تاريخ الكوارث الكبرى

د. أحمد محمد كنعان

د. أحمد محمد كنعان

لقد استطاع الإنسان أن يحلق إلى الأعالي حتى وصل إلى القمر

لكن قدميه ظلتا غارقتين بالوحل !

لقد شهد الكون منذ ولادته وحتى اليوم عدداً هائلاً من الأحداث والكوارث الجسام التي هزَّت العالم ، وكاد بعضها أن يقضي على كوكب الأرض نفسه ليجعله أثراً بعد عين ، وكان مصدر بعض هذه الحوادث من الفضاء ، وبعضها نشأ من باطن الأرض ، وبعضها كان من صنع الإنسان نفسه ، أو كان بما كسب يداه !

وقد حفل القرآن الكريم بالحديث عن الكوارث التي حلَّت ببعض الأقوام في فترات مختلفة من التاريخ ، وذكر القرآن أشكالاً عديدة من تلك الكوارث ، منها الرجم بالحجارة أو النيازك التي تسقط من السماء ، ومنها الصيحة أو الرعد الشديد الذي يذهب بالأبصار ويصعق البشر ، ومنها الخسف والزلازل ، ومنها الغرق بالفيضانات أو المدِّ البحري الذي يسمى تسونامي (Tsunami  ) ومنها الريح والعواصف والأعاصير التي ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم ، وغير ذلك من أشكال الكوارث المهلكة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ، منها قوله تعالى : ( فَكُلاً أخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أرسَلْنا عليهِ حاصِباً ، ومنهم مَنِ أخذتْهُ الصَّيْحَةُ ، ومنهم مَنْ خَسَفْنا بهِ الأرضَ ، ومنهم مَنْ أغرقنا ، وما كان ربُّكَ ليظلمَهم ولكنْ كانوا أنفسَهُم يَظلمون ) سورة العنكبوت 40 .

وإلى جانب هذه الكوارث الكونية التي هي من تقدير الخالق سبحانه ، فقد سجل التاريخ الكثير من الكوارث والحوادث التي كانت من صنع البشر أنفسهم ، وكان بعضها من الشدة والخطورة ما جعل الجنس البشري مهدداً بالانقراض ، وجعل العالم يقف على حافة الهاوية ، كما سوف نرى في الوقائع التي نرويها لاحقاً ، وقد بين سبحانه في كتابه الكريم أن الكوارث والمآسي التي تصيب البشر ليست عشوائية كما يزعم أصحاب الفلسفات المادية ، وإنما هي مصائب تحل بالبشر بسبب أفعالهم المخالفة لسنن الله في الخلق كما قال تعالى : ( ما أصابَكُمْ من مُصيبةٍ فبما كَسَبَتْ أيديكُمْ ، وَيَعْفُو عن كثيرٍ ) سورة الشورى 30 .


 

 

الكوارث السماوية :

تتعرض الأرض بصورة مستمرة إلى زخات متواصلة من الشهب والنيازك والحطام الفضائي الذي يأتيها من بقية الأجرام والكويكبات التي تجوب السماء ، ولعل من أشد تلك الأخطار ما تتعرض له الأرض بين الحين والآخر من نيازك تسقط هنا أو هناك ، بين الحين والآخر ، فتسبب أضراراً فادحة ، وتهلك الحرث والنسل ، بل إن التاريخ سجل من تلك الكوارث ضربات قاتلة كادت في بعض الحالات أن تفتت كوكب الأرض وتجعله هباء منثوراً ، كما حصل لكثير من النجوم والكواكب التي يتناثر حطامها في الفضاء ، ومنها على سبيل المثال الكوكب الذي انفجر على مقربة من كوكب زحل وتحول إلى سحابات من الغبار التي تدور حول زحل وتشكل حلقات عديدة متميزة يعرفها علماء الفلك جيداً .

ويقدر علماء الفلك أن النيازك تصطدم بالغلاف الجوي للأرض بسرعة تصل إلى ( 50 ميلاً / ثانية ) وهذا يعني أن قطعة الغبار التي لا يزيد وزنها عن ( 0.1 غ ) سيكون لها من التأثير المدمِّر ما يماثل تأثير الاصطدام بسيارة وزنها ( 1 طن ) وتتحرك بسرعة ( 50 ميلاً /ساعة ) وبهذا ندرك فداحة الخطر الذي تنطوي عليه النيازك التي تضرب الأرض والتي يصل وزن بعضها إلى ملايين الأطنان !

