مُرسى .. وعائشة الحُرة الأندلُسية
هشام نجار - مصر
الذى يشعرُ به من معى فى السيارة الأجرة من والى القاهرة أننى أبدو مُختلفاً عنهم ، وفى كل مرة أستقل فيها حافلة ويثورُ نقاش حول الشأن العام ألوذ بالصمت ما لم يكن نقاشاً موضوعياً بَناءاً مع أناس أتوسم فيهم الخير والتفاعل الايجابى ، لننتهى الى نتيجة مُرضية بعد شوط الجدال الطويل الذى تحملنا مشاقه مع مشاق الطريق المُمتد .
أما فى هذه المرة وفى مرات كثيرة مُشابهة فالنقاش مختلف ، والمتحدثون بجانبى وأمامى وخلفى لا يتحدثون عن قضايا انما عن شائعات وتخرصات ، ولا يعبرون عن نقد موضوعى انما حديثهم كله شتائم وألفاظ سوقية وتوعد بالقتل وسخرية وبلطجة لفظية .. الخ .
ومن ضمن ما سمعته وأنا أغوص فى بحر صمتى وتفكيرى أن قالَ أحدهم بعدما أفلسَ من الأفكار الفارغة : " طيب تعرفوا بقى ان مرسى أمه اسمها " سَنية " ، طيب والله لأفضحه لما أروحله عند الاتحادية " .
رحمَ الله أمهات المسلمين ، وأم الدكتور مرسى سيدة مصرية فلاحة أصيلة كغالبية النساء المصريات ، اللاتى كافحن وصبرن وربين أبناءهن على الفضيلة والصدق والتسامح والأخلاق الاسلامية القويمة ، وحتى أوصلوهم الى هذا المستوى العلمى الراقى ونيل الدرجات العلمية من الخارج رغم شظف العيش ورغم سوء الحالة الاقتصادية التى يعيشها المصريون جميعاً .
فى مثل هذه الحالات ألتزمُ بصمتى وان استفزنى البعض للحديث ، وأفضلُ أن أجرى حواراً داخلى أرصدُ فيه الأفكار المطروحة وأستقصيها حتى لو كانت سطحية وساذجة .
فقد ذكرنى هذا الشخص العجيب الذى هددَ الدكتور مرسى باسم أمه " سَنية " – لا أدرى بالطبع ما هو اسم أمه الحقيقى – بقصة عائشة الحرة الأندلسية التى سعدتُ كثيراً عندما وجدتُ لها ابناً تمنته بعدما فُجعت فى ابنها الذى ضيعَ ماكاً لم يحافظ عليه كالرجال .
وددتُ ساعتها لو يصمتُ ركاب السيارة الغاضبون والساخرون والمُهددون لأقص عليهم القصة ، لكننى كنتُ على يقين أنهم ليسوا فى حاجة لمزيد من القصص من شخص يبدو مختلفاً عنهم – أو هكذا يظنون - .
كانت الحضارة الاسلامية – ومنها الأندلسية – ثرة مدرارة ، ترى غناها متدفقاً ، يسابقك ويغلبك على نفسه أو نفسك ، وهذا يتم عندما تغوص فى الأعماق منه ، بالعُدة اللازمة المؤهلة ، متروياً متبصراً بدوافع نية ذاتية متجردة .. فكيف فى مثل هذا المناخ المتربص أبصرهم بالحقائق ، وكيف بهذا المنطق المتعجل أهدئ من انجرافهم الهادر نحو الأحكام المُطلقة والرأى الواحد .
رأيتُ فى كيفية نطقه الاسم احتقاراً للمرأة لمجرد أنها تحمل اسماً كهذا ، وأردتُ أن أقولَ له أن الحضارة الانسانية شاركَ فى صناعتها عموم المجتمع الاسلامى من الرجال والنساء كباراً وصغاراً ، ووجدَ فيها غيرُ المسلمين الجو الذى يحلمون به ، بل ربما لم يكن يحظر لهم على بال .
كل هذا غاب عن كثير من مسلمى اليوم .. فكيف بغيرهم ؟؟
تساءلتْ والضحكاتُ تتصاعد والراكب العجيب يزيد فى تهكمه ، وهو ينادى رئيس الجمهورية باسم أمه الذى اخترعه له .
