كاظم فنجان الحمامي
[email protected]
من منكم لا تدمع عيناه ويهتز طرباً
وهو يستمع إلى إحدى هذه الأغاني البصرية المفعمة بالأنغام الجنوبية الأصيلة,
المشبعة بالأحاسيس العراقية الصادقة: يفر بيه هوى المحبوب يا يمة/ لو تحب لو ما تحب
هي وحدة من أثنين/ بحال الصفصاف تخلوني/ أكول الله على العايل/ بالله سلم سلام/ لا
تلوموني قلبي ما يحمل ملام/ بعدك بالقلب بعدك/ شوف اشسوه هجرانك/ راح العزيز وروحي
راحت/ لعيونك أنت يا حلو/ إبهيده هيده/ واجب بالروح أشريك يحبيب واجب/ هلا بجيتك/
قلي شنو الصار/ امكبعة/ مستاحش/ لالي يا قمر لالي مر بوطنه/ مكحلات العيون/ شوقي
خذاني/ زغيرة كنت وأنت زغيرون/ مثل نجمة والقمر/ لاموني لاموني/ ومئات الألحان
التي غناها رياض أحمد, وسعدون جابر, وقحطان العطار, وصلاح عبد الغفور, ورضا الخياط,
ومحمد الشامي, وفؤاد سالم, وسيتا هاكوبيان, ومحمود أنور, وقصي البصري, وعبد الله
رويشد, وراشد الماجد. .
">
كان هذا الفنان الرقيق, الذي لحن هذه
الروائع الموسيقية الجميلة, وصاغ أنغامها على الإيقاعات الجنوبية الراقصة, التي
تنبض بالدفء والصدق والعفوية, هو الموسيقار البصري الكبير طارق الشبلي, عراقي حتى
النخاع, ووطني مخلص لوطنه, ولد في البصرة ولم يغادرها حتى يومنا هذا, ذابت روحه في
بساتين مدينته ونخيلها وشواطئها وأنهارها الخالدة, ولولا موهبته العظيمة ومواهب
أمثاله من كبار المبدعين لما كان للبصرة وضواحيها تراث غنائي تفخر به وتتغنى
بألحانه. .
">
طارق الشبلي هذا الإنسان البسيط
المتواضع, الذي ينتمي إلى الطبقة العمالية الكادحة, ويسكن في أحياء المعقل الفقيرة,
في دار صغيرة من الدور التي شيدها مزهر الشاوي رحمه الله. .
لم يقف على أبواب المسؤولين, الذين
انشغلوا بمهاتراتهم السياسية, وخصوماتهم الطائفية, ولم يستجدي منهم العون والإسناد,
لكنه لم يستنكف من قيامه بتوفير رزقه ورزق عائلته من عمله الشاق الدءوب كسائق في
سيارة للأجرة يجوب بها شوارع مدينته. .
">
طارده رجال الأمن, ولاحقته السلطات
المستبدة, فزجت به في سجون الأحكام الثقيلة, لكنها أفرجت عنه لعدم ثبوت الأدلة, ثم
عادت لتضعه مرة ثانية خلف القضبان, فعذبوه وضربوه وصادروا مقتنياته, وانتهكوا حرمة
بيته, وأدرجوا اسمه في قوائم التهميش والإقصاء, فلم يفقد موهبته الفنية, ولم يساوم
على كرامته, فاختار العمل اليومي المرهق ولم يرضخ للذل, وفضل الكفاح على الليالي
الملاح, رافضا كل المغريات حتى أنهكه المرض وأقعده في داره, فلم يبرحها إلا عند
الضرورة وفي المناسبات الخاصة. .
ثم باغتته الأورام الدماغية, فدمرت
جهازه العصبي, وقيدت حركته ولم ترحمه, فكان لابد من إجراء العمليات الجراحية في
مستشفيات أربيل على نفقته الخاصة, وكان لابد من مواصلة العلاج السريري بالعقاقير
المستوردة المكلفة ماديا, وذلك قبل خوض المزيد من عمليات الجملة العصبية لاستئصال
الأورام المتبقية. .
لم تقف معه منظمات المجتمع المدني,
ولا نقابة الفنانين, ولا المؤسسات الثقافية, ولا المراكز الحكومية في العراق
الديمقراطي الجديد, ولم يتذكره أصحاب المقامات العالية. .
ويبقى السؤال المؤلم المتجدد يلح
علينا, فنردده مع أنفسنا بهستريا المقاهي المهجورة, فنقول: لماذا نحن في العراق
وحدنا من بين شعوب كوكب الأرض ندوس على مبدعينا بقسوة, فنخنقهم ونمنعهم من الإبداع,
ونحرمهم من التألق, ونشيح بوجوهنا عنهم, فنتجاهلهم في محنتهم, ونخذلهم في مرضهم, ثم
ندوس على أرواحهم بعد مماتهم, لكننا نظل رغم كل أفعالنا الغبية ومواقفنا الجاحدة,
نتغنى بألحانهم وأغانيهم وأناشيدهم, ونمجد آثارهم, بينما نرى غيرنا من حكومات
العواصم العربية القريبة, يوفرون لأنصاف المبدعين والمبتدئين كل وسائل الدعم
والإسناد والراحة, ويشملونهم برعايتهم, ويغدقون عليهم, ويبالغون في الاهتمام بهم,
تماماً مثلما يرعى جماعتنا عناصر حماياتهم وجنودهم وحراسهم وسواقهم وخدامهم
وسياراتهم المدرعة. .
يرقد الفنان طارق الشبلي الآن وحيداً
في بيته, معتكفاً في عزلته, محبوساً في سريره, مضطجعاً تحت وطأة المرض الثقيل,
بانتظار إجراء سلسلة من العمليات الجراحية المقررة على نفقته الخاصة في البلد الذي
يعوم فوق أكبر بحيرات النفط والغاز, من دون أن تؤازره المنظمات الثقافية ولا الفنية
ولا الإنسانية. .