ويقدر علماء الفلك كذلك أن أكثر من ( 1000 طن ) من الحطام الفضائي يرتطم كل يوم بطبقات الجو العليا المحيطة بالأرض ، ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بنا أن معظم هذا الحطام يحترق ويتبخر جزء كبير منه ويتحول الباقي إلى رماد قبل أن يصل إلى سطح الأرض ، وهذه نعمة ربانية عظيمة إذ جعل الله عزَّ وجلَّ للأرض هذا الغلاف الجوي الذي يحميها من أخطار الفضاء ، وصدق الله العظيم الذي يبين هذه الحقيقة الكونية الكبرى في كتابه العزيز فيقول : (( وَجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفَاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عن آياتِها مُعْرِضونَ )) سورة الأنبياء 32 .

ولعل من أكبر الكوارث الفضائية التي ضربت الأرض في الماضي السحيق نيزك عملاق سقط قبل حوالي ( 250 مليون سنة ) وقدَّر العلماء قطره بعدة كيلومترات ، فأصاب الأرض بزلزال عنيف تعادل قوته عدة ملايين من القنابل الذرية الفتاكة ، فقضى فوراً على معظم الأحياء التي كانت في ذلك الحين تدب على الأرض ، وأغرق الأرض في الغبار والظلام لعدة قرون تالية !

وقبل حوالي ( 65 مليون سنة ) ولأسباب كونية مجهولة ـ ربما كانت نيزكاً كذلك ـ هلك أكثر من نصف أجناس المخلوقات الحية التي كانت تعيش في الأرض ، بما فيها الزواحف البحرية والطيور والحيوانات والنباتات المجهرية الطافية والزواحف الكبيرة كالديناصورات وفيل الماموث وغيره ، وعلى الرغم من فداحة هذا الحادث الرهيب فقد كانت له نتائج أخرى لصالح أنواع أخرى من الأحياء ، فإن انقراض تلك المخلوقات العملاقة مهَّد لظهور الرئيسات ( Primates ) وهي المخلوقات التي سبقت ظهور الإنسان فيما بعد .

وقبل حوالي ( 30.000 سنة ) سقط نيزك عملاق آخر في الركن الجنوبي الغربي من الولايات المتحدة وكان بحجم ناقلة بترول عملاقة ، وكان يتحرك بسرعة تزيد عن سرعة الصوت بأربعين مرة مما أدى إلى ارتفاع شديد في حرارة التربة أسفر عن تبخرها وتصاعدت سحابة هائلة من الغبار وصلت إلى طبقات الجو العليا ، وانهمرت إثر ذلك سحابة من الجلاميد التي يفوق حجم بعضها حجم المنازل فضربت الأرض في تلك المنطقة مما ضاعف حجم الدمار الهائل ، وخلَّف النيزك حفرة شاسعة يمكن رؤيتها من الفضاء الخارجي على بعد 900 ميل ، وهي من السعة إلى درجة يمكن إدخال مدينة لندن فيها !

وفي عام 1803 سقط قرب باريس في فرنسا وابل من الحجارة الفضائية أدى إلى دمار واسع في دائرة يزيد قطرها عن عدة أميال ، وبعده بأعوام قليلة أي في عام 1868 تهاوى في بولندا وابل آخر من الحجارة الآتية من أحد الشهب قدرت بأكثر من ( 100.000 قطعة ) فأحدثت دماراً هائلاً في منطقة شاسعة من البلاد .

