معضلة الاستبداد في الوطن العربي
عبد الرحيم صادقي
ليس من الحكمة في شيء أن تُكررَ الأسئلة نفسها وتُصرّ على تقديم الحلول ذاتها وأنت ترى الواقع لا يزداد إلا انتكاسا. من الغباء أن تسلك الطرق نفسها ثم تتوقع الوصول إلى مكان جديد. وكثير من الحلول له مدة صلاحية يكون من اللازم طرحها بعد انتهاء المدة. إن الأمر شبيه تماما بإصرار مسيرة منددة بالانقلاب على التقدم في أحد شوارع القاهرة وهي تعلم مسبقا أن "البلطجية" في انتظارها مدججين بما تيسر من الأسلحة وما قدروا عليه من الهَراوى والسيوف والرصاص، دون أن يفكر منظمو المسيرة أدنى تفكير في تأمين المسيرة. فانظرْ بعدها إلى القتلى والجرحى من النساء والصبية والشباب والْعَنِ الحظّ السيئ! أليس من العبث حينها أن تقرع سنّ الندم لأنك لم تختر أحد أمرين: إما التراجع، وإما الإقدام مسلحا؟! أحسب أن مرسي ومن معه اختاروا ما بعد ثورة 25 يناير التقدم عزلا، بل إنهم أعاروا أسلحتهم أحيانا للبلطجية، فكان أن سمعوا من غوغاء الإعلاميين وسفلة الصحافيين ما ينبو السمع عن التقاطه. ووفروا للفلول مرتعا خصبا، ولوُضعاء الساسة فرصة الصيد في الماء العكر.
سنأخذ الحالة المصرية الراهنة نموذجا للاستبداد في الوطن العربي، ونبيّن كيف أن الاستبداد لا يتمكن إلا بفساد، وسنختبر الفساد في مؤسسات ثلاث: الأمن والإعلام والقضاء، علما أن الفساد لا يستثني مؤسسة واحدة، لكن المؤسسات المذكورة مثال للعنف المادي والرمزي الذي مورس من أول يوم جلس فيه مرسي على كرسي الحكم، وانتهى بانقلاب بأيدي خونة الداخل ورعاية سادة الخارج.
ومن نافلة القول التنبيه على أن الاستبداد لا يعتمد على القوة والعنف وحده، وإنما يحتاج سندا من أولي الرأي والمشاهير ممن باعوا أنفسهم، وسلِموا من تأنيب الضمير. ولذلك تجد المستبد يزيّن مجلسَه بأشباه العلماء والمفكرين، ويصرّ على تكريم الفنانين والرياضيين وكل ذي تميّز، طمعا في نيل شرعية ما.
تفكيك منظومة الاستبداد
إن الانقلاب العسكري الذي جرى، ونظام مبارك الذي يعود حثيثا أوضح للمتشككين أن دولة الفساد العميقة لم تسقط. ولقد أخطأ مرسي حين اعتقد إمكان التعايش مع هذه الدولة إلى حين من الزمن، ثم يحصل التغيير الذي يرجوه المصريون. وكأن الفساد من طبيعته أن ينزويَ في ركن من الأركان ليقنع بمشاهدة عالم جميل قادم. كانت المهادنة والتدرج المزعوم خطأ تكتيكيا واستراتيجيا منذ البداية. ما الحل لو فشل الانقلاب وباء المنقلبون بخسران مبين؟ المطلوب تفكيك بنية الدولة العميقة. والتفكيك لا يعني أن نأتي بمن يحلّ مكان المفسدين من الصالحين، ثم يشتغل بالمنطق نفسه ضمن منظومة فساد أزكمت رائحتها الأنوف. من أبجديات علم الاجتماع أن المجتمع ليس مجموع أفراد وإنما هو العلاقات القائمة بين الأفراد والتفاعل فيما بينهم، حيث يتولد عن ذلك ثقافة تسود، وتنتقل من جيل إلى جيل. كذلك فالمؤسسات علاقات بين العاملين بها، وثقافة سائدة بينهم. لا بد إذاً من تغيير العنصر البشري بموازاة تفكيك مفاصل الأجهزة الفاسدة التي تمنع سريان الإصلاح، مع العمل على أمد متوسط على بث ثقافة بديلة ومنطق جديد للاشتغال في كل مؤسسة بالبلد.