كثيراً ما حضرتُ حوارات وكتبتُ مقالات حول المرأة وحقوقها وموقعها فى الاسلام ؛ فما مشكلة هذا الراكب مع المرأة ، وهل مشكلته أنه لا يعرف مكانتها فى دينه – وتلك مشكلة كثيرين ومنهم غربيون ومستشرقون - ، أم أنه فقط يبحث عن شئ ينتقص به خصمه ويُعيره به ؟
فان كانت الأولى فالمرأة المسلمة بالرغم أن مهمتها الأولى والأهم رعاية الأسرة وتربية الأولاد واعدادهم لبناء الحياة الفاضلة بالاسلام وقد أهلها الله فطرة وخلقاً وطبيعة للقيام بهذا الواجب ، فانه أباحَ لها القيام بأعمال أخرى خارج البيت والمشاركة فى كافة الميادين ، والتاريخ والواقع يخبرنا عن أسماء مُبدعات وعبقريات فى كافة الميادين .
وليس من المُستبعد أن نسمع عن المُفكرة " سنية " ، والعالمة " سنية " والمخترعة " سنية " .. الخ .
لكننى وقفتُ أثناء المشوار الطويل المُرهق على اسم واحدة من الأسماء المُبهرة فى سجل النساء الخالدات ، عندما توعد الراكب فضحَ الدكتور مرسى باسم أمه المزعوم .
توقفتُ عند اسم " عائشة الحرة الأندلسية " التى كان لها موقف شهير من ابنها الذى لم يحافظ على ملك بلاده مثل الرجال ، وتخيلتُ والدة الدكتور مرسى كذلك – بصرف النظر عن اسمها وان كانت حية ترزق أم لا – باعتبار ما سيكون اذا تنازل عن الحكم فى مثل هذه الظروف فتتعقد الأمور وتتفاقم الأزمات .
وعائشة الحرة هى زوجة سلطان الأندلس أبو الحسن على الغالب بالله ، وأم آخر ملوك غرناطة محمد الحادى عشر أبو عبدالله الصغير ، وهو الذى وقعَ معاهدة استسلام وتسليم غرناطة ، ثم كان الاستيلاء عليها سنة 897ه – 1492م .
ثم كانت مغادرته الأندلس نهائياً الى المغرب بعد أقل من سنتين ليستقرَ فى مدينة فاس المغربية ويقدم رسالة اعتذار مُطولة لسطانها .
وكانت مفاوضات الاستسلام ثم التخلى عنها للملكين الكاثوليكيين فرناندو وايزابيل فى أكتوبر – نوفمبر 1491م .
رحلَ هذا الملك الصغير من غرناطة الحرة الأبية الزكية ، وبعد معارك مدمرة وقف لها أبطالها بقيادة فارسها المعلم موسى بن أبى الغسان الذى رفض الاستسلام .
وبينما هذا الملك الصغير خارج الى مدينة أندرش جنوب شرق غرناطة مع أسرته وحاشيته وأمه عائشة الحرة ، وقف وهو على فرسه فوق تل البذول ينظر الى غرناطة الدرة الفريدة المُضيعة التى سلمها لقمة سائغة للعدو الصليبى الذى كسرَ ودمر ثم هجر ، وقف فقال " الله أكبر " ثم انفجرَ باكياً متأسفاً على غرناطة الحبيبة الجميلة .. آخر نظرة دامعة ، والتى تعرف تاريخياً بزفرة الأندلسى الأخيرة .
وهنا قالت له أمه متأثرة مُعيرة له : " ابكِ مثل النساء مُلكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال " .
ابكِ مثل النساء ملكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
أهبطُ من السيارة والراكب لا يزال يتحدث عن مرسى وأمه " سَنية " بحسب تصوره واختراعه .
أما أنا فكنتُ أنظر الى المآلات والى أم مرسى الأخرى " عائشة الحرة الأندلسية " والملايين من المؤيدين للشرعية والداعمين للمسَار الديمقراطى ، فماذا لو تخاذل مرسى وتنازل واستسلم وذهبت البلاد الى المجهول ؟
ساعتها سيبكى مُرسى كالنساء ملكاً لم يحافظ عليه مثل الرجال .
هاكم ابنكِ الذى تمنيتيه يا عائشة الحرة .
محمد مرسى عيسى العياط .
رجل مناضل مقاوم بطل
وقف حتى النهاية صامداً
ولم ينحنِ لحرب الابادة التى شنتها كتائب نظام مبارك عليه .
رجل لم يبكِ كالنساء .
رجل حافظ على مكانه وموقعه وتحمل مسئوليته .. كشأن الرجال العظام .