وفي الصباح الباكر من يوم 30 حزيران 1908 هزَّ منطقة سيبيريا في روسيا انفجار عنيف قدِّرت شدته بأكثر من ( 20 ميغاطن ) من مادة ت.ن.ت شديدة الانفجار ، أي ما يزيد عن القوة التدميرية لألف قنبلة ذرية من عيار القنبلة الذرية التي دمرت مدينة هيروشيما اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية ، وقد أحدث هذا الانفجار الرهيب موجة رعد مزلزلة دارت حول الكرة الأرضية مرتين ، وسجلتها جميع المراصد التي كانت تعمل آنذاك ، وارتفعت من جراء الانفجار سحابة خاطفة من الهواء على هيئة الفطر الذي يصاحب الانفجارات النووية إلى ارتفاع ( 20 ألف كلم ) أي ضعف أعلى جبل في العالم ( إفيرست = 8888 متراً ) وقد أبادت هذه الموجة كل ما صادفته في طريقها في دائرة قطرها ( 40 كلم ) وجعلته أثراً بعد عين ، فقضت على البشر والأشجار ومختلف الأحياء الذين كانوا وقتها في نطاق الانفجار ، وقد حدث هذا التدمير كله في ثوان معدودات كلمح البصر ، ولم يعرف سر هذا الانفجار الهائل إلا بعد عدة عقود من حدوثه حين أثبتت الدراسات الدقيقة أنه نتج عن مذنَّب قطره ( 40م ) انفجر على ارتفاع 8000م من سطح الأرض ، وقدروا وزنه بحوالي 30 مليار طن !

وفي عام 1912 تهاوى في هولبروك في ولاية أريزونا الأمريكية وابل من الحجارة الفضائية يزيد عن  10.000 قطعة ، وفي عام 1947 تهاوى في الاتحاد السوفياتي إبان الحكم الشيوعي آلاف لا تحصى من حجارة السماء بلغ وزن واحدة منها ( 2 طن ) فأحدثت عند سقوطها زلزالاً مروعاً ارتجت له جنبات الأرض ، وفي عام 1948 تهاوى وابل من الحجارة فوق كنساس في الولايات المتحدة يزيد عن ( 100 قطعة ) أحدثت دماراً شديداً في مساحة شاسعة من الأرض !

وهكذا نرى أن الأرض معرَّضة في كل لحظة لمثل هذه الكوارث الفضائية التي يمكن أن تقضي بلمح البصر على جميع أشكال الحياة في الأرض ، بما في ذلك البشر أنفسهم ، بل قد يؤدي اصطدام أحد الأجرام السماوية العملاقة بالأرض إلى تدميرها تدميراً تاماً كما حدث لكثير من الأجرام السماوية من قبل ، لينهي بذلك تاريخ الأرض إلى غير رجعة ، وقد كادت مثل هذه الحوادث المدمرة أن تقع مراراً كثيرة وفقاً لعلماء الفلك الذين يرصدون الكويكبات العملاقة التائهة في الفضاء ، فقد رصدوا في مناسبات عديدة مرور بعض هذه الكويكبات بمدار الأرض ، ولكن لاختلاف توقيت المرور تتجنب الأرض كارثة الدمار ، وهذه رحمة كبيرة من الله عزَّ وجلَّ بأهل الأرض .. فهل من مدَّكر ؟

الكوارث الأرضية :

ومن أكثرها حدوثاً الزلازل والبراكين المدمرة التي قضى بعضها على ملايين البشر في ثوان معدودات ، أما البراكين فهي شقوق في القشرة الأرضية تخرج منها المواد المنصهرة الموجودة في باطن الأرض ، وقد يسبب البركان العنيف إزاحة ملايين الأطنان من الصخور ، ويسوِّي الجبال الشاهقة بالأرض ، وينفث ملايين الأطنان من الرماد القاتل ، ويوجد اليوم في الأرض ( 476 بركان ) نشيط ، و ( 400 بركان ) خامد ، ولكي ندرك خطر البراكين يكفي أن نعرف بأنها في الفترة ما بين أعوام ( 1980 ـ 1990 ) أودت بحياة ( 36.000 قتيل ) !

ولعل أشهر بركان عبر التاريخ هو البركان الذي حدث في عام ( 79م ) وأصاب مدينتي بومباي وميركوانيوم الرومانيتين ، فقد وصلت سماكة الرماد الناتج عن البركان إلى 6 أمتار ، وقتل في الحال (  18.000 شخص ) ونظراً للسرعة التي تساقط فيها الرماد على البشر فقد حوَّلهم إلى أصنام بشرية وجمدهم على الحال التي كانوا عليها لحظة الكارثة !