من العبث المراهنة على قضاة مبارك المفسدين لإحداث الإصلاح، فهو جمعٌ بين النقيضين. المطلوب حلّ المحكمة الدستورية وجهاز الشرطة وقيادة الجيش وجهاز أمن الدولة الذي لا يتجسس إلا لتأمين الحاكم وحمايته. ثم بناء هذه المؤسسات على أسس سليمة. لا يسمح منطق الثورة إلا بذلك، أما من يريد التغيير دون أن يزعج المفسدين فليبحث عن قانون خارج سنة التدافع بين الحق والباطل، بل وخارج الطبيعة البشرية.
معضلة الأمن
أوّل وهمٍ ينبغي التنبيه عليه هو كذبة الحياد. فلقد درَج القول إن الجيش المصري يقف موقف حياد، أو موقف حياد سلبي. والحقيقة أنه يقف موقف انحياز جليّ إلى طرف دون آخر. ذلك أن السكوت في معرض الحاجة بيان. فحين يكون التدافع في الشارع المصري مرجِّحا كفّة "البلطجية" وحُماتهم من الشرطة، تدافعا يؤول إلى عنف ظاهر وخفي، وانحياز إعلامي مكشوف، مع تزوير الحقائق، يكون موقف الناظر خادما لا محالة للطرف الباغي، ولا يكون من المسؤولية في شيء ادّعاء الحياد. ومهما يكن من أمر فإن الحياد موقف، وإذا كان يُفهم حيادُ من لا مسؤولية له، فكيف يُستساغ حياد المسؤول؟ بل هي جريمة قانونية وشرعية لعدم إنزال العقاب بالمعتدي والتستر عليه. هذا إذا كان الجيش المصري، أعني قيادته، يريد إحقاق الحق أصلا. أمَا وقد ثبت انغماس قيادة العسكر في السياسة حتى النخاع وتورّطها في انقلاب تسعى لحمايته بكل ما تملك من قوةِ ردعٍ مادي ورمزي، فلا معنى للحديث عن النّأي بالنفس والحياد ومراعاة مصلحة البلد العليا. ما الحل الذي لم يستنفد غرضه بعد؟ إنه رجوع الجيش إلى ثكناته ومرابطته على الثغور. ما النتيجة المتوقعة؟ إنها تغيّر ميزان القوى على أرض الواقع، وحينها ينكشف أن المؤسسة العسكرية لم تكن تقوم إلا بمهمة حماية ظهر جبهة الانقلاب.
أما جهاز أمن الدولة والشرطة فلا خلاف في فسادهما عند المصريين قاطبة. ومطلبنا هنا أن ننير الأمكنة المظلمة.
معضلة الإعلام
الكلمة مسؤولية، وهي تقتل كما يقتل الرصاص وقد يكون أثرها أشد وأبلغ. أما من يتصور أنه لا حِجر على الكلام ما لم ينصرف المتكلم إلى الفعل، فقد فاته أن كل موقف هو في أصله تصور، وكل فعل يسبقه كلام إما داخلي أو خارجي. ولذلك كانت الكلمة مسؤولية في الإسلام، واقرأ إن شئت "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد". أما مُدّعو الحقوق الزائفة والحرية السائبة فيكذبون على أنفسهم حتى يصير السّباب والسخرية والتجريح تعبيرا عن الرأي، وتغدوَ الخيانة وجهة نظر. إن من أهداف الإعلام والصحافة التنويرُ ونقل المعلومة الصحيحة عبر الصورة والكلمة المكتوبة والملفوظة، فكان لزاما أن يسري عليهما ما يسري على الكلام والكتابة والتصوير من إباحة ومنع. ولله درّ الشافعي حين سئل عن الشعر فقال: هو كلام، حسنُه حسن وقبيحُه قبيح. وكذلك كلام الإعلام والصحافة منه الحسن والقبيح، منه ما يباح ومنه ما يُحظر. أما تجارة مؤيدي الانقلاب فكانت كلاما جمع الرأي إلى السبّ، والنقد إلى السخرية والتجريح، وجعل الشائعات والكذب الفاضح من حرية التعبير. على حين غاب التحليل والنظر. ولقد أفلح الإعلام أيما فلاح في القيام بمهمة الإرجاف وتيسير سبل الفتنة.
