أبعاد نفسية واجتماعية من قصة طالوت
عبد العزيز كحيل
مضت سنة الله في بني إسرائيل الذين استساغوا احتلال أرضهم واستثقلوا الجهاد لتحريرها رغم ندب موسى عليه السلام لهم للقتال فعوقبوا بالتيه وهاموا على وجوههم في الصحاري والقفار ردحًا من الزمن ، ثمّ بدت منهم رغبة في حمل السلاح لإخراج العدوّ المحتلّ من بلادهم وكلّموا نبيّ زمانهم في ذلك ليتولّى توجيههم بما يناسب : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " – سورة البقرة 246 ( وتستمرّ القصة إلى غاية الآية252)
من هنا تبدأ سلسلة من المواقف، كلّها في حاجة إلى وقفات إيمانية وعلمية لاستخراج الدروس والعبَر المُجلّية لكَوَامن النفوس وسنن الاجتماع، و الهادية للمؤمنين في استحضار حقائق الوحي من أجل تجلية معالم الصراع مع النفس ثم مع الخصوم .
1. النبيّ يحذّر من فورة الحماس: لم يتسرّع النبيّ في إجابة قومه إلى القتال،لأن معرفته بهم – وهم شعب غليظ الرقبة عبر الأجيال المختلفة – وحذّرهم من نزوات العواطف الفائرة والعزائم الظرفية: " قال هل عَسَيتُم إن كُتب عليكم القتال ألاّ تقاتلوا؟ "، لكنّهم أبدوا استمساكا بقرار الحرب و ساقوا حجَجًا تُظهر العزيمة وتدحض التردّد : " قالوا وما لنا ألاّ نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ "
2. أمارات الهزيمة النفسية: لمّا رأى نبيُّهم هذا الإصرار منهم على القتال لاسترجاع حقوقهم أعلن التعبئة العامة، فكانت الصدمة الأولى، وهي أولى علامات الانهزام قبل أن تبدأ المعركة، إنّها بوادر الهزيمة النفسية التي لن تقود إلاّ إلى مزيد من التراجع والإخفاق أمام العدوّ : " فلمّا كُتب عليهم القتال تولّوا إلا قليلا منهم " ..
هكذا تبيّن أنّ اندفاعهم الأوّل كان مجرّد نزوة عابرة لم تصمد أمام الخطوات العملية، وما هذا سوى للخَوَر الذي أصبح عندهم خصيصة وخُلُقًا، وذلك شرّ ما يُبتلى به إنسان، فإذا ابتُليت به أمّة كانت الكارثة، لكن هناك قلّة بقيت على عهدها، غير أن علامات الهزيمة تبقى مصاحبة لها إلا دائرة ضيّقة من أصحاب المبادئ والتصميم يخوضون المطاف إلى نهايته.
3.خطوات متتالية للتراجع: بعد أن تراجعت الأغلبية عند الوهلة الأولى اعتمد نبيّ الزمان على البقية المثابرة: "وقال لهم نبيّهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا "، نحن هنا أمام عدّة مسائل يجب التوقّف عندها:
- لا بدّ للحشود المتأهّبة للقتال من قائد ينضوون تحت لوائه، وها هو قائد الجيش أمامهم، ومعه ميزة نادرة، إذ لم تعيّنه قيادة الأركان ولا الجماعة ولا حتى النبي، بل هو من اصطفاء الله تعالى، الله الذي يُؤمن به بنو إسرائيل.
- كان ينبغي – والحالة هذه – أن تسارع الجموع " المؤمنة " إلى مبايعة طالوت والانصياع لأمر الله دون تردّد لأن ديدن المؤمنين أن يقابلوا أمر الله بالسمع الفوري والطاعة المطلقة: " وقالوا سمعنا وأطعنا " – سورة البقرة 285 ، لكن موقف هؤلاء القوم لم يشذّ عن موقف اليهود الدائم " قالوا سمعنا وعصينا " – سورة البقرة 93.