أما أشد البراكين التي شهدها تاريخ الأرض فهو ذلك البركان الرهيب المدمر الذي ثار في عام 1883 في جزيرة كاراكاتوا الأندونيسية التي تقع في مضيق سوندا ما بين جاوا وسومطرا ، وقد بلغ البركان من الشدة أنه نسف جزءاً كبيراً من الجزيرة الواسعة ، وغيَّر شكل المضيق ، وأعقبته موجة عاتية من المدِّ البحري سببت خراباً كبيراً وخسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات ، وكان حجم الأنقاض والطفح البركاني ضخماً إلى درجة أنه أدى إلى ظهور جزر جديدة في البحر المحيط بالمنطقة ، وانتشرت الأنقاض في المحيط الهندي على مسافات شاسعة حتى وصلت إلى جزيرة مدغشقر التي تبعد آلاف الكيلومترات عن موقع البركان ، أما صدمة الانفجار البركاني فقد طافت حول الكرة الأرضية عدة مرات ، وسمع هدير البركان العنيف على بعد 5000 كيلومتر ، وأحدث تلوثاً في الجو حجب ضوء الشمس لمدة عام كامل عن جميع الأرض !

وفي صبيحة يوم 18 أيار من عام 1980 ثار بركان سانت هيلين في ولاية واشنطون بالولايات المتحدة فأحدث أعنف انفجار على الإطلاق في القرن العشرين ، فقد انفتحت فوهة البركان فجأة وانطلقت منها موجة الانفجار بسرعة هائلة بلغت ( 360 كلم/ساعة ) وقدرت قوتها بأكثر من 500 قنبلة ذرية من عيار القنبلة التي دمرت مدينة هيروشيما اليابانية ، وغطَّت الحمم البركانية ونواتج الانفجار مساحة شاسعة من الأرض تزيد عن ( 40.000 هكتار ) وقتلت غازاتها السامة وحرارتها الملتهبة التي وصلت إلى ( 700 درجة مئوية ) كل ما صادفته في طريقها من المخلوقات الحية في دائرة تزيد عن ( 40 كلم ) ووصلت سماكة الرماد والحمم البركانية التي تساقطت على الأرض ارتفاع ( 100م ) واقتلع الانفجار الهائل قمة الجبل التي قدر وزنها بعدة ملايين من الأطنان ، وانخفضت قمة الجبل بمقدار ( 70م ) عما كانت من قبل ، وغارت فوهة البركان لأكثر من ( 500م )

أما الزلازل فهي تعد من أكثر الكوارث الطبيعية حدوثاً وتدميراً ، ومن الزلازل الشهيرة المدمرة التي ضربت الأرض زلزال عنيف ضرب الصين في عام 76 فسوَّى مدينة تات شان الصينية بالأرض ، ودمَّر المباني على بعد 160كم ، وقضى على ( 650 ألف شخص ) ، وفي عام 1556 ضرب الصين زلزال آخر عنيف أودى بحياة ( 800 ألف شخص ) معظمهم من الفلاحين الذين يقطنون الكهوف الاصطناعية ، أواخر القرن الثالث عشر ضرب الصين زلزال ثالث عنيف ، أودى في دقائق معدودات بحياة أكثر من ( 100.000 نسمة ) .

وفي عام 1737 حدث في الهند زلزال مدمر أودى بحياة ( 300.000 نسمة ) ، وفي مطلع القرن العشرين ، في عام 1906 حدث زلزال عنيف آخر في مدينة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة أودى على الفور بحياة آلاف مؤلفة من البشر ، ودمر المدينة تدميراً واسعاً بفعل الحرائق الرهيبة التي نتجت عن تكسير أنابيب الغاز !

وفي شهر أيلول من عام 1923 ضرب زلزال عنيف ( قوته 8.3 درجة ريختر ) سهل كوانتو فأدى إلى غور قاع خليج ساغامي بمقدار 440 متراً ، وأودى بحياة (  150.000 نسمة ) وهدم 57.500 منزلاً ، وفي عام 1976 ضرب زلزال مدمر شرقي الصين الشعبية فأدى إلى مصرع ( 750.000 نسمة ) في الحال .

