ياسمين آذار المخضب بالدم (الحلقة 46)

محمد فاروق الإمام

نزول عدنان عقلة إلى سورية وتدمير تنظيم الطليعة

محمد فاروق الإمام

[email protected]

سعى عدنان عقلة إلى إعادة ربط الخيوط مع الداخل، فأقام صلات بحلب وحماة، وأوفد مراسلاً إلى أيمن الشربجي في دمشق، كما أقام صلات مع المنطقة الشرقية. بعد ذلك أرسل نائبه (أبو الخير – أحمد زيات) ليستقر في منطقة إدلب، حيث قام أحد أفراد الطليعة من أبناء المنطقة (أبو عبد الله الجسري – ماجد دندش)، (كُشف من قبل جماعة الإخوان المسلمين على أنه عنصر مخابرات مزروع في صفوف الطليعة، وأعلمت الجماعة عدنان عقلة بحقيقة أبو عبد الله، ولكن عدنان عقلة سخر من ادعاءات الجماعة، ووثّق علاقته به وقربه منه، حتى أصبح يده اليمنى، وزوجه من إحدى الأخوات الحلبيات تنتمي إلى عائلة كريمة – بيت القاطرجي). وبالفعل استقر أبو الخير في المنطقة المحددة كما أشيع، ولكنه في حقيقة الأمر كان قد وقع في الفخ الذين نصبه له أبو عبد الله الجسري، وأُرغم على بعث رسالة من الداخل يستدعي بها عدنان عقلة، الذي كان قد قرر النزول لتنفيذ بعض المهام في الداخل ثم يعود.

في شهر أيار عام 1983م نزل (أبو عمار – عدنان عقلة) إلى سورية من تركيا متسللاً عبر الحدود من حيث كان نائبه وبعض المقاتلين قد نزلوا، وبعد نزوله بفترة أرسل من الداخل رسالة مقتضبة تنص على أنه بخير، وأن الوضع ممتاز، وأنه قرر البقاء ولن يعود (وبالفعل لم يعد) وأنه مشغول بتدبير بعض المهمات، وأن عليهم أن يسمعوا ويطيعوا نائبه (أبو الخير) الذي سيتولى معظم المراسلات معهم، وهكذا تبادل أبو الخير ومسؤول الطليعة في تركيا رسائل كان أبو الخير يحولها بدوره إلى قيادة الطليعة التي آلت لبعض رموز الطليعة وعلى رأسهم (أبو العلا – هاشم شعبان) و(أبو النور – غسان أبا زيد) و(أبوصالح – عبد الستار عبود) و(أبو عمر زرعيد) و(أسعد بساطة) و(أبو نبيل عقلة) أخو عدنان عقلة، وبعد رسائل أبي الخير نزلت مجموعات من الطليعة إلى الداخل.

اتصل الإخوان بقيادة الطليعة في الخارج يبلغونها أن معلومات أكيدة لديهم تفيد بأن عدنان عقلة معتقل في سورية هو وكل الذين نزلوا. ولكن الطليعة لم تكترث بهذه المعلومات واعتبرتها كلاماً مبتذلاً من الإخوان، وليست له أي مصداقية، ولم يعيروا هذه المعلومات أي اهتمام أو التحقق منها.

تواترت عدة أخبار تؤكد صحة المعلومات التي نقلتها الجماعة للطليعة، والتي تفيد أن عدنان عقلة معتقل لدى أجهزة الأمن السورية منذ وطئت قدماه الحدود السورية – التركية. ورغم تواتر هذه المعلومات، فقد كانت هناك لقاءات تتم بين مسؤول الطليعة في تركيا بمراسله الذي كان يفد من الداخل، وكان لتعديل عدنان عقلة لخططه التي اتفق عليها مع قيادته في الخارج، تثير الكثير من الشكوك في اعتقاله لدى بعض قيادات الطليعة.

أوفدت الطليعة من عندها مبعوثاً للالتقاء بأبي الخير أو أبي عمار في الداخل، للتأكد من هذه المعلومات وقطع الشك باليقين. فأرسلت مبعوثها (أبو أسامة) الذي التقى بأبي الخير في قاعدته الجبلية، فطمأنه أبو الخير عن الحال، وأرسل معه وصايا في شريط كاسيت يحض فيها الإخوة على عدم الالتفات إلى إرجافات جماعة الإخوان المسلمين، والاهتمام بأمر الجهاد. ثم نزل طليعي آخر هو (أبو ثابت الخطيب) ليتأكد مرة ثانية. وعاد أيضاً ليؤكد أن الأمور طبيعية. وعاد فنزل مع طليعي آخر ولم يعد أحد منهما، وواصل شباب الطليعة نزولهم حتى بلغ مجموع من نزل منذ بدء النزول نحو 70 طليعياً.

