العمل التطوعي وأثره على المجتمع
م. أسامة الطنطاوي
يمكن تعريف العمل التطوعي بانه "منظومة القيم والمبادئ والأخلاقيات والمعايير والرموز والممارسات التي تحض على المبادرة بعمل الخير الذي يتعدى نفعه إلى الغير؛ إما بدرء مفسدة أو بجلب منفعة، تطوعاً من غير إلزام، ودون إكراه".
إن مفهوم "العمل التطوعي" بهذا المعنى يقع في منظومة الفكر المادي العلماني على طرف نقيض لمفهوم "الواجب" أو "الإلزام"؛ ولذلك نجدهم يفرقون بين "العمل التطوعي" و"العمل غير التطوعي"؛ ومن ثم بين القطاع الخيري (أو اللاربحي)، وقطاع الأعمال (أو الربحي)، وبين المنظمات الحكومية والمنظمات غير الحكومية أو الأهلية.
والأمر جد مختلف في منظومة الفكر الإيماني الإسلامي؛ إذ يتصل التطوع بالفرض، كما تتصل السنة بالواجب اتصالاً وثيقاً، يصل أحياناً إلى حد انتقال العمل الواحد من موقع "التطوع" إلى موقع الفريضة الملزمة، وذلك في الحالات التي عبر عنها الفقهاء بمفهوم "فروض الكفاية"؛ وهي تلك الأعمال التي يتعين القيام بها لمصلحة المجتمع أو الأمة كلها، ويناط ذلك بفرد أو بجماعة منها أو فئة معينة تكون مؤهلة لهذا العمل على سبيل التطوع، فإن لم ينهض به أحد صار العمل المطلوب فرضاً ملزماً، ويأثم الجميع ما لم يقم هذا الفرد أو تلك الفئة أو الجماعة - أو غيرها - بأدائه على الوجه الذي يكفي حاجة المجتمع.
وكلما كان الفرد أو الجماعة أو الفئة أكثر قدرة على القيام بأداء فرض الكفاية على سبيل التطوع وتقاعس عن ذلك، كان نصيبه من الإثم أكبر من غير القادر أو الأقل قدرة منه.
ولم يحظ العمل التطوعي في أي ثقافة أجنبية بمثل المكانة التي حظي بها في الثقافة الإسلامية، ومع ذلك فإن ثقافة التطوع في المجتمع العربي والإسلامي لا تأخذ المكانة الهامة التي يجب ان تكون عليها.
وما يلفت النظر هنا هو أن التدني في فاعلية التطوع في معظم المجتمعات العربية يأتي في وقت هي أشد ما تكون فيه حاجة إلى تنشيط فاعليات العمل الأهلي كافة، وفي القلب منها فاعليات العمل التطوعي؛ وذلك لأسباب تعود إلى طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها من جهة، ونظراً لصعود موجة الاهتمام العالمي لما يسمى القطاع الثالث أو اللاربحي من جهة أخرى، مع ما يفرضه هذا الصعود من ضرورة التفتيش عما تملكه في مخزونها الثقافي والقيمي من محفزات ودوافع لتنشيط العمل التطوعي وتطويره.
يتحدث كثير من الباحثين والعلماء عن ظاهرة "اللاتطوعية" في المجتمع العربي والإسلامي بصفة عامة، هذا بالرغم من أن ثقافة التطوع في مجتمعاتنا ترتكز نظرياً علي نواة صلبة من عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر وهي التي دفعت المجتمع الإسلامي على مر الزمن أفراداً وجماعات إلى المبادرة بفعل الخير، والسعي طواعية لتقديم العون للآخرين ابتغاء وجه الله تعالى. وقد ارتبطت بهذه النواة الصلبة للتطوع منظومة معرفية واسعة المدى من الأعمال التطوعية التي تبدأ بأبسط الأمور مثل "الابتسامة" في وجه الآخر، و"إماطة الأذى عن الطريق"، وتصل إلى التضحية بالنفس في سبيل الله. وتشتمل هذه المنظومة أيضاً على مفاهيم ومبادئ وأخلاقيات تعلي من شأن عمل الخير والبر والإحسان وإيثار الآخرين على النفس، والاحتساب والجهاد بالمال والنفس وبالكلمة والرأي الذي ينتصر للحق. وبعض هذه المفاهيم تحول إلى مؤسسات كان لها دور كبير في حياة المجتمع الإسلامي، ومن ذلك مفهوم الصدقة الجارية الذي نشأت عنه مؤسسة الوقف بتراثها العريق.