أما الأعاصير فهي كذلك من الكوارث المدمرة التي كثيراً ما تؤدي إلى تغيير معالم المناطق التي تضربها ، ولعل من أشد الأعاصير التي سجلها التاريخ ذلك الإعصار الدوار المدمر الذي ضرب جزر دلتا الكنج في بنغلادش يومي 12 و 13 تشرين الثاني 1980 ، وقد بلغت سرعته ( 160 ميلاً / ساعة ) واستمر يعصف بالمنطقة طيلة يومين كاملين اقتلع خلالهما الشجر ، وهدم البيوت ، وخلف المنطقة في حالة شلل تام ، ومسح من قائمة الوجود ( مليون نسمة ) وهو أكبر عدد مسجل من الضحايا نتيجة إعصار ، هذا غير ملايين البشر الذين شردتهم الكارثة وألقت بهم في العراء .

الكوارث المرضية :

ويعد المرض من الكوارث المؤلمة التي قد تحل بأفراد من البشر ، وقد تنتشر انتشاراً واسعاً فتسبب كوارث عالمية ، وقد سجل تاريخ الأمراض الكثير من الأوبئة المرضية التي قضت في أيام معدودات على ملايين لا تحصى من البشر ، ففي عام 550 م حصل وباء واسع من مرض الطاعون أو الداء الأسود اجتاح شتى أنحاء العالم ، وأودى بحياة أكثر من ( 100 مليون نسمة ) ، وفي أواسط القرن الرابع عشر في الفترة ما بين ( 1347 ـ 1351 ) اجتاحت موجة أخرى من الطاعون اللمفاوي قارات العالم فأودى بحياة ( 75 مليون نسمة ) في أوروبا وحدها ، وهم يعادلون نصف سكانها في ذلك الحين ، كما أودى بحياة ( 50 مليون نسمة ) في آسيا ، وقد احتاجت تلك البلدان المنكوبة بالطاعون فترة امتدت حتى بدايات القرن 16 لاستعادة معدلات النمو السكاني التي كانت عليها قبل أن يضربها ذلك الوباء الفتاك ، وفي عام 1894 حصلت موجة جديدة من وباء الطاعون بدأت من هونغ كونغ وأدت لوفاة ( 100 مليون نسمة ) آخرين في أنحاء متفرقة من العالم .

وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى ، وبالتحديد في الفترة ما بين شهري نيسان وتشرين الأول من عام 1918 شهدت البشرية أسوأ وباء عرفه التاريخ البشري على الإطلاق ، فقد انتشر في أنحاء العالم وباء الأنفلونزا الذي عرف آنذاك باسم ( الجريب الإسباني ) وقضى في غضون أشهر معدودات على أكثر من ( 50 مليون نسمة ) أي ضعفي ما حصدته الحرب العالمية الأولى ، وقد بلغ الفزع والرعب بالناس حداً جعل أحد العلماء الأمريكان يومذاك يقول : إذا استمرت الجائحة بهذا التسلسل فلن تبقى حضارة إنسانية على وجه الأرض . وكان الناس يصحون صباحاً على أتم صحة ليس فيهم شيء وفي المساء يكونون ما أصحاب القبور ، حتى أمست تجارة التوابيت في تلك الأيام العصيبة من أربح التجارات ، بل وصل الأزمة إلى حد أن الكثيرين من الموتى لم توجد لهم توابيت يحملون فيها ، فكان من يموت يلقى على قارعة الطريق ، فيأتي عمال البلدية لحمل جثته مع الفضلات !

وفي عام 1980 ظهر مرض الإيدز ( AIDS ) وانتشر  في أنحاء العالم انتشار النار في الهشيم ، وبلغ عدد ضحاياه في أقل من ربع قرن ( 40 مليون نسمة ) قضى معظمهم نحبه ومازالت البقية تنتظر ، والأخطر من هذا أن الإيدز أصبح يهدد شعوباً بأكملها بالانقراض ، ولاسيما في بعض دول أفريقيا ، فقد بلغت نسبة الإصابة هناك 30٪ من مجمل الشعوب الأفريقية ، وأمسى الإيدز السبب الأول للوفاة في جنوب الصحراء الكبرى .

وليس الإيدز هو الخطر الوبائي الوحيد في العالم ، فهناك أمراض وبائية مستوطنة باتت تشكل كوارث إنسانية خطيرة ، فهناك مثلاً داء الملاريا الذي يصيب ( 350 مليون شخص/سنوياً ) ويقتل طفلاً أفريقياً كل 30 ثانية ، وهناك سوء التغذية الذي يقتل ( 145 مليون طفل ) تحت سن الخامسة من العمر في الدول الفقيرة .

