المتضامنون مع فلسطين ينصحون بغضب
د. مصطفى يوسف اللداوي
بتنا نستحي ونخجل كثيراً ونحن نقدم أنفسنا كفلسطينيين لأشقائنا العرب والمسلمين، ولأصدقائنا الغربيين والأجانب، الذين يتابعون القضية الفلسطينية ويحرصون عليها، ويتعاطفون معها، ويحدبون على أهلها ويخافون على شعبها، ويقدمون النصح لقادتها ورموزها، ولا يتأخرون عن نصرتها ومساعدتها، والوقوف إلى جانبها والتضحية في صفوفها، ويبدون استعدادهم لتقديم الغالي والنفيس في سبيلها، غير مبالين بحجم الضريبة، ولا بفداحة العاقبة وسوء المصير، في الوقت الذي لا ينتظرون منا مكافأةً أو أجراً، ولا تقديراً أو وساماً، إذ أنهم يرون أنها قضية حق، وتمس شعباً بأكمله، وتتعلق بمصير أجيالٍ مضت وأخرى ستلحق، وأمةٍ بها مرتبطة ومعها متضامنة ومتكافلة، ومن أجلها تضحي وفي سبيلها تقدم.
هؤلاء الغيارى على فلسطين وأهلها، الصادقون في مواقفهم، والمخلصون في جهودهم، والجادون في تضامنهم، يرون أنه لا يجوز للقوة أبداً أن ترسم الخرائط التي تريد، وتفرض الحق الذي ترى، وتصادر حقوق الآخرين وتبني عليها خرافاتها وأساطيرها، وتعمر مكانهم دولتها وكيانها، وتنشئ جيشها ومستوطناتها، ولا تبالي بالقوانين الدولية، ولا بالاتفاقيات الموقعة، إذ لا يهمها سوى نفسها ومستقبل كيانها وأمن وسلامة مواطنيها ومستوطنيها، ومصالحهم وأعمالهم ومنافعهم، بينما لا تمانع إن مات الآخرون أو قتلوا، أو إن شردوا وطردوا، أو ضاقت عليهم الدنيا وحوصروا، وإن كانوا أصحاب الحق وأهل الأرض، فهم بالنسبة لهم ليسوا بشراً يحترمون، بل إنهم في شرعهم عبيدٌ وخدمٌ، أو حيواناتٌ بُهُمُ يُسخرون ويُركبون، ولا يستحقون الحياة ولا تفيدهم الدولة، ولا تلزمهم الأرض إلا ليكونوا فيها خدماً أو عبيداً.
هؤلاء المتضامنون الدوليون، والمناصرون العالميون، رغم حبهم الشديد لفلسطين وأرضها، وعشقهم لأهلها وشعبها، إلا أنهم يبدون حزنهم الشديد، وأسفهم الكبير لما يرون من الفلسطينيين أنفسهم، الذين يشوهون قضيتهم، ويسيئون إلى نضالهم، ويحرفون مسارهم، وينفرون المتضامنين معهم، ويفضون المؤيدين من حولهم، عندما يرونهم يشتمون بعضهم البعض، ويستهزؤون برموزهم، ويحطون من قدر قادتهم، ولا يوقرون حكماءهم، ولا يحترمون المخلصين منهم، ويستخفون بالتضحية والعطاء، ويستهينون بالمقاومة والنضال، ولا يسعون لصالح بعضهم، ولا يساندون الضعيف فيهم، ولا يناصرون المحتاج منهم، ولا يكرمون ذوي الشهداء، ولا يهتمون بعوائل الأسرى، بل يسخرون وسائل الإعلام المختلفة لشتم بعضهم، والإساءة إلى أنفسهم، وفضح قضيتهم، وتعرية أشخاصهم، وكيل الاتهامات لبعضهم، وبث الكراهية في صفوفهم، دون مراعاةٍ لقدسية قضيتهم، ورمزية نضالهم، وخصوصية ظرفهم، في الوقت الذي تحتاج فيه القضية الفلسطينية إلى التعاون والتكاثف، والتفاهم واللقاء، والتنسيق والتضامن، وبث الفرقة، ورفض الانقسام، والبحث عن كل أسباب الوحدة وعوامل التلاقي والاتفاق، إذا هذا هو سبيل النصر، وغيره طريق الهلاك والبوار.
