هذا هو شعبنا
عقاب يحيى
تقول الذكريات : حين كنا صغاراً كانت الدنيا غير الدنيا.. وكأنّ الناس غير الناس..
وتقول الوقائع أن ذلك حقيقة، وليس مجرد معزوفة ترددها الأجيال المتعاقبة، وكل جيل يترحّم على أيام زمان..أو يعتبر من كان قبلاً، وما كان سائداً هو الأفضل...كترجمة لرفض واقع مشبع بالدمامل..
كانت البساطة سمة عامة، وتفرز طيبة، وحميمية في العلاقات، ومصداقية أكبر في التعامل، وتمسكاً عند الأغلبية بتلك الأخلاق الخلاصة التي تنبز السرّاق، والمرتشين، والمشوّهين في سلوكهم، وتعتبرهم عاهات كثيراً ما كان المجتمع يحاصرهم،ويعمل على عزلهم,,,
ولعل الأهم من كل ذلك ..أن الأمة كانت تحمل مشروعاً طموحاً، والشهية مفتوحة على الاهتمام بالشأن العام، وممارسة السياسية بحرية تتيحها تلك التجربة الديمقراطية المغدورة.. وما حملته الأجيال من أحلام عامة، كبيرة، وأصيلة لأمة تستحق التوحيد، والتحرر، والتقدّم، وممارسة كيانها بين الأمم...
نظم الأحادية والشمولية، والحزب الواحد القائد شقلبت الدنيا تحت شعارات الشرعية الثورية، وأعدمت الحريات العامة والخاصة في عملية تعليبية خانقة..ورغم صدق النوايا لدى الأغلبية، والخلفية الوطنية لمعظمهم، بما في ذلك نظافة اليد، والمسلك، وعمق الإيمان بالمبادئ.. إلا أن النتائج كانت مغايرة تماماً للنوايا والشعارات.. وقد دخلت على خطها عديد العوامل الذاتية والموضوعية.. بما فيها مستوى الوعي التجريبي ـ الالتقاطي، الاستئثاري..ومحاولة حمل مهام أكبر من القدرات والأدوات حتى بدت الفجوات أوسع وأوسع بين الشعارات والتطبيق.. وصولاً إلى هزيمة حزيران العسكرية ـ السياسية الساحقة ومفرزاتها الكبيرة في بطن تلك النظم وما ولّدت من قوى ارتدادية كانت تعيش في رحمها .
ولعل الأهم من ذلك كله.. دور المؤسسة العسكرية الساحق كاستناد، وصاحبة قرار يقبع خلف ستائر الأشكال الحزبية، وابتلاعها للعمل المدني، والأحزاب القائمة، وتكييفها وفق خصائص وعقلية أبناء تلك المؤسسة ومفرزاتها ....
*****
كان الارتداد يبدو نتاجاً طبيعياً للهزيمة، والأزمة البنيوية من جهة، ولنهج التعنّت في الخط السابق : الأحادي، الشمولي الرافض لإشراك الآخرين من القوى السياسية في القرار، ناهيكم عن موقع الشعب ودوره.. وحكاية التعليب في أقفاص "المنظمات الشعبية" الفاقدة لروح المبادرة، والقرار المستقل، والتابعة للحكم والحزب الواجهة.
الارتداد كان نهجاً متأصلاً يدوس على جلّ الإيجابي في تلك المراحل السابقة، عبر عملية نحر، ونخر،وتجويف، وإحلال قيم ومفاهيم وعلاقات جديدة : إطارها مجتمعات استهلاكية مستوردة الأفكار والعلاقات، نهشية، نهمية، ونسغها تشويه البشر واغتيال حقوقهم الديمقراطية، ومكانتهم كمواطنين، وتحويلهم على قطيع، وارقام، وملاحق في زمر النظام وعصاباته، وأجهزته الأمنية المتوحشة .
ـ إن سياسة التخويف، والتكييف، والإخضاع المعمم ما كانت عفوية، بل هي عملية مدروسة لإيجاد شعب فاقد الروح، والكرامة، والقيم، يتقن التصفيق والتلفيق، والمجاملة والانتهازية وتدبير الرأس، وقضاء حاجاته بالرشوة، والتزلف والتزييف..
ـ والأخطر من ذلك أن تلك العمليات المُبرمجة طالت باستهداف اللحمة الوطنية بمكوناتها وتنوعها لتوظيفها في خدمة النظام وبقائه.. عبر موضعة فاقعة للطائفية، ومختلف مخلفات مجتمعات ما قبل الدولة الوطنية، واللعب بها، وبالوقت نفسه تصدير واجهات مفرّغة من الكرامة، والقرار كجزء من عملية تزييفية مفضوحة تترك آثارها البعيدة في تغوّل الانتهازية وتعميمها.. ترافقاً مكلوباً مع تصقية وملاحقة الفكر النظيف، والقوى السياسية المعارضة، والعمل على خنقها، وتشويهها، وقطع السبل بينها وبين الأجيال..
