ألا نصوم أيضاً عن الكراهية فيما بيننا
معن بشور*
مع اقتراب شهر الصوم المبارك من نهايته، ومع حلول عيد الفطر السعيد بكل ما يحمله من معان وقيم ودلالات روحية وإنسانية، يحق لنا أن نتساءل:
متى نصوم في أمّتنا عن الكراهية بحق بعضنا البعض، بعد أن امتلأتا في كل أقطار الأمّة بخطاب الكراهية، وفعل الكراهية، وممارسة الكراهية، سواء بين الفرد والفرد، وبين الجماعة والجماعة، بين الحزب والحزب، بين التيار والتيار، بين الطائفة والطائفة، بين المذهب والمذهب، بين العرق والعرق، بين البلد والبلد، بين الأمّة والأمم المجاورة.
لم نعد نسمع حولنا إلاّ خطاب التحريض بأبشع أشكاله، بل ويتسابق المحرضون، على اختلاف مستوياتهم، في ابتكار أبشع أنواع التجريح، وأكثر الشتائم بذاءة، فيتطلع الواحد منهم بعد إطلاق شتائمه إلى من يناصره الرأي ممتلئاً بالزهو والإعجاب بالنفس، وبامتلاك القدرة على التفوق على الآخرين في أساليب التحريض ومفردات الشتائم.
على ضفتي الكراهية هذه، تشتعل حروب، وتسفك دماء، وترخص حياة الناس، وتقطع الأعناق، وتدمّر الأرزاق، وتؤكل القلوب، وتلتهم نار الكراهية كل أخضر بين الناس ويابس.
بل على ضفتي الكراهية هذه، تزدهر صناعة التنظير للعداوات، والترويج للفتن، ونبش الأحقاد، وشحن الغرائز، واستغلال الأولياء والمقدسات لخدمة الأشرار والمدنسات من المصالح والشهوات، فتتسع دائرة التحريم والتكفير وما يرافقها من ذعر ورعب، فيأخذ الخوف المجرم، كما الضحية، إلى هاوية الإرهاب الدموي والإجرام المتوحش المتبادل.
مع جو الكراهية البغيض هذا، تتقدم مشاريع خطيرة كمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، كما تتقدّم مخططات الصهاينة القديمة الجديدة، وهي تجد أرضاً خصبة لا يمهد لها فيها أنصارها وعملاؤها فحسب، بل أحياناً بعض من يدعّون التصدي لها ومواجهتها، فإذا بخطاب الكراهية الذي يحملون يقدم لهذه المشاريع التربة النموذجية، والمبررات الأقوى. فمن يريد أن يقاوم أعداء الأمة بجد، عليه أن يقاوم خطاب الكراهية المنتشر في كل حدب وصوب وان يرفع لواء التسامح الذي تحضنا عليه الأديان، ويزّينه لنا العقل، وتثبت حكمته التجارب.
ولا يجوز بعد الآن أن نرد على الكراهية بالكراهية، وعلى الحقد بالحقد، فنكون بذلك قد وقعنا في أفخاخ ينصبها لنا أعداء الأمة، بينما نبذ الكراهية وهي، أم العنف وأبوه، هو الوجه الآخر لمواجهة الأعداء المتربصين بنا من كل حدب وصوب، كما هو السبيل الأسلم لترسيخ خطاب الوحدة، ونهج الوحدة، وروح الوحدة بين أبناء الأمة.
إن الدعوة اليوم إلى نبذ الكراهية ليست موعظة دينية وان كانت تحمل بعض المعاني السامية لكل الأديان، وليست خطبة على منبر يتلاشى مفعولها مع انتهاء إلقائها، بل هي في الأساس دعوة تبدأ في الأسرة، ثم المدرسة، وفي كل مراحل الحياة، واطر العمل فيها، كما أن هذه الدعوة هي ثقافة تتعمق في الوعي والوجدان لتتحصن بها النفوس والعقول، ولنحاصر عبرها الغرائز والانفعالات، بل هي ثقافة بناء الجسور بين الناس، ثقافة التواصل والتفاعل والاحترام المتبادل.
ونبذ الكراهية لا يعني إلغاء التباين في الرأي، أو الاختلاف في التفكير، أو التنافس في خدمة الحق، بل انه دعوة لكي يكون لهذه الخلافات سقفٌ لا تخرج عنه، ونمطٌ لا تحيد عنه، وكي لا يتحوّل البشر إلى وحوش تخرج من الأحشاء لتفترس من يختلف معها في الرأي، أو يختلف عنها في الملة أو العرق أو الجنس أو اللون.
ألا يستحق نبذ الكراهية إلى حلقات وندوات ومؤتمرات ومناهج وبرامج، بل إلى نهج حياة، فلا ينحصر المشاركون فيها بنخب متحررة بالأساس من أمراض الكراهية وعقدها، بل أيضاً تسعى كي تشمل بعض ضحايا الكراهية الذين يخافون ويخيفون في آن، ويبثون الذعر حولهم كما يبثونه في أنفسهم.
إنها دعوة مع هذا العيد السعيد، ومع نهاية الصوم المبارك، وليكن صيامنا عن الكراهية هو الامتداد لكل صيام.
*رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن - بيروت، الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي