ياسمين آذار المخضب بالدم (الحلقة 41)
الإرهاصات التي سبقت مجزرة تدمر
دوريات السلطة الراجلة في حماة
محمد فاروق الإمام
مع تصاعد التوتر بين الطليعة المقاتلة والسلطة، خصوصاً بعد النتائج التي أفرزتها أحداث نيسان 1981 سيّرت السلطة دوريات راجلة مشتركة على امتداد مدينة حماة، وكانت هذه الدوريات مؤلفة من عناصر الوحدات الخاصّة والمخابرات وعناصر الكتائب الحزبية الذين كان دورهم الرئيسي في الدورية كمخبرين عندما يشاهدون أحد المشتبه بهم يشيرون إليه فيتم اعتقاله أو قتله، وكان عدد أفراد هذه الدورية يتراوح ما بين 15عنصراً إلى 25 عنصراً ويمشون متباعدين وعلى طرفي الشارع خوفاً من الوقوع بكمين أو حتى حصرهم في زاوية معينة ومهاجمتهم، وبهذا التطور الخطير تعقدت الأمور كثيراً وأصبح الناس لا يأمنون على أنفسهم من الدوريات الراجلة والمنتشرة حتى داخل الأزقة والحارات الضيقة والتي كان من صلاحياتها إيقاف كل شخص يريدون تفتيشه واعتقاله أو حتى قتله، وكان العنف والقهر أسلوبهم في التعامل فلم يكونوا يظهروا للناس العاديين في الشوارع من نساء وأطفال وشيوخ أي رحمة أو شفقة، بل كانت نظراتهم إلى من حولهم من الناس موزعةً بين الشك والخوف والارتياب، في حين كان كثير من الجنود غير الحزبيين يتعاملون بأدب واحترام ورحمة مع الآخرين ويقولون للأهالي نحن لا يُرضينا ما نفعله هنا ولكن والله ما باليد حيلة، إلا أن هؤلاء الجنود لا يتأخرون عن مساعدة أي أحد من الأهالي عندما تسمحُ لهم الفرصة وكثيراً ما أبدوا التعاون مع الأهالي أثناء حصار الأحياء أو حتى عند الحواجز الثابتة أو الطيّارة، وكان هؤلاء الجنود مع الأهالي بعيداً عن عيون ضبّاطهم النصيريين الحاقدين على أبناء هذه المدينة، وقد حصلت وقائع كثيرة جداً لتعاون هؤلاء الجنود مع المعتقلين أيضاً حيث كانوا يوصلون الأخبار لأهليهم وعائلاتهم وبالعكس، كما ساهم كثير منهم بتنبيه سكّان الأحياء وعزم السلطة على حصارها وتفتيشها قبل العملية بساعات فيتدارك شباب الحي الأمر ويخرجون من المنطقة أثناء التفتيش.
تمَّ تسيير هذه الدوريات ابتداء من مطلع شهر تشرين أول عام 1981 بعد أن تم دمج فرعيّ مخابرات أمن الدولة تحت قيادة رئيس فرع أمن الدولة بحمص المقدم مصطفى أيوب وبين فرع أمن الدولة بحماة الذي كان برئاسة الرائد راغب حمدون وهو من مدينة حماة، أمّا أيوب فقد تم تكليفه بإدارة العمليات لكلتا المحافظتين بحجة أنَّ أداء الفرع بحماة لا يُرضي طموحات الأسياد، فجاء مصطفى أيوب بهذه الفكرة الشيطانية، والمقدم مصطفى أيوب شيعي من متاولة جنوب لبنان منطقة بنت جبيل، هاجر مع أهله إلى مدينة درعا في سورية وانتسب للجيش وتخرج على يدي الطائفي محمد الخولي وانتهى به المطاف رئيساً لفرع مخابرات أمن الدولة بحمص، وفي شهر تشرين أول 1981انتُدِبَ لرئاسة فرعي حمص وحماة بعد أن تم دمجهما، أيوب هذا الذي اخترع فكرة الدوريات الراجلة المشتركة بين عناصر المخابرات والوحدات والكتائب الحزبية وإعطائها الصلاحيات المطلقة في اعتقال أي شخص من المارة ولو على مجرد الاشتباه، أو تفتيشه أو حتى بإطلاق النار عليه وقتله أيضاً، واستمرت هذه المرحلة الحرجة لأكثر من خمسة شهور تقريباً ولم تتوقف إلا قبل أحداث المجزرة الكبرى في شباط 1982 بقليل، وسقط نتيجة هذه السياسة الجهنمية العشرات من شباب الطليعة وقياديهم.
