكون كافة الملفات وتطبيقها بشكل متوازى. حيث أن ملف المعتقلين هو من أهم الملفات ولكن ملف اللاجئين هو القضية الأكبر للشعب. ربما تأتى فتره سلام وهدوء على الأرض ولكن لن تدوم كثيراً، فحلم إسرائيل الكبرى ما زال يراود قادة اسرائيل وسياسييها وأعينهم ما زالت على كل قطعة أرض فى الضفة الفلسطينية وكل شبر فى القدس المحتلة.
وفى النهاية يبقى الخيار الوحيد بعد فشل هذه المفاوضات الذى يمكن الفلسطينيين واليهود من العيش بسلام هو دولة ثنائية القومية، فدولتين لشعبين لن يقبل بها الفلسطنيينون ولن يقبل بها اليهود كذلك. فالفلسطيني فى غزه يقرأ عن حيفا ويافا وعكا أكثر مما يقرأ عن غزه ويعرف عن القدس وبئر السبع أكثر مما يعرف عن رفح وخانيونس وكذلك بنت رام الله وبنت جنين. أما اليهود الإسرائيليين فسيكون أمام خيارين أما القبول بالعيش سوياً فى دولة مشتركة يتقاسم فيها سكانها خيراتها وإما عنفاً طويل الأمد ستذهب فيه دماء الكثير من الأبرياء.