والسؤال هو: لماذا هذا "التدني" في فاعلية التطوع وفي جدواه الاجتماعية في عالمنا العربي؟ لا شك أن هناك أسباباً كثيرة يمكن ردها إلى أن "الثقافة السائدة" في هذا المجال ، وقد نبتت تلك الإشكاليات بجملتها في مناخ الحكم الشمولي التسلطي الذي عانت منه معظم المجتمعات العربية على مدى نصف القرن الأخير، حيث تشكل هذا المناخ في إطار فلسفة الرأي الواحد، والأمر من أعلى هرم السلطة إلى أدناه، والامتثال من قاعدة المجتمع إلى حد الإذعان التام، وهو ما يتناقض مع فلسفة التطوع القائمة على المبادرة والاختيار الحر.
و يمكن تلخيص أهم (مشكلة) تواجه ثقافة التطوع في المجتمعات العربية هي في حصار التطوع كممارسة ونشاط بين مطرقة أنظمة غير شفافة وسندان الانتهازية والوجاهة الاجتماعية التي تكاد تفسد بهجة العمل الخيري وروح التطوع.
ويفرق الباحثون عادة بين شكلين من أشكال العمل التطوعي؛ "الشكل الأول ما يطلق عليه السلوك التطوعي: ويقصد به مجموعة التصرفات التي يمارسها الفرد وتنطبق عليها شروط العمل التطوعي ولكنها تأتي استجابة لظرف طارئ، أو لموقف إنساني أو أخلاقي محدد وهو ما تعرفه الثقافة العربية باسم الشهامة والمروءة والنجدة ونحو ذلك من المصطلحات المتجذرة في الثقافة العربية. أما الشكل الثاني من أشكال العمل التطوعي فيتمثل بالفعل التطوعي الذي لا يأتي استجابة لظرف طارئ بل يأتي نتيجة تدبر وتفكر مثاله الإيمان بفكرة تنظيم الأسرة وحقوق الأطفال بأسرة مستقرة وآمنة؛ فهذا الشخص يتطوع للحديث عن فكرته في كل مجال وكل جلسة ولا ينتظر إعلان محاضرة ليقول رأيه بذلك".
ومن هنا تبرز أولى ملامح مشكلة العمل التطوعي في مجتمعاتنا العربية و المتمثلة في غياب التنظيم وهشاشة ثقافة العمل التطوعي بالشكل الذي يتوازى مع حاجات الإنسان العربي التنموية الملحة. ومن جهة أخرى فقد أسهمت بعض مظاهر الانتهازية وتوجيه العمل التطوعي لخدمة أجندات سياسية وحركية في كثير من البلدان في تفريغ العمل الخيري من نقاءه زد على ذلك صعوبة التفريق بين حوافز ونشاطات العمل الخيري التي تفرضها الوجاهة على بعض الرموز الاجتماعية التي بدت في بعض الأحيان وكأنها تتسلى بهموم الناس أكثر من تعهدها توفير مناخ يضع العمل الخيري قضية مجتمع ومشروع دولة تسنده المبادئ الملتزمة بحق الإنسان المحروم والمحتاج في حياة أفضل.
وهناك مشكلة أخرى تواجه العمل التطوعي العربي تتلخص في غلبة العمل الفردي العشوائي على ما ينبغي أن يكون من أعمال مؤسسية تكفل لها أنظمتها ضمان موارد متدفقة وإدارة خبيرة تضمن بقاء أعمال التطوع نشطة يستفيد منها الناس دون تأثر بالأحداث أو المواقف. وقد تجلت مشكلة فردية العمل التطوعي في تحقيقات ما بعد أحداث 11 سبتمبر التي كشفت عن عدم وضوح الموارد والمصارف لكثير من المؤسسات الخيرية الإسلامية التي اتهمت بدعم المفهوم الأمريكي للإرهاب ما أدى إلى تصفية أو تحجيم الكثير من هذه المنظمات في كثير من بلدان العالم.
إذا ما الحل ؟ والجواب أن العمل التطوعي سمة حضارية وظاهرة إنسانية لا يحتاج تنظيمها إلى إعادة اختراع العجلة فمعادلة النجاح قد تكون في ابسط قواعدها لا تحتاج إلا إلى تحديد الأهداف ووضع الخطط الإستراتيجية للأعمال مع توفير الإدارة الجيدة التي تمارس نشاطها بشفافية وكفاءة وفق نظام مالي واضح المداخل والمخارج.