ولقد أخطأ مرسي وفريقه حين ترك الغربان تنعق، وفاته أن العصر عصر الصورة والصوت، وأن الشائعات تفعل فعلها في النفوس. وأخطأ حين نسي أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وأخطأ حين فاته قول القائل:
متى يبلغُ البنيانُ يوماً تمامه ؞؞؞ إذا كنت تبنيه وغيرُك يهدم
معضلة القضاء
العدل أساس الملك، لكن مرسي توهم أن العدل قد يقوم ولو على أيدي قضاة الفساد والرشاوى. لنتذكر أن القضاء برّأ مجرمي موقعة الجمل وكثيرا من الفلول لعدم وجود أدلة إثبات، وهو أمر تختص به النيابة العامة. فانظرْ إلى تقاسم مهام التستر على الجرائم، وتكامل التواطؤ في جهاز فاسد من أسفله إلى أعلاه. لم تكن مهمة قضاة مبارك طيلة حكم مرسي إلا المعاكسة والعمل على إخفاء معالم الجريمة. ولا غرابة في ذلك، إذ من شأن القضاء أن يكون مستقلا لا يعلو عليه سلطان، مثلما كان بائع الأمراء ذات يوم، فتأمّلْ قصة القاضي العز بن عبد السلام مع الملك نجم الدين أيوب! أما هؤلاء أو أكثرهم فهم قُضاة مبارك الذين احترفوا الظلم والإفساد في الأرض.
ختاما
لعل قائلا يقول وهل كان بإمكان مرسي أن يفعل ما ذُكر أعلاه والجيش لا يسنده والشرطة تعاديه والمخابرات تحيك المؤامرات والقضاء يناوئه والإعلام يسخر منه والفلول متربصون؟ وليس لدينا غير جواب واحد: ولماذا قَرِب السياسة ولم يمتلك شروط النصر السياسي؟ لماذا تعجّل الإخوان المسلمون الحكم؟
وأيا ما يكن الأمر، فلسنا نرى فيما حدث إلا الخير، إذ لم يكن التغيير ممكنا في تلكم الظروف، ولم تكن سفينة الإصلاح تسير على بينة من أمرها. وانظرْ كم طرفا سقطت عنه ورقة التوت بعد الانقلاب العسكري، وتأمل فرصة التغيير الحقيقي:
أما بعض التيارات السلفية فقد تهافت اجتهادها السياسي، وتجلى إدراكها الفاسد للواقع، ومنها حزب النور.
وأما بعض العلمانيين فقد اتضح أن خشيتهم مِن أسلمة الدولة لا من "أخْوَنتها".
وضوح الموقف المخزي للكنيسة وشيخ الأزهر.
انكشاف موقف بعض الدول العربية، ولاسيما الملكيات ودول الخليج، من الربيع المصري، حيث سعت هذه الدول إلى تحويل الربيع إلى خريف ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
أما التآمر الخارجي فليس بجديد، وليس استبشار الكيان الصهيوني بالانقلاب إلا حلقة في سلسلة التآمر الخارجي الذي يرعاه الأمريكان، ويُنفذه أقزام الداخل.
اقتناع المشككين بأن دولة الفساد العميقة لم تسقط، وأن الفلول مستعدون للتحالف مع الشيطان لمنع قيام دولة الحق والعدل.
انكشاف حقيقة موقف العلمانيين من الديموقراطية، حيث يصير من الواجب نبذها حين تصرّ على معاكسة طموحهم.
دولة الفساد لا تتورع عن الاحتماء "بالبلطجة" والعنف وتكميم الأفواه وخنق الحريات والدَّوس على حقوق الإنسان كافة. ودونكم مشهد اعتقال خيرت الشاطر.
الانقلاب فرصة لتبيُّن الصفوف، ومَيز الخبيث من الطيب.
وهو فرصة للإخوان المسلمين كي يصححوا فهمَهم لمعنى التدرج وفقه الأولويات، وتجاوز أسلوب التوافق المصلحي، وضبط معادلة المبادئ والمصالح.
ولعل الظروف الآن أنسب لاستئناف الثورة من جديد، لكن بمنطق مغاير وأسلوب جديد. وتلك عطيّة من الله لينظرَ كيف يعملون؟