الحوافز التعليمية في مدارسنا
جميل السلحوت
من المحزن أن العملية التعليمية عندنا ترتكز على التلقين وحشو المعلومات في رأس الطالب، ولا تلبث أن تتبخر من رأسه بعد تقديمه للامتحان، ولو جرى اشغاله بالبحث عنها واقناعه بها لبقيت مترسخة في عقله ووجدانه مدى حياته، ويبدو أن مقولة أحد الفلاسفة"أنا أفكر إذن أنا موجود" غير موجودة في بلاد العربان، بل بالعكس فان من يفكر قد يُضطهد على مستوى الأفراد والمجتمع والدولة، وهذا ما جرى لفلاسفة "العصر الذهبي الاسلامي" حيث اتهم الكثيرون منهم بالزندقة واضطهدوا لأن من عاصروهم لم يفهموهم، ولهذا فإنّه لم يظهر مفكرون عرب منذ ابن خلدون"1352م-1382-وهو بالمناسبة أمازيجي- وليس عربيا، ينتجون ثقافة عالمية سوى الراحل ادوارد سعيد " نوفمبر 1935 القدس - 25 سبتمبر 2003"وللتذكير فإنّه ولد في القدس وتلقى تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية وعاش ومات فيها. ومفيد هنا أن نتساءل عن الأصول العرقية لبعض فلاسفة وعلماء وفقهاء"العصور الذهبية" في التاريخ العربي والاسلامي أمثال سيبويه ونفطويه والفارابي والنيسابوري وغيرهم كثيرون، فلماذا لم يكونا عربا؟ ولماذا واضع أصول النحو العربي ليس عربيا؟ وهذه التساؤلات ليست من باب التعصب القومي، أو التقليل من شأن القوميّات الأخرى، وإنّما للبحث عن الأسباب التي تلجم العقل العربي وتمنعه من الابداع!
وما دام موضوعنا عن التعليم المدرسي فلماذا لا نبحث ونعمل على تطوير التعليم في بلداننا؟ ولماذا لا نستفيد من تجارب وخبرات الشعوب الأخرى المتقدمة في مجال التعليم، ما دمنا مستهلكين لسلعهم ومنتوجاتهم الصناعية وحتى الزراعية التي هي نتاج التطوّر العلميّ عندهم؟ أم أنّنا سنحافظ على ما نحن فيه من واقع لا يسرّ الصديق ولا يغيظ الأعداء؟
فعملية التعليم عندنا تقوم على قهر الطالب ومحاصرة قواه العقليّة وحصرها وقولبتها في معلومة المنهاج الدراسيّ دون تفكير بالجدوى. فلا نخطط لحاضرنا ولا لمستقبلنا ونتغنى بـ "بأمجاد الماضي"دون تمحيصها. وننسى بل ربما لم تسمع الغالبية العظمى منّا بمقولة أحد المفكرين"بأن الله خلق عيني الانسان في مقدمة رأسه كي يرى ما أمامه وليس خلفه".
ومع ذلك هل نعزز ونشجع الطالب في فهم واستيعاب ما نريده منه في التعليم، أم أنّ أساليبنا التعليميّة تقوم على التهديد والوعيد؟ ففي الواقع أن الأساليب التعليميّة عندنا قائمة على التهديد والوعيد، وفي أيامنا هذه ومع وجود قوانين تمنع التعنيف الجسدي واللفظي للطلاب، إلّا أنه من السهل أن ترى الكثيرين من معلماتنا ومعلمينا يدخلون الصفوف الدراسية وفي أيديهم عصيّ مختلفة الأشكال والأنواع، ويبدو أن أسلوب التهديد والوعيد ثقافة سائدة عندنا، فعلى سبيل المثال فان من يستمع لخطب صلوات الجمعة والأعياد في مساجدنا، سيجد لهجة التهديد والوعيد هي السائدة، وكأن الخطيب في حرب مع المصلين، وغالبية الخطب"الدعويّة" تقوم على التهديد بعذاب يوم القيامة في نار أقلّها "سقر" وهو"جمرة اذا وضعت تحت الكعب غلى منها الدماغ"! وقليل جدا ما نسمع الخطب عن الثواب للمؤمنين، حتى أنّ بعض الظرفاء كتب ذات يوم معقبا على ذلك" من يستمع الى خطب المساجد عندنا يعتقد بأن الله لم يخلق عذاب الآخرة إلّا لتعذيب المسلمين"! وأسلوب التهديد والوعيد سائد عندنا في البيت أيضا، بين الأزواج بعضهم البعض، وبينهم وبين الأبناء، ثمّ في المدرسة والمسجد، وحتى في الجهاز الوظيفي، وحتى في علاقة الحكومات مع المواطنين.
