طقوس الإشارات والتحولات
حازم نهار
زمان الوصل – 15/8/2013
لعل من أخطر الأمور ظاهرة اختزال الموقف السياسي أو الرؤية السياسية في رموز أو صور أو شعارات، فهي مفتوحة على احتمالين لا ثالث لهما، إما النجاح أو الفشل. وفي كثير من الأحيان يصعب تصحيح الخطأ، فهي تؤدي غالباً إلى اصطفافات سريعة من دون تفكير، ليصبح التمسك بالرمز والصورة والشعار أكثر بكثير من القضايا الجوهرية، وهنا مكمن خطورتها وأهميتها في آن معاً. فقد تؤدي الرموز والصور دوراً إيجابياً في إيصال الرؤية السياسية أو الأهداف، وقد يكون تأثيرها سلبياً يصعب تجاوزه بسهولة، خاصة عندما يجري خلقها واعتمادها من دون دراسة متأنية وكافية لضمان معرفة تأثيرها والدور الذي يمكن أن تقوم به.
تستخدم الإشارات والرموز والرسوم والصور والشعارات عادة لنقل رسالة أو هدف ما بنظرة واحدة من دون الحاجة لأي شروح ومحاضرات بما يخلق تحولات مرغوبة في الواقع، لذلك تعتبر الدعاية والإعلان والتسويق عناصر مهمة في العمل السياسي، تماماً كما هو عليه الحال في التجارة والاقتصاد، ووسائلها هي اللغة والإشارات والرموز والشعارات والصور التي يقع على عاتقها خلق التحولات والطقوس والبيئات المؤيدة وتحشيد الرأي العام والإقناع وإيصال الرسائل السريعة والمباشرة، ومما لا شك فيه أن عدم اتقان هذه العلوم أو الفنون له دور سلبي، وقد يكون كارثياً على أي قضية سياسية مهما كانت عادلة ومحقة.
لم تنجح المعارضة السورية، وكذلك الثورة، إلا فيما ندر، في إبداع رموز وشعارات مكثفة ذات دلالة، والأنكى أن شعاراتها ورموزها لم تكن واحدة وتوافقية، بما جعل الرموز العديدة والشعارات المتنوعة التي صدرت عن أطرافها وفئاتها كافة غير ذات قيمة، وبعضها كان له وقع سلبي في الأنفس، بمن فيها بعض الشرائح المناصرة للثورة. فهذا العمل ليس اعتباطياً، إذ يتطلب دراسة ومعرفة الجمهور الذي يتم الاتصال به، وانتقاء الوسائل المناسبة للتواصل، ودراسة الرسالة الموجهة شكلاً ومضموناً، والعوائق التي تقف في وجه وصولها، والنتائج المتوقعة، والمخاطر المحتملة وكيفية الحد منها.
لقد تم مثلاً تغيير العلم بشكل اعتباطي من دون بحث مسألة تأثير تغييره على المناصرين للثورة وعلى الموالين للنظام والمحايدين، وكيفية تعاطي الجميع مع هذا التغيير. كان ينبغي معالجة العديد من الأسئلة آنذاك، فضلاً عن مناقشة مدى شرعية هذا التغيير، خاصة أن العلم يمثل رمزاً سيادياً يعبر عن جميع السوريين وليس فحسب عن المناصرين للثورة، هذا إذا افترضنا أن جميع الواقفين مع الثورة كانوا مؤيدين لتغيير العلم، وهو افتراض غير صحيح بالتأكيد.
من تلك الأسئلة مثلاً: ما تأثير هذا التغيير على المحايدين، هل سيحبون العلم الجديد؟ هل الألوان الجديدة مريحة للنظر؟ ما تأثير تغيير العلم على المجتمع السوري، أليس من الممكن أن يشجع على حدوث انقسام حاد وكأننا حيال شعبين في دولة واحدة؟ ألا يوجد نسبة من المناصرين للثورة يحبون العلم الرسمي؟ كيف ستكون ردة فعل الموالين للنظام، وكيف سيهاجمون هذا الفعل؟ أليس من الوارد أن يطلقوا عليه اسم "علم الانتداب" كشكل من أشكال اتهام الثورة بوطنيتها؟ هل كان من الصعب اختراع "رمز" مركزي معبِّر عن الثورة يجري حمله إلى جانب العلم الرسمي؟، وأسئلة أخرى غيرها. لكن للأسف هناك من أراد إلباس الثورة السورية الثوب الليبي بأي طريقة، ولم يكن مستعداً للتفكير والاستماع لأي رأي آخر.
طمحت الثورة أن تنحاز إليها برجوازيتا دمشق وحلب، فيما كانت رموزها وشعاراتها في الغالب الأعم ريفية الطابع. أرادت من "الأقليات الدينية"، على الرغم من اشمئزازي من هذا التعبير، الانحياز لها فيما كان السادة المعارضون يستخدمون تعابير منفرة، مثل "الطائفة الكريمة"، وفي محطات كثيرة نسوا الشعارات الوطنية التي أطلقتها الثورة. بالطبع نستطيع أن نفهم ونفسر أسباب القصور، ولا يغيب عن بالنا أبداً أن طرق تعامل النظام مع الثورة كانت من العوامل الحاسمة في الدفع إلى هذه الخيارات، إلى جانب عدم وجود طبقة سياسية معارضة ناضجة، كما نفهم أن جميع القصورات لا تلغي من عظمة الثورة وتضحيات أهلها.
