كم هي عزيزة وغالية دموع المبدعين
كم هي عزيزة وغالية دموع المبدعين
سليمان عبد الله حمد
الاختلاط العرقي في وطنى أوجد مناخاً ثقافيا وإبداعياً له هويته وتميزه الخاص، لكن تلك الخصوصية في جغرافية وطنى الثقافية والعرقية أدت بدورها إلى خلق تلك الفجوة أو بناء ذلك الجدار الذي ظل يفصل بين المبدع والمتلقي العربي والأفريقي ..!
الوضع هنا شبيه بأغنية لا يطرب العرب كثيرا للحنها لأنها تنتمي إلى سلم موسيقى آخر غير الذي تعودوا عليه، بينما لا يستطيع الأفارقة ترديدها لأن كلماتها بالعربية! .. ربما لذلك ظل المبدع فى وطني محروماً من نعمة الانتشار عربيا وأفريقيا، وبقي بعض من لا تنطبق عليهم هذه القاعدة مجرد استثناء آخر لتأكيدها ..!
ولعل الطيب صالح هو أشهر تلك الاستثناءات باعتباره الروائي الوحيد الذي وصل إلى العالمية، غير أن بعض المبدعين في وطنى يرون (مع كامل احتفائهم بعبقرية الطيب صالح التي ليست محل جدال) أن تمجيد معظم العرب لأعماله هو في أغلب الأحوال انعكاس لانتشارها عالميا واحتفاء الآخر المغاير بها، الأمر الذي يفسر كونه الروائي الوحيد - تقريبا - الذي يعرفه العرب جيداً ..!
الروائي عبد العزيز بركة ساكن قال مرة إن الكثير من الأدباء لم يدخلوا معطف الطيب صالح في الأصل، حتى يخرجوا منه، وحتى الناقد الكبير عيسى الحلو الذي أطلق مقولة (الطيب صالح سقف الرواية ) لم يكن الطيب صالح يوماً ـ والكلام ما يزال لساكن ـ سقفا له ..!
أسباب غياب الرواية عن المشهد العربي كثيرة، أولها تقصير الإعلام وقصور جهود النشر والتوزيع، فضلاً عن إصرار المتلقي على أيقنة الرموز، والتواضع السلبي للمبدع ، وكون المقارنة مع الرواد خطاً أحمر، فضلاً عن «لعنة الطيب صالح» التي تحل على كل مبدع محلي يحاول تحقيق الانتشار عربياً ..!
خلاصة القول أن هذا السودان فيه مبدعون آخرون يتمنون أن يقولوا للعالم شيئا ويمكن أن يشكل انتشارهم إضافة نوعية للرواية العربية، لكن القارئ العربي لا يعرفهم وليس لديه استعداد كافٍ ليفعل، وهم قابعون في غياهب التجاهل لأن الحظ لم يحالفهم فتترجم أعمالهم إلى اللغة الإنجليزية كي يتلقفها القارئ العربي باهتمام بعد أن يردها مثقفو الغرب إليه رداً جميلاً ..!
لأجل ذلك ربما كان ذلك التمجيد والاحتفاء العربي بعبقرية الطيب صالح نعمة ونقمة ـ في آن معا !!! وفي تقدير المبدع السوداني الذي يتمنى أن يقول للعالم شيئاً يذكر، لكنه مُكبَّل باحتكار الطيب صالح لفكرة الإبداع الروائي السوداني في ذهن القارئ العربي..!
بكى مشاهدو التلفزيون عندما شاهدوا دموع الراحل الطيب صالح تتنافر من عينيه، وهو يتحدث من مستشفاه في لندن إلى محاوره، وقد غلبه الحنين إلى الدار والعشيرة التي يفصله عنها البعد المكاني، والأحباب الذين رحلوا،ومضى الأديب العالمي العملاق إلى رحاب الله وبقيت دموعه، مثل الزين والمريود وبت مجذوب وضو البيت في الخاطر والوجدان. وبكى الناس مرة أخرى مع الفنان السني الضوي في برنامج أغاني وأغاني وهو يتذكر رفيق دربه وصفي روحه الراحل ابراهيم أبودية...
كم هي عزيزة وغالية دموع المبدعين التي تهز المتلقي لأن المبدع متجذر في وجدان المتلقي بما يتجاوز اللحظة والمكان.
ذكري أيام خلت ولكنها تظل في ذاكرة الزمان والمكان ما بقي ذلك الجيل الذي عايش تلك الصور الجمالية !!!