فأيّ إيمان هذا ؟ وأيّة عقيدة هذه ؟
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " – سورة الأحزاب 36
- لم يكتف القوم بعدم إنفاذ الأمر الرباني – وهذه وحدها قاصمة كبرى – بل شكّكوا في الحكمة الإلهية: " قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه "، يرون أن الاختيار الإلهي جانبَه الصواب لأنّ منهم من هو أجدر بالقيادة من طالوت، كأنّ ذلك فات علمَ الله
إنّ الإذعان لأمر الله ونهيه دليل الإيمان ومقتضاه الطبيعي، وقد أمضى إبراهيم عليه السلام ما رأى أنه أمر بذبح ابنه الصغير الوحيد، فأقدم على النحر بدون تردّد، وأسلم إسماعيل عليه السلام عنقه للسكين راضيا طائعا لمّا علم أن ذلك أمر الله ، ليقين الأب والابن أن أوامر الله كلّها حكمة ومصلحة وخير.
وإن تعجب فاعجب من " مسلمين " معاصرين يثورون غضبا إذا وُصفوا بالكفر، لكنّهم يرفضون أحكام الشريعة، وعلى رأسها تعدّد الزوجات وقسمة المرأة مع الذكر في الميراث ولباسها الشرعي والحدود أي العقوبات البدنية.
فهذه سنّة إسرائيلية قديمة، وزاد القدامى على المعاصرين بأنهم جادلوا النبيّ ذاته في الحكم الإلهي.
- ولا ينتهي العَجَب هنا، فقد أضافوا في جدالهم لنبيّهم ما يدلّ على الغباء والحمق أو على المماطلة حتى لا يخرجوا للقتال الذي كانوا قد انتدبوا أنفسهم له " ولم يُؤتَ سعة من المال"..أيّ منطق هذا؟ الجيش يحتاج إلى ضابط كبير منحنّك يقوده للنصر، ولهذا الضابط مواصفات بديهية، ليس منها الغنى على الإطلاق ! فما دخل الثروة في قيادة الجيوش وخوض الحروب؟ أهو المقياس المادّي الذي درج عليه بنو إسرائيل من قديم مع قضية العجل مثلا؟ الاعتبار عندهم للمال وليس للكفاءة ولا حتى للاصطفاء الرباني..
- يحاول النبيّ ردّهم إلى جادّة الصواب ومنطقة التفكير السليم: " قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء "، ذكّرهم بأنّ الأمر فصلت فيه السماء التي يؤمنون بوحيها، ونبّههُم إلى مؤهّلات القيادة ولخّصها – بالنسبة لقيادة المعارك الحربية – في المعرفة والقوة البدنية، وهذا ما لا يختلف حوله مؤمن ولا كافر، لأن العلم يتيح وضع الخُطط الناجحة بناء على قائمة من المعلومات والمعطيات، أما بسطة الجسم فكانت ضرورية آنذاك لأن الحروب كانت بدنية يتصارع فيها المتقاتلون بالقوة العضلية.
- ويبدو أن القوم لم يتحرّروا من التردّد والتلكّؤ، فجاءهم مددُ من السماء هو غاية في الغرابة: " وقال لهم نبيّهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم وبقية ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة "..
تتمثّل الغرابة في أمور، أوّلها أنّ السكينة أمر نفسي معنوي يتنزّل على القلوب ويغشى النفوس فيسوق إليها الطمأنينة والرضا، لكنّها هنا تتنزّل على التابوت أي الصندوق الخشبي، وكأنها تَسخَر من هؤلاء العُتاة الذين لم تجد فسحة في قلوبهم المغلقة لتتنزّل فيها، وثانيها أنّهم كانوا في حاجة إلى تثبيت ليخوضوا الحرب، فما دخل آثار موسى وهارون في ذلك؟ إنّه طغيان الجانب الحسّي عليهم وحبّهم للمجسّم، يذكّر بقصّة العجل وطلبهم رؤية الله جهرة والمائدة المنزّلة وما تُنبت الأرض، وثالثها تدخّل الملائكة هنا ليس للقتال معهم ولكنها هي التي تحمل التابوت لعلّهم يتأكّدون من المعجزة الخارقة !!!