وهناك إلى جانب هذه الكوارث الصحية كوارث أخرى لا تقل خطراً ، وهي كوارث صامتة إذا صح التعبير ، لأنها تعد من الممارسات اليومية المسكوت عنها ، وأعني بها عادة التدخين ، فهذه العادة الخبيثة يتجاوز ضحاياها أي مرض آخر ، إذ يقتل التدخين ( 140 مليون مدخن/سنوياً ) وهناك أيضاً بعض الأمراض البسيطة في مظهرها ولكنها خطيرة في نتائجها ، ومنها مثلاً أمراض الإسهال التي تقتل ( 20 مليون طفل / سنوياً ) في الدول الفقيرة !

وهكذا نجد أن الأمراض في مناسبات عديدة قد بلغت حداً خطيراً جداً أوشك أن يهدد الجنس البشري ، كما أن بعضها يعمل يومياً وبصمت على إفناء الجنس البشري دون أن يقوم البشر بخطوات عملية حاسمة لوقف هذا التدمير !

فإذا أضفنا إلى هذا أن منظمة الصحة العالمية ( WHO ) قد سجلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ظهور أكثر من ثلاثين مرضاً وبائياً جديداً فإننا ندرك حجم الكارثة التي يمكن أن تنفجر في أي وقت لتقضي على ملايين لا تحصى من البشر .. لا قدَّر الله .

الكوارث السياسية :

        والسياسة ـ للأسف الشديد ـ هي أمُّ الكوارث ، وكثيراً ما أدت إلى نزاعات وحروب وانقلابات ومصادمات دامية أودت بأرواح الملايين على مدار التاريخ ، ولاشك بأن الحرب تعد من أشد الكوارث السياسية التي يبدو أن البشر قد أدمنوا عليها منذ زمن بعيد ولم يعودوا قادرين على الإقلاع عنها ، حتى إننا لا نكاد نعثر على فترة من تاريخ البشر خالية من الحروب أو الصراعات الدامية ، فقد ظلت نار الحرب مشتعلة باستمرار هنا أو هناك ، وكأنها نار مقدسة لا غنى للبشر عن لهيبها الحارق .

وتشير الإحصائيات إلى حدوث ما لا يقل عن ( 15.000  حرب ) خلال  5500 سنة الماضية ، بمعدل (  2 ـ 3 حروب / سنوياً ) قتل فيها أكثر من (3540 مليون إنسان) أي قرابة  80 % من عدد سكان العالم حالياً ، ويقدر خبراء الحرب أن البشرية لم تعش في المضي بوئام وسلام إلا ( 29  سنة فقط ) وأن نصف الحروب التي شهدها العالم حدثت في أوروبا  وكانت حصيلة القتلى في الحروب كما يلي : في القرن السابع عشر ( 3.3 مليون قتيل ) وفي القرن الثامن عشر ( 5.2 مليون قتيل ) وفي القرن التاسع عشر ( 5.5 مليون قتيل ) أما القرن العشرون في حربين عالميتين حدثتا فيه قتل أكثر من ( 100 مليون ) مما يدل على تفاقم الكارثة عصراً بعد عصر ، ويماً بعد يوم ، وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى التقدم العلمي الذي حصل في العصر الحديث في ميدان التسلح ، مما زود أرباب السياسة والحرب بأسلحة تدمير شامل لا تبقي ولا تذر ، منها القنابل الذرية والهيدروجينية والنترونية ، ومنها الأسلحة الكيميائية والأسلحة البيولوجية ، وغيرها من الأسلحة التي أصبح بمقدورها أن تقضي على ملايين البشر بلمح البصر !