ويكاد الثواب والمكافأة تكون معدومة عندنا، وإن وجدت فهي بشكل بسيط وهزيل، وقد يدعو الى السخرية. وللتدليل على سياسة تعنيف الطلبة عندنا والتي لم تتبدل مع تطور الحياة أذكر أنّني كتبت وأنا في الصف الابتدائي الرابع"1958-1959"موضوعا في التعبير في البيت بناء على طلب المعلم، وعندما قرأه المعلم سألني: من كتب لك الموضوع أمّك أم أبوك؟ فأجبته ببراءة طفل: والله أنا من كتبه, ولم أجبه وقتها؛لسبب لا أعرفه الآن بأن والديّ أمّيّان، فانهال عليّ ضربا بعصا في يده وهو يردد" غشّاش وتكذب أيضا" فالتفت الى صراخي من الألم معلم الدّين فأمسك بزميله المعلم وهو يسأله: لماذا تضرب هذا الطالب فهو مجتهد، فأخبره بالقصّة، فقال معلم الدين: إنّه مجتهد ويكتب الاجابة بعبارات قويّة في أوراق الامتحانات، وبإمكانك أن تختبره بكتابة موضوع أمامك، فاصطحبني المعلم غاضبا الى غرفة المعلمين وأعطاني ورقة وقلما، وطلب مني تحت التهديد بأن أكتب موضوعا أختاره أنا، وكان اليوم ماطرا فنظرت الى نافذة الغرفة وحبّات المطر ترتطم بزجاجها فوصفت له المطر ووضعت عنوانا للموضوع"يوم ماطر" كتبت صفحة بسرعة وناولتها للمعلم فلمّا قرأها "كافأني" بلطمة من يده على رقبتي وهو يردد" هذا كاين شاطر يا تيس"! وفي آخر العام الدراسي كافأت إدارة المدرسة الطلبة الأوائل في كلّ صف بتقديم طابة صغيرة ملونة لكلّ واحد منهم ثمنها "قرش ونصف القرش" ومع بساطة الجائزة وقيمتها المدّية، إلّا أن مردودها الايجابي على نفسية ومعنويات مستحقيها كانت كبيرة جدا.
في حين كان المربّون والمدراء يكتبون في خانة الملاحظات بشهادة الطلبة الراسبين، بمن فيهم طلبة الصف الأوّل الابتدائي"لا فائدة ترجى من تعليمه"! فهل يوجد إحباط لطفل أكثر من هذا الاحباط؟ وهل تغيّرت أساليب التعنيف والتهديد والوعيد في أيّامنا هذه، وهل يوجد تعزيز للطلبة المتفوقين؟ والجواب لا أعتقد ذلك.
ولكن تم استحداث حفلات تخريج لآخر صفّ في المدرسة لتركه المدرسة وانتقاله الى مرحلة أخرى، ويتمّ فيها استئجار قاعة فاخرة، تجبى تكلفتها من الطلبة، ويدعى الى هذه الحفلات مسؤولون تربويون وسياسيون ووجهاء وأولو أمر الطلاب الخريجين، تلقى فيها خطابات رنّانة تشيد بادارة المدرسة ومعلمّيها، وأمنيات بالتوفيق للطلبة، أي أن حفلة التخريج تكون لتعزيز دور الادارة والهيئة التدريسيّة، وليس لتعزيز ثقة الطلاب الذين سيغادرون المدرسة.
ودعونا نتساءل كم من معلمينا من يثني على الطالب المجتهد بكلمة حسنة في صفّه على الأقلّ وأمام زملائه؟ وكم من الآباء عندنا من يشتري لعبة مكافأة لطفله المجتهد عندما يأتيه بشهادة آخر العام الدراسي متفوّقا؟ وكم منهم من يشتري له كتابا يناسب أو لا يناسب عمره لينمّي عنده هواية المطالعة مثلا، ويشجعه على زيادة المعرفة؟
وهل جرى تدريب معلمينا وتوعيتهم بضرورة الثناء على الطلبة المجتهدين، وملاطفة وتعزيز قدرات الطلبة غير المجتهدين؟ وهل جرّب معلمونا حلاوة مردود ذلك على علاقتهم بطلابهم؟