ـ ولعل الوظيفة الأخطر لتلك النظم الارتدادية ما قامت به على الصعيد الوطني والقومي حين فرّغت الشعارات من مضامينها، وقتلتها وهي ترفع راياتها، وحوّلت المبادئ، والأفكار التحررية، والنبيلة إلى مماسح لكل قذاراتها، ونهبها، وفضائحها المجلجلة في جميع الصعد.. ثم في التهام الدولة تماماً بتحويلها إلى قطاع خاص منخور تابع للحكم، وتكبير الحاكم درجة العصمة، والتأبيد، ومنحه صلاحيات مطلقة، والنفخ به درجة تثير الاشمئزاز، وتدعو إلى تكفير الناس بكل ما يُطرح...ثم القبض على الدولة ـ الوطن في سراديب التوظيف كمزرعة خاصة للعائلة، والمافيا، والأجهزة الأمنية : الخادم والوسيلة ..
ـ كانت سياسة المقايضات بكل القضايا : والهدف البقاء في الحكم..من أبرز معالم تلك النظم، خاصة النظام السوري.. لما لسورية من دور ريادي قومي، وعلاقة خاصة بالقضية الفلسطينية . ولأن القضية الفلسطينية أمّ القضايا العربية، ومركزها.. تكفّل نظام الارتداد بها لنحرها بكل الوسائل المتنوعة : تزييفاً، ومحاولات إخضاع واحتواء، وشقّ، ثم بإعلان الحرب الضروس عليها : الدخول إلى لبنان ... وما تبع ذلك ..
ولعل ثالثة، أو مليون الأثافي الإجرامية تلك التي تتوّجت بتكريس التوريث فرضاً ينسف أسس الجمهورية، وجميع تلك الشعارات المثقوبة عن الحزب، والقومية، والديمقراطية.. وأطنان الأطعمة الشعارية الفاسدة، والنتنة..وقذفها في مستنقع التزييف.. تنغل فيها ديدان الحقيقة ..
****
ـ نعم نجحت تلك النظم في شقلبة المجتمعات العربية وتشويهها..وفي خنق الأحلام النظيفة : الوطنية والقومية والإنسانية، وحتى الشخصية، وأفضت سياساتها إلى يباب مترع بالتصحّر الشامل، والتزييف في الوعي، والعلاقات، والنفاق في التعاطي مع الآخرين، إلا من رحمه ربك فظل محافظاً على قيمه وأخلاقه، ولو في الظلال، والعتمة، والتكوّر..
ـ حين قامت ثورات الربيع العربي فُتح فجر الأمل بالتغيير الكلي.. بمكا في ذلك حبّ الناس لبعضهم، وتجرّؤهم على إقامة علاقات جديدة مبنية على التضامن، والود، وشيء من روح جماعية افتقدتها مجتمعاتنا عقوداً.. وظنّ الفرح الغامر أن عهداً جديداً سيعم بيسر وسرعة.. فعاش السوري أشهراً أقرب للحلم، وكأنه في حالة عشق شامل، واكتشاف لنفسه، والناس، وحب الوطن..
لكن مع ما فُرض على الثورة من اقتحام ميادين التسلح، ومواجهة الموت المعمم بما تملك من وسائل، ومع تعقّد المسار، ودخول قوى وعوامل كثيرة على خط الثورة، وسطحها، وحتى بعض فروع سواقيها تراجع ذلك الحلم، أو اتخذ أشكالاً أخرى اختلطت فيه كوابيس الخوف، ومناظر الأشلاء، والحطام، والدمار، ومجاهيل القادم.. وذلك الغريب في الأفكار، والأطروحات، والممارسات..وبما سمح، أيضاً، لعديد مركّبات ومفاعيل نظام الاستبداد والفئوية أن تبرز في مظاهر تشويهية، ومعيبة، وأكثر سوءاً من شبيحة النظام، وما يفعل، عبر المحسوبين على الثورة، والراكبين مقاعد المسؤولية السياسية والعسكرية فيها.. وبما يجعل ملايين السوريين يتساءلون عن موقع تلك الظواهر من الثورة، وعن نفورهم، وتقززهم.. وبما يدفع إلى ردود فعل يائسة.. وإلى حالة إحباط ازدادت في الأشهر الأخيرة درجة فقدان الأمل عند كثيرين.. وإبداء الندم لدى كثيرين أيضاً..
ـ وحين نتعمّق في دراسة الظواهر الناشزة، والكثيرة..ندرك بموضوعية أنها نتاج كل تلك التراكمات، وأنها حصيلة الفعل الجرمي للنظام بحق شعبنا..خاصة وأن أبواب الثورة، وطول المدة، وقصص الإغاثة، والتسليح، وحتى الهجرة الخارجية.. فتحت"طاقات القدر" للعديد فراح يتسابق ويتزاحم مستخدما جميع الأساليب القذرة التي يمارسها النظام وأشنع..ويبيح لنفسه فعهل كل شيء باسم الثورة، والبندقية التي يحمل...
ـ نعم هو شعبنا هذا بخلائطه ونوعياته المختلفة.. وهو لم يهبط علينا من المريخ . شعبنا ضحية فعل نظام الجريمة والفئوية، وشعبنا ذاته الذي يضحي، ويستشهد عديد أبنائه، وما يزال مصراً على انتزاع النصر مهما غلت التضحيات.. ومهما كان حجم ودور الانتهازيين، وتجار الحروب والمناسبات فيه وستتمكن الثورة ـ حين ينجلي الغبار ـ من تطهير نفسها، وتنظيف روحها من كل العَلق.. والأوساخ ..