سِيرَةُ الْعَلَامَاتِ وَالنُّجُومِ

د. محمد جمال صقر

[email protected]

سُلَّمٌ

أَمْ نَفَقٌ

أَمْ أُفُقُ

أَعْجَزَتْنِي الطُّرُقُ

يَا مَنَارَاتُ اسْطَعِي لِي أَرْسُمِ الْمَخْبُوءَ فِي أَشْجَانِهِ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْرِكَ عَيْنِي الْغَرَقُ

وَارْسُمِي آيَتَكِ الْعُظْمَى عَلَى الْأَطْلَالِ تَسْطَعْ

إِنَّ قَلْبِي صَعِقُ

1

لن ترى الصورة حتى تبتعد عنها؛ فإن لم تبتعد شغلتك نُقَطُها الصغيرة؛ فكنت أشبه بأحد العميان الذين اصطدموا بفيل، ثم سئلوا عنه فيما بعد فظن كل منهم أن ما اصطدم به من الفيل هو الفيل، فوصفه كما لمسه حتى أَسْخَرَ الناسَ منه!

وكما يجري الاحتكام إلى البعد في رؤية من حولنا وما حولنا، يجري في رؤية أنفسنا؛ إذ نراها في مرايا من حولنا وما حولنا، فإننا إذا غيَّرنا المرايا تغيَّرنا فيها، والتغيير والتغير وجها مبدأ حيوي واحد، لا غنى عنه.

ومن لطائف اللغة العربية في هذا الشأن اشتمال مادة س ف ر على كلمات السفر والسفور والسافر والإسفار... وكلها من الكشف والانكشاف؛ ففي السفر تنكشف أخلاق الناس، لأنه قطعة من العذاب، ينصهر في صَيْهُوده المسافرون، فلا يبقى من أدران تزييفهم شيء؛ حتى إنه لما رغب بعض الناس إلى الحسن البصري أن يحج معه، حذره من أن يُخيِّب السفر ظنه فيه، وهو فتى الفتيان!

2

ينبغي أن يذكر الشباب العربي المسلم أن مراحل الدولة الإسلامية إنما كانت بالارتحال -أصل مراحل وارتحال المعجمي واحد: ر ح ل- فمن مكة ارتحل العرب إلى المدينة فدمشق فبغداد...، وكلما حلوا بموضع واطلعوا على ما لم يعهدوا تغيروا وفعلوا ما لم يفعلوا.

ولقد صارت الرِّحْلَة عند المسلمين من قديم أساسا من أسس طلب العلم -ولا ينفك عِلْم مِنْ عَمَل- حتى لقد استنبطتُ من طريقة كلام بعض المؤرخين عن عبد القاهر الجرجاني (أحد علماء القرن الهجري الخامس الأفذاذ)، أنهم كانوا يعجبون من عدم رحلته عن بلده؛ فقد وَقَرت في قلوبهم ضرورةُ الرحلة، وصدَّقتها أسفارُهم الدائمة، فكأنما رَسَخَت في إيمانهم!

ولا يقتصر طلب العلم على الشباب؛ فلا يستغني عن السفر أحد، لا كبير ولا صغير. وما أكثر ما انفتح بالسفر للعلماء -وطلاب العلم هم وحدهم العلماء- من أبواب التجديد؛ إذ يطلعون على ما لم يطلعوا؛ فينتبهون إلى ما لم يعرفوا، فيراعون ما يستجد لهم.

ومن أشهر أمثلة ذلك العربية الإسلامية الإمام الشافعي؛ فإنه بعدما سافر إلى مصر، استحدث ما لم يكن يراعيه في آرائه العراقية، حتى صار المتحدثون عنه يقولون: قال الشافعي في الجديد، وقال في القديم! وليس أكثر اليوم من أمثلة علمائنا الذين رحلوا إلى أوروبا وأمريكا، فانفتح لهم من أبواب الفهم والإتقان والإبداع ما كان في مواطنهم مغلقا.

3

وينبغي لمن سافر أن يتحقق بمعنى السفر، أي أن يحرص على الاكتشاف والانكشاف جميعا معا، حتى تنفتح للتغيير أبوابه -"إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"- فأما من سافر، واستخفى عمن حوله وما حوله، فقد استخفى عن نفسه، وضيَّع عمره، وما ألطف استعمال العمانيين لكلمة عُمْر بمعنى كلمة نَفْس في مثل قولهم: ضَيَّع عُمره! وصَدَقوا؛ فما الإنسان إلا أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضه!

وينبغي لي أن أُشهد نفسي على ذلك؛ فقد كثرت أسفاري، وتحوَّلَتْ بها أحوالي، ولا ريب في أنني لو لم أفعل لم أنجز كثيرا مما أنجزت، وما النَّقْل الذي تَوَّجْتُ به كلامي هذا غير مقطع من قصيدتي القديمة "سيرة العلامات والنجوم"، التي لا يخفى ما في عنوانها من استلهام قول الحق -سبحانه، وتعالى!- فيما أَيَّدَ به المسافرين: "وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ". وتَأَتَّيْتُ فيها للكلام عن السفر بالكلام عن مدن سافرت إليها، واختلفت طرقها: سُلَّمًا (إلى فوق)، ونَفَقًا (إلى تحت)، وأُفُقًا (إلى أمام)!

4

وقد نصح لنا الحق -سبحانه، وتعالى!- أن نسافر وننظر ونعتبر، بمثل قوله: "فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ". وحذر المعتذرين عن تغيير أنفسهم بتسلّط غيرهم عليهم، أنه سيعاتبهم على عدم السفر: "أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا"؛ فمن ثم ينبغي أن نعلم أبناءنا فيما يتعلمونه صغارا أن السفر ضرورة، حتى يوطِّنوا عليه أنفسهم، كما فعلتُ حين اشتريت لابني حقيبةً جيدة، وقلت له ولأمه وإخوته: بهذه سيسافر بَرَاء -إن شاء الله- ليحصل على الدكتوراه، فابتسموا ورأوه بعيدا، فابتسمتُ ورأيته قريبا؛ فكُلُّ آتٍ قَريبٌ!

ومن كلام المصريين الذي يملكون بعضه دون بعض: "اللِّي يْعِيشْ يَا مَا يْشُوفْ وَاللِّي يِمْشِي يْشُوفَ اكْتَرْ"، الذي كأنه حوار خفيّ، يستسلم المقيمُ في أوله، ويستشرف المسافرُ في آخره!