الرمز البحري العراقي المهجور
كاظم فنجان الحمامي
يروّعني مشهد هذا الرمز البحري العراقي الآيل للسقوط, محنتنا في انكماش سواحلنا, وضياع بحرنا الإقليمي, وتقلص رقعة مياهنا الوطنية, ومحنته في وحدته وانكساره وعزلته, هل شاهدتم نصبا تذكاريا لا ظل له ؟, رمز مهجور يقف على قدم واحدة جريحة, وبخوذة مثقوبة, ودرع ممزق. .
فهل شاءت الأقدار أن يموت هذا الرمز مصلوباً على بوابة أقدم ثكنة بحرية في حوض الخليج العربي, البوابة التي ابتلعتها الآن زواحف الحواسم, حتى انهارت تماماً وصارت ملاذا للمشردين والمهجرين والبائسين. .
قبل ربع قرن كان هذا الرمز يقف بشموخ في قلب البصرة أمام قلعة القوة البحرية العراقية, يتحدى الفرقاطات والحاملات والمدمرات والغواصات, تحيط به باقة من الألغام البحرية المختارة من بقايا الحرب العالمية الثانية, ومجموعة من المراسي والمخاطيف الأدميرالية الرمزية, بينما ترفرف الأعلام البحرية الملونة فوق الصواري البيض الأنيقة. .
أما اليوم فقد تراكمت حوله أكداس القمامة, وتوزعت فوق منصته الكئيبة أكشاك باعة الطيور البرية المهاجرة, وأكشاك باعة الخس والبطيخ المستورد, بينا اختفت الأعلام وغرقت الألغام, وطُمست آثار حروف التمجيد, ففقدت بريقها الذي لطالما تباهت به على مدى العقود الماضية, التي شُطبت قبل بضعة أعوام من ذاكرتنا المعطوبة. .
يخلد هذا الرمز معركة ذات الصواري, المعركة البحرية التي انتصر فيها العرب على الروم في عرض البحر الأبيض المتوسط, فسحقوا أسطولهم العملاق, ودحروا سفنه وأغرقوها. .
اشترك في تنفيذ هذا النصب التذكاري نخبة من الفنانين الشباب, كانوا جنودا في السبعينيات, يؤدون خدمتهم الإلزامية في مركز التدريب المهني للبحرية, وكان آمره آنذاك العقيد قاسم محمد علي, فأرسل في طلبهم, واقترح عليهم توظيف مهاراتهم الفنية في تشييد لوحة كبيرة تجسد انتصاراتنا الحربية في البحار والخلجان, فاجتمع الفنانون الأربعة: قيس عبد الرزاق, ومنقذ الشريدة, وأكرم خان, ونجاح الجزائري, وشحذوا هممهم لوضع الملامح الرئيسة لمشروعهم الفني. .
كان قيس عبد الرزاق نحاتاً ورساماً أكاديمياً موهوباً شديد الالتزام, وكان هو المصمم الرئيس وصاحب فكرة العمل, أما الفنان منقذ الشريدة فكان فنانا تشكيلياً شاملا لكنه كان يعشق الصهباء ويعاقر رحيق عناقيدها, في حين كان الفنان أكرم خان خطاطاً مبدعاً, وماهراً لا يضاهيه أحد في أعمال السباكة, وكان رابعهم الفنان نجاح الجزائري رساماً فتياً في بداية الطريق, فباشروا عام 1972 بتشييد نصب معركة ذات الصواري في موقعه الحالي, وصادف أن تسرح الفنان (قيس) من الخدمة العسكرية, فواصل زميله (أكرم) تنفيذ اللمسات الخارجية الأخيرة على النصب التذكاري الجميل, حتى اكتمل المشروع عام 1973 وكان من أروع معالم البصرة. .
لقد أضفى هذا النصب التذكاري على منطقة المعقل في البصرة طابعاً جمالياً ونكهة بحرية صادقة, تعكس أمجادنا وانتصاراتنا في عرض البحر, وكان تحفة فنية رائعة بما يمتلكه من وحدات نحتية, تتمثل في الشكل العام والمكونات الملاحية, التي تذكرنا بماضينا العريق. .
استطال الشكل الخارجي للنصب التذكاري في تكويناته العامة نحو الأعلى, وارتفعت فوقه حزمة من أبراج وصواري السفن الحربية المتشابكة, تحملها قاعدة متلاطمة الأمواج على شكل نصف كرة أرضية, دارت حولها لوحة نحتية جمعت مفردات المعارك البحرية الحاسمة وخصائصها الرمزية القديمة. .
لكنه اليوم يقف مائلا منكسراً ومعزولاً منزوياً تحيط به الأزبال والأنقاض, وتعتليه الأتربة والمخلفات, ينتظر من يمد له يد العون لينتشله من تحت الأنقاض ويعيد له هيبته المسروقة. .
لا نريد أن نستبق الأحداث, ولا نريد أن نتكهن بما ستكون عليه خاتمته المؤسفة, التي ربما ستنتهي بالإزالة التامة من فوق سطح الأرض, فالهدم هي الوسيلة المضمونة في مشاريع الطمس والتدمير والتخريب, وهي أسرع عندنا في التنفيذ من مشاريع البناء والتعمير والترميم. .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم