إذا تكلّم الدّولار, فليسكت الحوار
نارين عمر
حول غلاءِ الأسعار قال أحدهم ممازحاً وهو خاطب حديثاً:
"أتعرفون أنّ الفتاة عندنا صارت من أرخص السّلع, لأنّ مهرها بات هو الأرخص من بين معظم عقود البيع والشّراء, فخطيبتي مثلاً مهرها الآن "900" دولار, أي ما يعادل الأربعين ألف ليرة سورية سابقاً, وتحديداً قبل بدءِ الثّورة, ما يعني أنّ بإمكان كلّ رجلٍ منّا الزّواج من أربع نساء دون أن يشعر بإرهاق أو تعبٍ يصيبان جيوبه أو يؤثّران على وضعه الماديّ أو المعنوي".
عبارات أطلقها الشّاب ببساطةٍ ومرح, أثار ضحك وقهقهة الجالسين, دون أن يدري أنّه بكلامه رشّ كوباً مليئاً بالملح الخالص على جراحنا المالحةِ أصلاً والعميقة عمقَ مآسينا ومصائبنا لأنّ الرّخيصَ في مجتمعنا ليس الفتاة بل الإنسان ككلّ. الإنسان بروحه وجسده وما يحملان من جوارح وأحشاء بات الأرخص من بين جميع الكائناتِ الحيّة والجامدة في وطننا, وصار الرّقم الأكثر إهمالاً وثانويّة حتّى صارَ ذاته يتعامل مع ذاته بهذا الأسلوب والمفهوم.
التّساؤلات والاستفسارات تكثرُ منذ فترةٍ وخاصة خلال هذه الأيّام حول ارتفاع الأسعار, والمسبّب الرّئيس عنها, والمسؤول المباشر لها, كلّ يحاولُ إلقاء الّلوم والمسؤولية على الآخر, كلٌّ يحومُ حول الأسباب والمسبّبات دون أن يدخل إلى عمقِ الموضوع, وسبر أغواره, وتبيان آثاره الكارثيّة على الفردِ والمجتمع معاً.
وسائل الإعلام المختلفة المرئيّة والمسموعة والمقروءة تطرحُ الموضوع بجدّيّة, تحاول الغوص في العمق الاجتماعي أو المجتمعي, تطرحُ العديد من الأسئلة والاستفسارات على عامّةِ الشّعبِ من الفلاحين والعمّال وصغار الكسبة وأرباب وربّات البيوت حول آرائهم في هذا الغلاء الذي يفوقُ كلّ التّصوّرات والتّوقعات. طبعاً كلّ منهم يجيب انطلاقاً من واقعه اليوميّ المعاش, وقد يطلقُ مع إجابته صرخة ألم أو أنّة وجدٍ, ولكنّه لا يستطيعُ الذّهاب إلى أكثر من ذلك, أو أنّه لا يريدُ ذلك أو لا يهمّه الوقوف على ذلك, لأنّ همّه الأساسيّ والأهمّ هو توفير أدنى درجات العيش له ولأسرته رغبة منه في البقاء والاستمرار.
الأسعار في علوّ وارتقاء, في تبختر وخيلاء, في تزايد ونماء, أسعار جلّ السّلع والبضائع باستثناءِ الإنسان الذي يتلاعبُ بهذه الأسعار, ويسيّرها كيفما يشاء وكأنّه ملك الأرض وسلطان السّماء ناسياً, بل متناسياً أنّه يتلاعب بإنسانيته ووجوده ويقامر على بقائه ووجوده, ويقلّل من سعره ومن هيبته.
مَن المسؤول عن غلاء الأسعار؟ النّظام الذي فقدَ سيطرته على معظم مناطقنا الكرديّة أم مجالسنا الكرديّة ومَنْ يدورُ في فلكها التي ترى نفسها البديل الفعليّ عن النّظام؟
إذا كانت مجالسنا الكرديّة هي مَنْ تحكمنا وتتحكّمُ بنا, لماذا لا تتصرّفُ معنا كمحكومين ورعايا على أساس الحاكم والمحكوم؟ لماذا لا تمارس سلطاتها كافة علينا بعدل وإنصافٍ ومساواة, فتوفّر لنا أسباب العيش الملائم والمناسب؟ لماذا لا تحاسب الجميع على قدم وساق, فتجازي الصّالح وتحاسب الطّالح؟ كيف لنا أن نشعرَ بحرّيتنا وسهام الحاجة تصوّب نحونا من كلّ صوبٍ وحدب؟ كيف لنا أن ننعمَ في ملكوت السّلام والسّكينة وأشواك العوز تدغدغ موضع نومنا ورقودنا؟ أليس هناك تلازم توأميّ بين الحرّية والعيش الكريم, بين السّلام والعيش الهانئ, بين العطاءِ والحقوق المشروعة؟ فليتوفر لنا ما هو حقّ لنا, لنحقّق ما هو واجبٌ علينا. لنأخذ ما يدعمنا بجرعاتِ الحياةِ اللائقة بنا, لنمنحَ الحياة المقام الملائم لها.
إنساننا لم يعد يهمّه جشع هذا التّاجر أو استغلال ذاك الجشع. لم يعد يرغب في محاسبةِ هذا البائع أم مساءلة ذاك الانتهازيّ. نعم لم يعد يهتمّ لأمرهم, لأنّ معظمهم تحوّلوا إلى مصّاصي الدّماءِ والأحشاءِ والجيوب والعينين والأذنين. هم فقط ينشرون قصاصات بسيطة مدوّنة عليها ما يلي:
((يُطلَبُ إلى مَنْ يقودوننا الآن الإسراع إلى وضع الحلول الكفيلة بتوفير أدنى درجات العيش اللائق بإنساننا ووفقَ الإمكانيّات المتاحة لئلا يتوه في دروب لا يستطيع أحد التّكهّن بتشعّباتها وشروخها! إنساننا بات على درجاتٍ عاليةٍ من الوعي الذّاتي والإدراكِ الفطريّ بصعوبةِ المرحلةِ الرّاهنة التي نمرّ بها, وقساوة الظّروفِ التي نعيشها, لذلك هو لا يطلب الآن العيش المزخرف بالكماليات والمنقوش بريش النّعام, فقط هو يطلب كفاف العيش الكريم في ظلّ حاكم يتمنّى أن يكون رؤوفاً به وحكيماً, قادر على تسيير مركبِ حكمه إلى شواطئ الحكمةِ والصّوابِ والسّلام له ولرعيّته جميعهم)).