- الابتلاء البسيط: تخلّف من تخلّف وسار من سار مع طالوت بعد الجدال والتردد ومحاولات الإقناع بخوض الجهاد،ورأى القائد أن يمتحن جنوده امتحانًا بسيطًا يختبر به قدرتهم على التحمّل، والجهاد يحتاج دائما إلى عدّة من تحمّل الصعاب ورصيد من القدرة على تجاوز شتّى أنواع الحرمان، فمنع الجُند من عبّ الماء من النهر الذي يعترضهم والاكتفاء بغرفة واحدة منه لمن غلبه العطش، لكنّ أغلبيتهم رسبت في هذا الامتحان السهل بالنسبة لمقاتلين سيواجهون الموت في ساحة الوغى: " فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " ، فخارت قواهم بمجرّد اجتياز المجرى المائي، وهو ما كان منتظرا، فكيف يتغلّب على عدوّه من لم يتغلّب على شهوة نفسه؟ قال الله: " فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ".
3. القلّة النوعية: ما مصير معركة بدأت بالاختلاف حول القائد وتتالت عليها التراجعات وكانت فيها الهزيمة النفسية سيّدة الموقف؟ إنّه الانكسار المحقّق أمام العدوّ، لكنّ الله تعالى أمضى سنّة النوعية ولم يبال بالكثرة المنسحبة : " قال الذين يظنّون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين".
عملت الغربلة عملها عبر مراحل عدّة فذهب الزبد وبقي النافع الذي يتحقّق على يديه النصر، وهو القلّة المؤمنة المتحلّية بالصبر على المكاره والضغوط المتنوّعة والعقبات الكأداء.
إنّها الطائفة المنصورة والفرقة الناجية التي أخذت بحظّ وافر من اليقين في الله والثقة في النفس والثبات عند الامتحان، فعوّضت بنوعيتها الرفيعة عن قلّة عددها، وماذا فاتها إذا كان الواحد من أفرادها كألف أو مائة من أعدائها بفضل خصاله وأخلاقه وعطائه؟ وما فائدة كثرة غثائية ترسب في أول اختبار وتتراجع عند أول تحدّ ، تمتهن الجدل ولا تقوى على التضحية والعمل؟ وما زالت دروس بدر و حنين ماثلة للناس تدحض أي مماحكة أو مجادلة بالباطل.
4. الدعاء الميداني: بقيت القلّة المؤمنة مع جالوت، عازمة على خوض معركة التحرير الكبرى وهي مدركةٌ لجوانب الضعف فيها كما تتراءى للنظر الدنيوي السطحي، من قلّة عدد و وهن يسري في الأغلبية يُفضي إلى الانهزام ، فلاقت عدوّها في الميدان بمعنويات مرتفعة، يكلأها التوكل على الله والاستمداد من قدرته والاستعانة بأرصدة من الصبر تنساب من السماء: " ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين "...إنه الدعاء الميداني حيث سكتت الألسنة ونطقت الأسنّة ويوشك أن تخطب السيوف على منابر الرقاب، هنا جأر الجيش المؤمن بالدعاء وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت، يلوذ بربّ العالمين ويتذرّع بإيمانه مقابل كفر الغزاة، وشتّان بين الدعاء في ميدان المعركة وبين دعاء المسترخي على أريكته أو المجلجل فوق أعواد المنابر، هي نفس الكلمات لكنه ليس نفس العمق، وقد تعلمنا ذلك غضّا طريّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل غزوة بدر، وأوجه الشبه بينها وبين قصّة طالوت كثيرة.
5. النصر نصر الله: مضت سنة الله وتحقّق وعده، وانهزم الباطل وارتفعت راية الحق وقرّت أعين المؤمنين بنصر الله: " فهزموهم بإذن الله "... لا مجال لتضخيم الذات ولا الزهوّ بالغلبة، فالنصر من الله تعالى، على الصفّ المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة في غمرة التمكين:
- فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى – سورة الأنفال.
- وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم. – سورة آل عمران 126
- وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم – سورة الأنفال 10
- ألم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عنوةً، منتصرا فاتحا لكنه دخلها متواضعا متذلّلا بين يدي الله تعالى لا ينسب لنفسه فضلا؟ هذه هي حقيقة الأمر وهذا هو الأدب العالي مع الله سبحانه وتعالى.
6. بروز داود عليه السلام: تُختم القصّة ببروز جندي من عرض الجيش منّ الله عليه بقتل رأس الكفر والظلم " جالوت "، سيكون له شأن مع قومه، نبيّ وملك، يجمع بين الأيمان والقوة والعدل والتمكين العريض ، أهّله بلاؤه الحسن في المعركة لتولّي القيادة: " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه ممّا يشاء".