شيء عن الديمقراطية ..
عقاب يحيى
رغم أني من سنوات طويلة أتحدث عن الديمقراطية، وارفع شعارتها بقوة الصخب والحاجة إليها.. إلا أنني، وبصدق، أسأل نفسي مراراً، خاصة في الامتحانات الموجبة : هل أنا ديمقراطي فعلاً؟؟.. وهل تقولبت فيها، وآمنت بها، واقدر على تجسيدها ؟؟.. وإلى أي حد يمكن أن أكون منتمياً إليها، وواعياً لماهياتها وتطبيقاتها ؟؟؟؟....
ـ زمان كنت أستغرب وأسخر من اعتبار الأحزاب الشيوعية أنها ديمقراطية، أو البعث الأحادي، أو توصيف الأجنحة اليسارية بأنها ديمقراطية.. وكنا نلوي عنق الحقائق بمنحها تفسيرات ثورجية، وحمراء، وقسرية.. بالمعنى الشمولي، والصيروري.. رغم أننا كنا مقتنعين بذاتية القيادة للحزب، او القوى التقدمية في أحسن الأحوال، وبحجب، وتهميش، واجتثاث الآخرين، بل وحتى تصفيتهم سياسياً وفكرياً، وبعضنا يذهب حد التصفية الجسدية للآخر : المعادي، ووفق قوالب ثورية، ومقاصل ثورية ..ومع ذلك يتم تغليف ذلك بعناوين الديمقراطية.
ـ وانتشينا ونحن نطرح منذ أواسط السبعينات الديمقراطية، ونطمح لبناء نظام وطني ديمقراطي بديل، ونفرح لبعض تقدمنا النظري، وجزئياً : الميداني في وعي بعد الديمقراطية، وممارستها..رغم أن بنية الاستبداد وقوة قمعه لم تتح لنا النضوج بوضع طبيعي، ولا تكامل نزوعاتنا المشروعة، وامتحانها في الواقع .
ـ اليوم يكثر الضجيج حتى الصراخ الثاقب للسمع عن الديمقراطية و"أهلها" ، والديمقراطيين بعلمانية أو بدونها، وبيسارية أو ليبرالية قديمة ومجددة .. والبعض يريد ان يحتكر الديمقراطية، وأن يبقيها أو يسجنها في قفصه الذاتي كملكية خاصة ..ووقفاً عليه، وأنه هو الديمقراطي حتى لو كان فرخ الاستبداد يُشهر أنيابه من بين فكيه العريضين البارزين، وحتى حين تظهر بعض دماء الاثار فيه قوية، وأنه قدر الأمة والثورة والتاريخ والجعرافيا ـ بكل الأوضاع ـ وأن غيره لا يمكن أن يكون ديمقراطياً، ويجب محاربته، وحصاره.. وتصفيته.. وهذا أول درس في الديمقراطية الاستبدادية .
ـ وحين يحكّ بعضنا تلك القشرة الرقيقة، الصبغية، أو المتموضة، أو المقتنعة بأهمية الطلاء، أو أهمية التحول الديمقراطي يخرج غول الأنا مفترساً، مهولاً.. وتنبت أفراخ الاستبداد النهم تنهش كل شيء.. ولكن بيافطة ديمقراطية. وبشعارات كبيرة غالباً ما تتناول الآخر، وتوجه السهام له..
ـ يصدق هذا في الامتحانات الخاصة : داخل كل منا مع نفسه، وفي إطار بيته، خاصة في النظرة للمرأة والتعامل معها، أو مع الآخرين، ويظهر جلياً في الامتحانات السهلة.. ناهيك عن الامتحانات الحقيقية التي لم نخضها بعد.
ـ لنعترف بتواضع الحقائق : ان الديمقراطية ليست حالة ذاتية.. رغم أن بعض الأفراد يمكن أن يكونوا متقدمين عن غيرهم فيها، وأنها نتاج تطور المجتمع وبناه، رغم القناعة هنا بأسبقية الوعي ودوره، وأننا جميعاً ـ مع التفاوت ـ نتاج أنظمة الاستبداد الشمولي وما فعلته بنا على مرّ العقود، وأننا بحاجة ـ جميعاً ـ أن نتعلمها، ونهجي أحرفها، ونحاول ممارستها فينا داخلنا وفي الأطر التي نعمل فيها، مع الآخرين..وأننا نحتاج المزيد من الجهد، والتجارب كي تتجسّد فينا وتنتج مولداتها الطبيعية.. غير القسرية، وغير المفتعلة، والواجهية، وصولاً إلى تكريسها نهجاً، وحاضنة، ونمط حياة تسري على الجميع، بمن فيهم التيارات الإسلامية المنفتحة، وتلك التي تطرح اليوم إقامة نمط إسلامي يمثل هنا حالة فرض اقرب لتوليد الاستبداد المعمم .
ـ إن ألف باء الديمقراطية الإيمان بحق الآخر في الاختلاف والتعبير والحياة والعمل السياسي وغيره، والاقتناع بأن لذلك الآخر كل الحق فيما أعتبره حقوقي أنا، وأن أعترف بأنه مختلف عني ومع ذلك يمكن التعايش والتفاعل والتنافس الحر في ميادين الفكر والسياسة، والانتخابات، والتحزب وسوى ذلك من مجالات. وان الدولة المدنية الديمقراطية هي دولة المساواة للمواطنين جميعاً بما هم فيه وعليه من معتقدات، وتوجهات وتنظيمات ورؤى.. ووعي.. وأن الديمقرلطية تتنافى وأفكار الاستئصال، والاجتثاث، واحتقار، ومحاربة فكر ومعتقدات الآخر ..ومع الشمولية، والفرض، والاحتكار..
ـ حين تتوضح الأسس يمكننا جميعاً أن ندخل مدرسة الحياة الديمقراطية، نتعلم فيها، ونمارس حقنا باختلافنا وتنوعنا ..