دوريات الطليعة المقاتلة الراجلة في حماة
وفي مقابل دوريّات السلطة الراجلة قامت الطليعة المقاتلة بتسيير دوريات راجلة ليلية ونهارية تتألف ما بين ثلاثة عناصر إلى خمسة عناصر، وكان لباس الدوريات النهارية كلباس الناس المدنيين، أمّا الدوريات الليلية فكان لباسهم مختَلطاً على نمط دوريات السلطة مدنياً وعسكرياً بلباس الوحدات الخاصّة، وكانت تُحدد لدوريات شباب الطليعة مناطق نفوذ محددة ولساعات معينة نهاراً أو ليلاً يحظر على كل الإخوة الملاحقين أن يتواجدوا فيها أثناء ساعات الدورية، وكانت مع أفراد الدورية صلاحية مهاجمة وإطلاق النار على أي هدف من أهداف السلطة ودوريّاتها، كما وتم توزيع صوراً لبعض الضباط والحزبيين والمخبرين على عناصر هذه الدوريات لتنفيذ حكم الإعدام فيهم في أي مكان يتمكنون منهم فيه، لقد كان الهدف العام لهذه الدوريات ضرب أية أهداف أمنية للسلطة واردة ضمن قائمة طويلة أُعطيت للمجموعات الضاربة. لم يكن أمام المقاتلين في الطليعة المقاتلة من خَيَارٍ آخر لمواجهة التصعيد الخطير الذي أقدمَ عليه مصطفى أيوب والذي حدَّ من حركتهم وقَلَّصَها إلى أبعد الحدود إلاَّ بأن يخطو خطوة مماثلة لإرباك السلطة والتشويش عليها ومحاربتها بنفس الأسلوب .
وبالفعل تحركت مجموعات الطليعة المقاتلة بتسيير دورياتها وتنفيذ أهدافها في شوارع المدينة وفي وضح النهار مما أربك السلطة كثيراً، وكان أخطر هذه الدوريات هي الدوريات الليلية التي تتخفى بلباس الوحدات الخاصّة، وذات مساء بتاريخ 11/10/1981 أوقفت دورية للطليعة سيارة دورية مشتركة تابعة للسلطة فيها ثمانية عناصر من الوحدات والمخابرات والكتائب الحزبية في منطقة عين اللوزة، وتجرأ قائد الدورية وشهر سلاحه في وجه دورية السلطة وطلب منهم تسليم أسلحتهم باعتبارهم دورية مزيفة تابعة لعصابة الإخوان المسلمين، ولم ينتظر الأخوة عليهم ليتناقشوا بالموضوع حيث بادروهم بإطلاق النار عليهم وتم إعدام الثمانية رمياً بالرصاص وغنم هؤلاء أسلحتهم ومعداتهم وأخلوا المنطقة على الفور، وجُنَّ جنون السلطة لما جرى وزجّوا بقوات عسكرية كبيرة وحاصروا منطقة البرازية والمحالبة وباب البلد عين اللوزة وقامت بتفتيشها بحثاً عن عناصر الطليعة ولكنهم لم يعثروا لهم على أثر. تنبهت السلطة لما يجري في المدينة فصعّدت الأمور أكثر وزجّت بأعداد كبيرة من الدوريات الراجلة والمتحركة في الشوارع التي أصبحت كساحة معركة حقيقية، وباتت أعداد عناصر الجيش والأمن في الشوارع تفوق أعداد الناس في بعض الأحيان، وصارت الاشتباكات بين السلطة والطليعة يومية وعلى مدار الساعة ليلاً ونهاراً، وبدلاً من الضغط على السلطة لتخفيف حملتها زادت السلطة في غيّها وقمعها، وضاقت الأمور على الطليعة أكثر من قبل.