عادت الشكوك باعتقال عدنان عقلة تثار بقوة، فاضطرت قيادة الطليعة في الخارج إلى إرسال رسالة مستعجلة إلى الداخل تطالب فيها أبو عمار بالخروج لمعالجة الوضع المتأزم، وأجاب أبو الخير أنهم يبحثون الوضع.

وفي زحمة تلك الأحداث المبهمة قرر (أبو عمر زرعيد) مسؤول الطليعة في أوروبا النزول للقاء أبي عمار، ولم يلتفت لتحذيرات قيادة الخارج بعدم النزول، فنزل وبصحبته مرافق آخر له ليأتي بالخبر اليقين، ولكنه بعد نزوله جاءت الأخبار عبر رسالة من أبي الخير أن أبا عمر والذين كانوا في استقباله وقعوا في كمين وقتلوا.

تفاقم الشك، واتخذت قيادة الطليعة في الخارج قراراً بعدم إرسال أي طليعي إلى الداخل، حتى يخرج عدنان عقلة. وتجمدت أوضاع الطليعة في الخارج نحو شهرين، ثم قطع هذا الجمود بوصول رسالة من المخابرات السورية عن طريق إرسال أخ لأحد عناصر الطليعة هو (حسن خضرو) تخبره بأن ابنه (وكان واحداً من السبعين الذين نزلوا إلى سورية) معتقل لديها مع الباقين، وتدعوه للنزول مقابل العفو عنه وعن ابنه. وأخبر مبعوث الأمن السوري أن كل النازلين اعتقلوا جميعاً! نتيجة مؤامرة دبرها دليلهم الرئيسي في الطليعة، وكان مع المبعوث شريط صوتي لابن الرجل المعتقل يستعطف والده ويذكر له أن المخابرات عاملتهم معاملة حسنة.. وهنا وقعت قيادة الطليعة في الخارج في حيص بيص، وقد تأكد لها ما كانت جماعة الإخوان المسلمين قد حذرتها منه قبل شهور.

مؤامرة الإيقاع بعدنان عقلة

كانت خطة نزول (أبو عمار – عدنان عقلة) ونائبه والكتل الرئيسية للشباب السبعين مبنية على خطة أقيمت بناء على مراسلات حصلت بين عدنان عقلة وقيادة مقاتلي الجبل في منطقة إدلب، حيث أكد مقاتلو الجبل أن قواعدهم تستطيع استيعاب عدد من المجاهدين في الجبل، وأنهم يبايعون الطليعة على الجهاد والعمل المشترك.

جرت هذه الاتصالات عن طريق واحد يزعم أنه من عناصر الطليعة من أبناء تلك المنطقة واسمه (جاهد دندش) وهو معروف باسم (أبو عبد الله الجسري)، وكان هذا الرجل قد التحق بالطليعة بعد خروجه من سورية مدعياً أنه واحد منها في الداخل، وأنه نظم عن طريق الأخ (يحيى حاج يحيى) الذي لم يتمكن الجسري من التعرف عليه عند جمعه به في جلسة عامة، مما دفع الإخوان المسلمين إلى تحذير الطليعة من هذا الشخص وعدم الاطمئنان له، ولكن عدنان عقلة – الذي كانت الثقة بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين قد شابها كثير من الشكوك والعداء – لم يعر هذا التحذير أي انتباه واعتبره من أراجيف الإخوان لزعزعة الثقة بين أفراد الطليعة.

التحق أبو عبد الله الجسري في أحد بيوت الطليعة، وتم زواجه من إحدى الحلبيات (بيت القاطرجي)، وعند وقوع الطليعة بضائقة مالية راح هذا بكل أريحية يعمل في حرفة الدهان ويساعد بعض الطليعيين بتشغيلهم معه، إضافة إلى حمله (سبحة طويلة) لا تغادر يده، وخشوع في الصلاة ملفت للنظر. كل هذا جعله محل ثقة عند عدنان عقلة وجميع أفراد الطليعة ويعاملونه بكل ود وتقدير واحترام، حتى غدا أحد أعضاء مجلس شورى الطليعة.

ولم يكن أبو عبد الله الجسري سوى رجل مخابرات مدسوس أتقن دوره بكل نجاح، أُرسل لاختراق الطليعة ضمن شبكة من المندسين فأحسن أداء دوره، وتمكن من استدراج عدنان عقلة – الذي كان عصياً لسنين على السلطة – مع العشرات من أفراد تنظيمه ليقع لقمة سائغة بيد السلطات السورية دون أي جهد أو عناء أو مقاومة.

يتبع