جريمة بحب الوطن
جريمة بحب الوطن
د. سماح هدايا
يسألون بصراحة جريئة تصل حدّ التعدي الشخصي على الكبرياء الإنساني، وحد إنكار حق الفرد الذاتي في الحب...:
من أنت لتتكلمي في حب الوطن، وقد اخترت الرحيل عن الوطن منذ سنين؟ من أنت لتتحدثي بحديث ثورة ولم تكوني من الذين ثاروا في داخل البلاد ولم يكن لك تاريخ قي قضبان وزنزانة؟
ثم يحتدون ويغالون في الهجوم؛ فيتهمون؛ مثل اتهامهم لكثيرين غيري من الذين يعيشون خارج جغرافية الوطن اليومية والمكانيّة بأننا لا نحس بالوطن، ولا نحس بهم وبمعاناتهم، ولا نعرف حقيقة الكفاح الوطنيّ الواقعي، وأننا مصنوعون من معدن آخر. وربما نحن مأجورون أو مستعارون ....ولعلّه في الأغلب لا حق لنا في الحديث الجاد الواعي عن وطن نعيش خارجه ولا نعيش فيه.
عذرا منكم أيها الغيورون على الوطن.. وأعذر كثيرا قولتكم بنا؛ فأنتم مكلومون بمعاناتكم، وأحيانا، مأخودون بجهلكم بنا وبواقعنا وبالمنطق التاريخي للثورة...ليس الموضوع شبيها بطابو تمليك أو إيجار..وليس عمليّة احتكار لشركة أو مؤسسة أو جهة مالكة... وليس هناك تاريخ صلاحية للانتماء الوطني يتحدّد بيوم البقاء في الوطن أو يوم الرحيل عنه.
لعلي كمواطن من سوريا لا أحتاج لكي أقنعكم بوطنيتي إلى عالي الصراخ؛ فأشرح وأفسّر أصولي وتاريخي وسيرة حياتي ويوميات اعتقال مفترض أو وهمي؛ حتى أهدا وتهدأوا فلا تلغوني من خانة ولادتي ونشأتي وصلاحية وطنيتي وتعروني من هويتي؛ فيصيبني الجنون وأفقد توازني الإنساني في إحساسي الوطني؟
لماذا يسهل اتهامنا بعقوق الوطن بمجرد البعد عنه والرحيل؟ أليس أصل الابتعاد يكمن فيما كان من ظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أحاطت بنا جميعا ولفّت كرة وطننا؟ وهناك من جاءته الفرصة والرغبة ليرحل عن الوطن ويعمل بعيدا لتحسين ظرفه أو ظرف أهله، وربما استطاع من مكانه البعيد خارج الوطن ان يقدم لصديق أو قريب أو حبيب كسرة خبز في عوزه الجبري وقطعة شاش لتضميد جرحه النازف المتروك. ونهلة أمل لدعم قلبه الموجوع... وهناك، بالمقابل، من لم تأته الفرصة والرغبة ليرحل عن الوطن؛ فبقي فيه وربما بقي ساكنا خانعا صامتا. وربما كان انتهازيا وجبانا ودفن رأسه في مزابل الوطن حتى يحتمي من نصل السياف. وربما كان شبيحا بجدارة تحت أكثر من مسمّى. فهل الأول مشكوك بأمر وفائه، والثاني لا شك في وفائه؟
ولماذا افتراض البعد الوجداني عن الوطن كتحصيل للبعد المكاني؟ هل كل أبناء الأوطان الأخرين يعيشون مكانيّا في أوطانهم فقط؟ أليس هناك في كل الأمم والأوطان أبناء يعيشون خارج أوطانهم ويحبونها وينتمون إليها ويمارسون أدوارهم السياسية والاجتماعية وحقوقهم؟ وهل العيش في داخل المكان يعني دائما حتميّة الوفاء له، وبالتالي العيش خارج المكان يعني دائما حتميّة خيانته؟
نحن بشر ... وإنسانيتنا تكمن في تواصلنا الوجداني والاجتماعي بالناس ممن نشأنا معهم وتقاسمنا معهم حظنا من العيش والحياة والرفقة والجيرة. وهناك ألف شكل للتواصل؛ خصوصا مع ثورة الاتصالات.
مثلي مثل كثيرين لم تنقطع، يوما، صلتنا بوطننا: لا عن مجريات زمانه ولاعن خارطة مكانه، ولاعن وجدان أهله، ولا عن نبض أحلامه، ولا عن معاناة ناسه. حتى عندما كان العجز يعرقل التصالح مع الوطن وحماية دماء أبنائه. إن كنّا ارتحلنا بأجسامنا؛ فقد ظلت روحنا هناك... بذاكرتنا. بفكرنا. بحلمنا. بطفولتنا. بأحاديثنا عنه. بزياراتنا له. بأهلنا. بأصدقائنا. بحاراتنا.
حبنا هو شيء أكبر من التفسير. له سحرية خاصة تزداد قوة وحضورا بالابتعاد والشوق. وله قدسية المعنى الأكبر قي الثقة بحضن الأمان الذي في روحه وفي باطنه. وحتى في أقصى البعد كنا نحاول أن نعيد اكتشافه ونعيد فهم المعنى الذي يوثق صلتنا به. لاشيء يحجبنا عن التعاطف معه وعن عشقه. هو جزء من عالمنا الذي نحاول وعيه روحيا وماديا. بل يصبح الموت بعيدا عنه أشد خوفا من الموت نفسه... تحية لكل من بقي في الوطن يناضل. وتحية لكل من بقي في الوطن يصمد ويكافح. وتحية لكل شهيد تطهّر بالوطن وطهّر ترابه بدمه...وتحية لمن هو خارج الوطن ومازال يمسك بالحبل السرّي الذي يصله بقلب الوطن...فلا تقسّمونا أيها الباقون في الوطن أكثر مما نحن فيه منقسمون.