ويروي أحد عناصر الطليعة (الذي طلب عدم ذكر اسمه) أنه من خلال مقابلاته الميدانية في حماة في تلك الفترة أن أحد مقاتلي الطليعة من الذين شاركوا في هذه الدوريات حدثه قائلاً: (لقد كُلِّفَتْ مجموعتنا ضمن عدة مجموعات أخرى للقيام بتنفيذ هذه المهمة في الفترة الصباحية الممتدة من الصباح وحتى الظهيرة، وباشرنا فعلاً بتنفيذ مهمتنا اليومية التي سارت على أكمل وجه لأكثر من ثلاثة أسابيع، كانت رؤيتي الشخصية لهذه العمليات مختلفة عن نظرة بعض الأخوة لها، حيث كان البعض منهم يرون فيها رداً مباشراً على استفزازات السلطة للمجاهدين، وكنت أرى أن هذه العمليات فاشلة من الناحية العسكرية لعدة أسباب:
أولاً: فيها تعريضٌ مباشر وغير ذي نفعٍ كبير لحياة الإخوة للخطر المحقق في مواجهة المئات من عناصر السلطة يوميا.ً
ثانياً: إنّ فقداننا لأي أخ في هذه العمليات تُعتبر خسارة كبيرة لنا في ظل هذه الظروف القاسية التي أودت بحياة العشرات من شبابنا واعتقال المئات منهم مما يعني خسارة كبيرة للجماعة.
ثالثاً: إنّ الأخ الذي يُستشهد أو يُعتقل من الصعب علينا تأمين بديل له يملك نفس الخبرة والتجربة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لهؤلاء الشباب المتدربين ونحن نسمع من هنا وهناك عن أنَّ موعد الحسم مع السلطة قد اقترب أوانه).
ويتابع الطليعي حديثه فيقول: (حاولت الاعتراض بادئ الأمر على تنفيذ هذه العمليات فلم أُفلح وصِرت كمن يواجه الأمواج العاتية والسيول الهادرة بصدره المنعزل والوحيد، فتوجهات الشباب بمجملها كانت مندفعة بدون تحفظ وراء الاستمرار بتنفيذ هذه العمليات، ثم كررت المحاولة بحزمٍ بعد أن ثبتت لي ولبعض الأخوة عدم وجود ذلك النفع أو تلك الفائدة التي تتناسب وتلكمُ المخاطر التي نتعرض لها أثناء هذه العمليات، ولمَّا لم تفلح جهودي في إقناع أمير مجموعتنا ليقوم هو بالتباحث مع القيادة للعدول عن العملية وإيقافها قررت أن أتصل بالقيادة مباشرةً، وفي مساء ذلك اليوم قمت بكتابة رسالة خطية للقيادة مباشرة وكلّفتُ أمير مجموعتنا بنقلها للقيادة على الفور بخصوص الموضوع المذكور، وتم ترتيب لقاءٍ لي مع أحد الأخوة من طرف القيادة لسماع ما عندي من وجهات نظري حول العمليات الجارية وخطورة تصعيد الموقف أكثر مما هو عليه في المدينة، خصوصاً إذا ما علمنا بأن حركة الأخوة أصبحت شبه معدومة ومن يتحرك منهم كان يلاقي ما يلاقي من تلك الدوريات الراجلة والتي أصبحت شبحاً يلاحق الأخوة في كل مكان، ولم تنقض تلك الليلة حتى تمَّ إصدار الأمر من القيادة بإيقاف عمل تلك الدوريات والتزام الإخوة قواعدهم بفضل الله رب العالمين، ومرَّت أول ليلة بسلام وسطعت شمس نهار أول يوم على هدوء كامل عمَّ أرجاء المدينة ونفوس أهلها.
يتبع