ما تأثير ظهور بعض "قيادات المعارضة" مرة بالزي الرسمي وأخرى باللباس الشعبي كما حصل، ما تأثير ألوان الثياب التي يرتديها المعارضون؟ ما تأثير اللهجة المستخدمة على مسامع السوريين؟ ما تأثير نبرة الصوت في استراق أسماع الآخرين؟ ما تأثير الكلمات الخطابية على الشعب السوري في لحظات أو مناسبات معينة؟ ما تأثير تعدد وتضارب وتناقض الشعارات المرفوعة؟ ما تأثير ظهور صورة المعارضين في مؤتمر ما بشكل غير منظم ومن دون اتزان؟ كل هذه الأسئلة مهمة، وأخرى غيرها، في العمل السياسي، ومن لا يدرك أهميتها من الأفضل له أن يجد عملاً آخر غير السياسة.
لا أبالغ إن قلت أن هناك تأثير للألوان في الموقف السياسي. "المنحبكجية" مثلاً يعشقون اللون الأحمر في العموم، وله وقع خاص في أنفسهم، ولهذا اللون دلالاته الأنثوية والمفرحة، وقد اشتقوه من العلم الرسمي واستخدموه على نحو مكثف في شعاراتهم وصورهم، بخاصة أنهم ينظرون للثورة على أنها حركة جماعات دينية معادية للمرأة وخالية من الفرح. بالطبع هي رؤية سطحية وغبية، بخاصة عندما لا تستثيرهم مناظر الدماء الحمراء لأبناء وطنهم، لكن يفترض بالسياسي التعاطي مع هذه الرؤى وعدم نسيانها وأخذ التأثير اللوني في الاعتبار.
لا أبالغ أيضاً إن قلت أن النظام قد وضع استراتيجية مدروسة لمواجهة الثورة بعد صدمته في الأشهر الأولى، كان من ضمن أبعادها قتل الفرح فيها، وتحويلها إلى ثورة منهمكة في مواجهة رصاصه وتستهلك جزءاً كبيراً من وقتها في دفن الشهداء والبكاء عليهم بما يجعلها تتجه نحو الإغراق في الشعارات الدينية والتطرف، وليصاب أفرادها بالحزن والاكتئاب اللذين سينعكسان على رموزهم وإشاراتهم وشعاراتهم وخطابهم، وهذا سيساهم بالضرورة، إذا أضفنا إلى ذلك غوغائيات بعض شخوص المعارضة خارج سورية، في انفضاض العالم الغربي وقطاعات واسعة من المجتمع السوري، فلا أحد يعشق الحزن.
بالطبع، ما كان ذلك ليحدث لو تركت الثورة لمدة أسبوع واحد من دون قتل، فالسوريون أهل فرح، وخير من ينشر الجمال في أصقاع الأرض في الميادين كافة. إن كان هناك من ملامة فهي تقع على المعارضين والسوريين خارج سورية، الذين لم يعتنوا بالصورة الخلفية للثورة، فكانت تشير دائماً الى "البهدلة"، وسيطر عليها الحزن والاكتئاب، وشعارات الشكوى والخذلان على الرغم من صدقيتها المؤلمة، فيما غاب الجانب الجمالي والفرح والأمل والسعادة، ومن يقول إن ذلك غير ممكن سأقول له لنذهب ونتعلم معاً من شباب "كفرنبل" و"داريا" و"عامودا".
شعارات الجيش الحر، وكافة الكتائب، مثلاً هي شعارات تدل على عدم الاتزان، وأشعر شخصياً أنها من تصميم هواة أو أطفال، وأحياناً تبدو لي مرعبة، فيما شعار الجيش النظامي يدل على الاتزان والقوة في آن معاً. يفترض بالثورة أن تصوغ إلى جانب البرامج السياسية مشهدية بصرية جديدة تقوم على ثلاثة عناصر متضافرة هي الاتزان والفرح والطمأنينة في آن معاً.
الثورة في أحد جوانبها خلق للفرح في حياة الناس، وعلى الرغم من صعوبة ذلك إلا أن هذا أحد طرق تجليها، وهذا ممكن من خلال الرموز والإشارات والشعارات والصور والأغاني المعبرة، وهنا تأتي أهمية مساهمة الفنانين والمصممين والأدباء لخلق الفرح في الثورة وإيصال أهدافها وآمالها بشكل يتناسب مع التضحيات العظيمة. ربما يتطلب ذلك هيئة وطنية مركزية تؤمن بأهمية الجانب الجمالي في الثورة، وتأخذ على عاتقها مهمة التخطيط والتنفيذ، فالوقت لم يفت بعد، ولا أبالغ إن قلت إن إبداع أغنية وطنية سورية اليوم تعبر عن سورية والثورة بإنتاج فني عالي المستوى أهم من جميع الأسلحة، ويمكن لها أن تساهم في خلق الوطنية السورية الجديدة.