بدعة الشرعية الشعبية
فهمي هويدي
أفهم أن يتداول بعض اللاعبين في الساحة السياسية المصرية هذه الأيام مصطلح الشرعية الشعبية.
وأن ينطلق منه شباب الميادين لكي يسوغوا لأنفسهم ما يعن لهم من أهداف.
لكن الذي لم أفهمه أن يتردد المصطلح على لسان من كان في موقع رئيس المحكمة الدستورية، المستشار عدلي منصور الذي صار رئيسا مؤقتا للجمهورية،
إذ اتكأ عليه في خطابه الأول الذي وجهه يوم الخميس الماضي 18/7، معتبرا أن الشعب حين مارس الشرعية المذكورة فإنه أعطى العالم درسا في الأمل.
كان لدي استعداد لتفويت العبارة الأخيرة التي ذكرتني بما قاله الدكتور محمد بديع مرشد الإخوان ذات مرة عن «أستاذية العالم»،
إذ لم انزعج كثيرا من فكرة الدروس التي ما فتئنا نلقيها على العالم بين الحين والآخر.
فلا نحن مللنا من القيام بهذا الدور المجاني ولا العالم أعرب عن ضجره منا، في الأغلب لأنه لم يأخذ كلامنا على محمل الجد.
ناهيك عن أن الأمل موضوع الدرس الذي أشار إليه لم نر له ملامح بعد، وعلمه عند الله وعند الفريق عبدالفتاح السيسي.
أما الذي تعذر عليّ تمريره وابتلاعه فهو استخدام الرئيس المؤقت لمصطلح الشرعية الشعبية، وهو تعبير إذا نطق به رجل قانون في مثل خبرته ومقامه فذلك يعني أنه تنكر لثقافته واستقال من وظيفته وترك منصة القضاء مؤثرا تمضية وقته على كرسي في أقرب مقهى!
إن الشرعية كما يعرفها أهل القانون تعني اتباع ما تعارف عليه المجتمع من إجراءات ونظم للحقوق والواجبات،
ولذلك فإن كل مجتمع يلتزم بتلك النظم التي تم التعارف عليها يصبح ممثلا للشرعية الدستورية.
لكن خبرة الثورات التي انطلقت في أرجاء العالم اقتضت اتخاذ إجراءات استثنائية مؤقتة لحماية الصالح العام، الأمر الذي كان وراء ابتداع مصطلح الشرعية الثورية، الذي يمكن أن يصاغ بطريقة أخرى من قبيل شرعية اللاشرعية.
وقد فهم أن تلك إجراءات استثنائية مؤقتة، تنتهي بانتهاء الحالة الثورية والانتقال بعد ذلك إلى وضع الدولة التي تحكمها الشرعية الدستورية.
خطورة مصطلح الشرعية الشعبية تكمن في أمرين،
الأول أنها تلغي النظم والقوانين وتطلق ما يمكن أن يسمى حاكمية الشارع، التي تمثل مغامرة كبرى تفتح الأبواب لشرور لا حدود لها.
الأمر الثاني أنها يمكن أن تصبح حالة دائمة تتجاوز بكثير حدود فكرة الشرعية الثورية.
بحيث يصح لأي جماعة من الناس صغرت أو كبرت أن تنزل إلى الشارع في أي وقت لتفرض ما تشاء على السلطة والمجتمع، باسم الشرعية الشعبية،
أي إنها من قبيل الممارسات السائلة، التي لا يحكمها عدد ولا زمن ولا سقف.
صحيح أن الشعب مصدر السلطات.
وتلك فكرة باتت مستقرة في الثقافة الديمقراطية منذ الثورة الفرسية على الأقل.
واستدعاؤها الآن بمثابة اختراع للعجلة من جديد.
لأن العالم تجاوز الفكرة إلى آلياتها وطرق ممارسة تلك السلطات.
بالتالي لن يضيف أحد شيئا إذا قال لنا إن الشعب هو مصدر السلطات، لأن السؤال المهم هو
كيفية ممارسة الشعب لتلك السلطات من خلال الإجراءات والمؤسسات الشرعية القائمة.
أما أن يتم العصف بكل ذلك بدعوى ممارسة الشرعية الشعبية فذلك جرم سياسي يصبح مضاعفا حين يصدر عن أحد من المنتسبين إلى أهل القانون.
مصطلح الشرعية الشعبية باب يضفي الشرعية على الحشود التي يستخدمها البعض لتسويغ التغيير.
وهو أمر خطر لا ريب، وسلاح ذو حدين.
وهذه الخطورة تتضاعف حين تتعدد الحشود معبرة عن معسكرات متعارضة، الأمر الذي يمهد الطريق إلى الفتنة الكبرى المتمثلة في الحرب الأهلية.
لقد جربنا ما سمي بالشرعية الشعبية في عام 1954 حين أطلقت في شوارع القاهرة جموع هتفت ضد الديمقراطية وقامت بالاعتداء على رئيس مجلس الدولة آنذاك الدكتور عبدالرزاق السنهوري.
وأخشى أن يعتبر البعض أن حصار الحشود للمحكمة الدستورية وقصر رئاسة الجمهورية من قبيل ممارسة تلك الشرعية المبتدعة.
لقد انتهى عصر التنافس السياسي الذي يحتكم إلى الحشود، وأصبحت الصناديق هي الوسيلة التي ارتضاها العالم المتحضر لحسم التنافس بين القوى السياسية المختلفة.
أما حين يخرج علينا رجل قانون مرموق ليحدثنا مجددا عن الشرعية الشعبية، فذلك من عجائب الدنيا التي تكاد تصنف ضمن علامات الساعة الصغرى.