ولعلهم يقفون باستغرابٍ كبير، واستنكارٍ شديد أمام حالة الانقسام المريعة التي يشهدها الشارع الفلسطيني، وهي الظاهرة التي مزقت الوطن، وزادت في شتات الشعب، وشوهت صورة النضال الفلسطيني، وأسست لحالةٍ مقيتةٍ من الكره والحقد ورفض الآخر، ومهدت السبيل للاقتتال وحمل السلاح في وجه بعضهم البعض، بعد أن شرع الفرقاء ورفاق السلاح السجون لأبنائهم، واستحلوا دماء بعضهم، وتآمروا على مقدساتهم الوطنية، وسفحوا على الأرض منجزات شعبهم التاريخية، واستأثر كل فريقٍ بما ملك، وطغى على ما سيطر، وظلم عندما حكم، واعتمد معايير ظالمة، وأحكاماً قاسية، فحرم الآخرين حقوقهم، وكبت حريتهم، وحبس أنفاسهم، وعد عليهم كلماتهم، وأرعبهم وخوفهم، وضيق عليهم وحبسهم، ومنعهم من مزاولة حقوقهم، أو ممارسة أعمالهم، مستغلاً القوة التي يتفرد بها كلُ فريقٍ في مكانه.
يستغرب المحبون لفلسطين وأهلها وإن لم يكونوا عرباً أو مسلمين، كما يستغرب أبناؤها وأهلها، لماذا لا تلتقي السلطة والفصائل الفلسطينية على الحد الأدنى الذي يخدم الشعب ويحفظ القضية ويصون التضحيات، فهم إذا جاز لهم الاختلاف، فلا يجوز لهم أن يعكسوا خلافاتهم صراعاً بين أبناء الشعب الواحد، أو عقاباً لهم وتضييقاً عليهم.
يتساءلون بألمٍ، ولا يخفون حزنهم، ولا ينكرون أن بعض الإحباط قد أصابهم، ألا يستطيع الفلسطينيون أن يوقفوا التراشق الإعلامي، والمهاترات الكلامية، والمناكفات الحزبية، والشعارات التعبوية، والمفردات المستفزة، والنعوت الخيانية والتكفيرية، والصفات الغريبة، ويكفوا عن فضح أنفسهم، وكشف أستارهم، ونشر غسيل قضيتهم على حبال الإعلام التي تفضح ولا تستر.
هم يفهمون أن هناك ثمة اختلافاتٍ سياسية، وتبايناتٍ في المنهج والرؤية والاستراتيجية، وهناك من يتبني المقاومة طريقاً لتحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات، وهناك من يرفض المقاومة ويستبعدها، ولا يؤمن بها طريقاً للتحرير ولا سبيلاً للعودة، ويرى أن السلام والمفاوضات هما السبيل الأفضل لتحقيق أماني الشعب الفلسطيني.
وهم يدركون هذه الاختلافات والتباينات، ولا يرون عيباً فيها، إذ أنهم يؤمنون بالديمقراطية ويعملون بموجبها، لكنهم يتساءلون لماذا تنعكس هذه الاختلافات سلباً على الشعب، فيعاقب بجريرة قادته، ويحاسب على خلفية مواقف أحزابه وفصائله، فيحاصر ويحرم، ويضطهد ويعذب.
أولئك لا يستطيعون فهم هذا الاختلاف أو القبول به، فهم يرون أن فلسطين كلها تحت الاحتلال، وأن العدو الصهيوني يغتصب الأرض كلها، ويستهدف الشعب كله، ويعاقب الناس جميعاً، ويحاصر السكان كلهم، ولا يميز بين فلسطيني وآخر، ولا يتجنب قتل ابن فتح ويتعمد قتل ابن حماس، بل إن رصاصه طائش، وقذائفه عمياء، يصيب بها من يشاء، دون تفريقٍ أو تمييز، طالما أنه يصيب فلسطينياً ويقتله، فلا يعنيه أن يكون هذا الفلسطيني ينتمي إلى حركة فتحٍ أو حماس، أو إلى الجبهة أو الجهاد، لكن ما يعنيه بجدٍ أنه تمكن من إزاحة فلسطيني من أمامه، وقتل معارضاً لمشروعه، ومقاوماً لكيانه.
هؤلاء يتحدثون ببساطة، ويعبرون بعفوية، ويقولون ما يحسون به طواعيةً دون تكلفٍ ولا تعمدٍ، ولا توجيهٍ أو إرشاد، بل ينطقون بما يريدون، تعبيراً عما يرون ويشاهدون، ولكنهم لا يدرون أنهم يتحدثون بلسان أغلب الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، فهم جميعاً يفكرون مثلهم، ويتعجبون ويستغربون حالهم، ويتساءلون إلام الخلافات الفلسطينية البينية، ولماذا هذا التراشق الإعلامي البغيض، الذي يضر ولا ينفع، ويفرق ولا يجمع، ويباعد ولا يقرب.