إكساء سطح القمر بالمقرنص
كاظم فنجان الحمامي
لا اعتراض لدينا على الطابوق المقرنص, ولا اعتراض على حملات إكساء الأرصفة لكل الطرق والأزقة في عموم المحافظات العراقية بالمقرنص, لكننا نعترض ونرفع أصواتنا بالاحتجاج على مشاريع الإكساء المتكررة, ونعترض على تكرار رصف الأرصفة نفسها لمرات ومرات في متوالية تنفيذية تُستنزف فيها موارد الدولة من دون أن نستقر على حال, فما ان ينجز المقاول عملية الإكساء, حتى يأتي مقاول آخر ليقتلع ما أنجزه المقاول السابق, ويباشر بمد شبكة أنابيب المياه العذبة, أو يحفر خندقا فوق الرصيف لمجاري المياه الثقيلة, أو حفرة لمد قابلوات الضغط الكهربائي, أو لتشجير الأرصفة بنباتات الكينوكابرس التي صارت عندنا ملكة الشوارع والساحات من دون منازع, وهكذا يتكرر إكساء الأرصفة ورصفها, حتى استهلكنا ما أنتجته المصانع المحلية والخليجية من هذه المادة المصنعة أو المستوردة, ولسنا مغالين إذا قلنا ان الكميات المصروفة من الطايوق المقرنص تكفي لإكساء سطح القمر عند اكتمال البدر. .
لقد تفاقمت عندنا ظاهرة الشوارع, التي شوهتها تراكمات مشاريع التوسيع, والصيانة, والتعمير, والتشجير العشوائية, فتشققت شوارعنا وأرصفتنا, ومزقتها المعاول والبلدوزرات, بسبب المشاريع المتخبطة, وغياب التنسيق بين المؤسسات الحكومية المعنية, فما يكاد ينتهي مقاول من أعمال الحفر والدفن, إلا ويباشر مقاول آخر بالحفر والتعميق في المكان نفسه. فيهدم ما أنجزه المقاول السابق. وهنا تحدث الطامة الكبرى, حين يبدأ أحد المقاولين بمشروع, وقد انتهى للتو مقاول آخر من عمليات الدفن والتسوية. وربما تتكرر هذه الفوضى, وتستباح الشوارع نفسها مرات ومرات, وهكذا تواصلت هذه المشاريع العابثة, حتى تشوهت الطرق والأزقة المرتبطة بها, فغدت في حالة مزرية. وكأننا نخوض سباقات محمومة لتشويه وتعطيل المزيد من شوارعنا, بممارسات تنم عن جهل مطبق بألف باء تخطيط المدن. .
أغلب الظن إن هذه السباقات تجري على قدم وساق في ظل غياب الإشراف الحرفي, وعدم الالتزام بتطبيق المعايير الهندسية القياسية الصحيحة, وعدم التقيد بمبادئ وأسس التخطيط العمراني, فبدت الشوارع المنجزة متخرقة بالثقوب, متلطخة بالأصباغ الفاقعة, مكسوة بالمواد الإنشائية الرخيصة, تشوبها المرتفعات والمنخفضات والأنقاض, بعدما كانت ملساء ناعمة مستوية نظيفة. تسير فوقها العربات بكل سهولة ويسر, لا تسمع فيها صوتا, ولا تستوقفك فيها (طسة), وهكذا تحولت شوارع مدننا, التي صرفت عليها الملايين, إلى ميادين مفتوحة لعبث العابثين, وثراء المفسدين. فلا برامج مقننة. ولا جداول زمنية. ولا أسبقيات ولا أولويات, حتى وصل بنا الحال إلى أوضاع مزرية بسبب الانتهاكات الصارخة لحرمة المال العام. .
تعزا أسباب التشوهات, التي أصابت شوارعنا إلى التشرذم المهني, والابتعاد عن تطبيق ابسط القواعد الهندسية المعتمدة في التخطيط العمراني, وربما أدت حالة التشرذم إلى إشاعة أجواء اللامبالاة. والاقتناع بالأداء الشكلي, وتنفيذ المشاريع على الورق من دون ربطها بالنتائج. حتى انسحبت تداعيات هذه الظاهرة, بشكل مباشر وغير مباشر, على جملة الوظائف والأنشطة الاقتصادية والمكانية والاجتماعية لمدننا, وانعكست سلبا على حركة سير العجلات, فأربكت الأنظمة المرورية المحلية, وتسببت في حوادث دهس وتصادم مروعة. .
إنّ من أبجديات أسس تخطيط المدن أن يتخيل المخطط أو المهندس ما سيكون عليه حال المدينة بعد عقود من الزمن, وليس بعد خمس سنوات, لأن شوارع المدن, ومبانيها ليست قطع على لعب الأطفال قابلة للتغيير عند الرغبة أو الحاجة, لذا فان معايير الجودة, وقواعد التوصيف النوعي, وأسس التصاميم الحديثة المعتمدة على الصعيد المحلي والدولي, تستدعي أسلوبا ورؤية جديدة في تنفيذ مشاريع تعبيد الطرق, وتتطلب تنفيذها في إطار قانوني وهندسي ومستقبلي مدروس, وتستدعي أيضا الاستعانة بمشورة أساتذة الكليات والجامعات العراقية من العلماء والمبدعين. الذين يمتلكون خبرات طويلة في المجالات الهندسية التطبيقية, والاستئناس بأفكارهم وآرائهم ومقترحاتهم وملاحظاتهم. وقديما قال أجدادنا: (ذبها براس عالم واطلع منها سالم). .