وقد وقعت أول كارثة ذرية في التاريخ صبيحة يوم 16 أب من عام 1945 عندما ألقت الولايات المتحدة قنبلتها الذرية الأولى على مدينة هيروشيما اليابانية ، وأتبعتها بقنبلة أخرى على ناغازاكي بعد ثلاثة أيام فأودت بحياة (250.000 شخص) بالإضافة إلى عشرات الآلاف الذين قضوا في وقت لاحق نتيجة الحروق الواسعة التي لحقت بهم من جراء الانفجار الهائل والإشعاع النووي ، ومئات الآلاف الذين ظلوا يعانون من التشوهات والإعاقات المختلفة لأعوام طويلة انتهت بوفاة الكثيرين منهم ، وقد دمرت القنبلتان المدينتين وما حولهما تدميراً شاملاً فلم تبقيا فيهما حجراً على حجر ، ولوثتا البيئة المحيطة بهما بالإشعاع الذري فلم تعد البيئة صالحة لسكنى البشر إلى سنوات طويلة ، فإذا علمنا بعد هذه الكارثة أن مستودعات الدول النووية ( الولايات المتحدة ، روسيا ، إنكلترا ، فرنسا ، الصين ، الهند ، الباكستان ) تحتوي على آلاف الرؤوس النووية فإننا ندرك حجم الكارثة التي يمكن أن تقع في أية لحظة فتقضي على ملايين البشر ، ولا يستبعد أن تقضي على الجنس البشري كله فيما لو حصلت كارثة نووية شاملة بانفجار عدة مفاعلات نووية أو عدة مستودعات نووية ، وما كارثة انفجار المفاعل الذري في تشيرنوبل بالاتحاد السوفياتي عنا ببعيد ، ففي يوم الخامس والعشرين من شهر نيسان 1986 الساعة 23:23 انفجر هذا المفاعل ليشكل أكبر كارثة نووية شهدها عصر الذرة ، فأودى بحياة معظم الذين كانوا في موقع الانفجار (120.000 ضحية) وأحدث أضراراً مادية فادحة في دائرة قطرها 30 كلم ، كما أودى بحياة 5722 ضحية من عمال الإنقاذ الذين اندفعوا لإطفاء الحرائق دون اتخاذ وسائل الوقاية من الإشعاع وانتشر التلوث الإشعاعي انتشاراً واسعاً غطى معظم أنحاء أوروبا الشمالية .. مما هز العالم هزة عنيفة ، ونبه للمخاطر الرهيبة التي باتت تنام إلى جوارنا ويمكن أن تصحو في أية لحظة لتقضي على الحرث والنسل ، وتسبب كوارث لا يعلم إلا الله سبحانه إلام تنتهي بالجنس البشري !

أما الكوارث السياسية الأخرى فتتمثل بالحروب العالمية التي ازداد أوارها في القرن العشرين ، واستخدمت فيها أحدث التقنيات المدمرة التي كان منها السلاح الذري الذي سبق الحديث عن نتائجه المأساوية ، وقد شهد القرن العشرون حربين عالميتين لم يشهد التاريخ لهما مثيلاً من قبل ، فقد دمرت فيهما مئات المدن العامرة ، وقتل فيهما أكثر من مائة مليون نسمة ، وكلفت الحربان مليارات لا تحصى من الدولارات .

ومن الطريف أن نذكر أن الحرب العالمية الأولى ( 1914 ـ 1918 ) بعد أن وضعت أوزارها ونتيجة للمآسي الفظيعة التي نجمت عنها جعلت المحللين السياسيين والمؤرخين يصفونها بأنها ( الحرب التي أنهت جميع الحروب ) اعتقاداً منهم أنها كانت درساً قاسياً جداً سوف يردع البشرية عن تكرار مثل هذه الحماقة مرة أخرى ، لكن الأيام سريعاً ما خيبت تلك الظنون ، إذ لم تمض سنوات قليلة حتى اشتعلت الحرب العالمية الثانية ( 1939 ـ 1945 ) لتهز العالم هزة عنيفة ، وتحرق الأخضر واليابس وتقضي على ملايين لا تحصى من البشر !

وفي عام 1962 وقف العالم كله حابساً أنفاسه خوفاً من اندلاع الحرب العالمية الثالثة ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ، والتي كان متوقعاً أن تكون حرباً نووية لأول مرة في التاريخ ، وكان السبب المباشر لتلك الحرب المتوقعة أن الاتحاد السوفيتي أقدم على نشر صواريخ بالستية في جزيرة كوبا المتاخمة للولايات المتحدة 90 ميلاً لكي يحول دون محاولة الولايات المتحدة من غزو الجزيرة  ، وفي 15 أكتوبر 1962 اكتشفت طائرات التجسس الأمريكية منصات الصواريخ ، ورأت فيها تهديداً مباشراً لأمن الولايات المتحدة ، فوضعت البحرية الأمريكية أسطولاً بحرياً عسكرياً لتفتيش السفن المتجهة إلى كوبا ، وفي يوم 27 أكتوبر 1962 أرسل الرئيس الكوبي فيديل كاسترو رسالة خطية للرئيس السوفياتي يحثه فيها على شنّ هجوم نووي على الولايات المتحدة استباقاً للأحداث ، ومضت ساعات حرجة جعلت العالم كله يتسمر وهو يصغي لمحطات الراديو انتظاراً لما هو الأسوأ في التاريخ ، وبعد ساعات من الترقب والرعب النووي رضخ الاتحاد السوفييتي لإزالة الصواريخ الكوبية شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا وسحب الصواريخ البالستية الأمريكية من تركيا ، وتنفس العالم الصعداء لدى انقشاع نذر الحرب التي كان يمكن أن تقضي على الجنس البشري في أيام نحسات !

وليست الحروب العالمية هي التي تهز العالم ، بل إن بعض الصراعات المحلية يمكن أن تكون أشد هولاً من الحروب الكبرى ، ففي عام 1975 بدأت أحداث أسوأ مجزرة بشرية في تاريخ التطهير العرقي مما جعل العالم يقف مذهولاً لهول الفاجعة ، فقد قتل أكثر من ثلث السكان في كمبوشيا خلال أربع سنوات تقريباً ، ولم يبق من أصل 8 ملايين نسمة سوى 5.5 مليوناً فقط .

وفي عام 1991 في خضم حرب الخليج الثانية التي أقدم فيه الرئيس العراقي صدام حسين على غزو الكويت ، وبعد الهجوم الذي شنته قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتحرير الكويت أقدمت قوات صدام على إشعال النار في مئات آبار النفط الكويتية نكاية بما حصل ضده من قوات التحالف ، وهكذا شهد العالم أسوأ كارثة تلوث بيئي بالنفط ، فقد كان يحترق يومياً أكثر من ( 10.000 طن ) من النفط الخام ، وأكثر من ( 70 مليون متر مكعب ) من الغازات السامة التي انتشرت في المنطقة وما حولها إضافة إلى ما يزيد عن ( 800.000 طن ) من النفط والمواد الملوثة التي ألقيت في مياه الخليج إبان المعارك الحربية ، وقد أدت سحب الدخان الكثيفة الناتجة عن ذلك إلى حجب نور الشمس وانخفاض درجة الحرارة أكثر من عشر درجات مئوية عن معدلها المعتاد ، واستمر ذلك لمدة عام كامل ، كما قتلت المواد النفطية التي وصلت إلى مياه الخليج ملايين لا تحصى من الأحياء البحرية والطيور !

أما ما أحدثته الثورات الثقافية والحزبية من كوارث بشرية فحدث عنها ولا حرج ، وقد نشرت مجلة لوفيغارو الفرنسية بعددها الصادر في ( 19 ـ 25 /11/1978 ) تقريراً مفصلاً عن عهد الزعيم الصيني ( ماوتسي تونغ).

               

[1] من خلال الكتاب الأسود الذي حرره  الكاتب الفرنسي ستيفان كورتو مع مجموعة من المتخصصين في دراسة النظم الشيوعية ومنهم يساريون وشيوعيون ، وقد قدر هؤلاء المتخصصون عدد ضحايا الشيوعية خلال 80 سنة من حكمها ـ في الاتحاد السوفياتي والصين بخاصة ـ بأكثر من 100 مليون ضحية ، في مذبحة تاريخية تستعصي على التفسير لشدة بشاعتها ، وصدق الله العظيم الذي يبين هذه النزعة الشريرة التي إذا عصفت بالعقل البشري جعلته يتصرف أسوأ من الحيوان ( قُتِلَ الإنسَانُ ما أكْفَرَهُ ) !

[1] - ماو تسي تونغ ( 1893 ـ 1976 ) : كان زعيم الحزب الشيوعي الصيني منذ عام 1935 وحتى وفاته ، ساهم بتأسيس الحزب الشيوعي ثم تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 ، عمل على تطوير مفهوم جديد للشيوعية سُمّي " بالماوية " نسبة إليه ، وهو مزيج من شيوعية لينين وماركس .