رِحلةٌ إلى وطني المدمر بعد عقود
رِحلةٌ إلى وطني المدمر بعد عقود
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
هي السفرة الوحيدة والتي أبكتني وأبكت من حولي وأضحكتني وأضحكت كل من رآني وتعرفت عليه وتعرف علي
في ذكرى عيد الجلاء السابع عشر من نيسان ذكرى جلاء الفرنسيين عن سوريا , وفي تلك الذكرى كان جلائي عن وطني , ودخل الفرنسيون سوريا مرة أخرى من اوسع الأبواب بعملاء لهم زرعوهم وحكموا سوريا , ونُصب بشار المجرم رئيساً معتمداً من فرنسا قبل أن يقبر الطاغية المجرم أبوه , ولم أستطع العودة لبلادي إلا في نفس الذكرى وبعد مرور 32 سنة أمضيتها في طَوفان دائم حول الوطن , أشْتمُّ نسائم وعطر الأحبة من الحدود , مرسلاً سلامي مع طيور ليس لها حدود ولا تعترف بالحدود, ولكن نحن البشر رسمنا سياسات بتنا فيها سجناء في تلك الزنازين المعتمة والمصطنعة
كما خرجت متسللا عبر الحدود التركية تسللت أيضاً عبر نفس الحدود ومن نفس المكان لأعود إليها , وهناك كانت تنتظرني من لو وزعت حنانها وصبرها وثورتها على الظلم لتعجبت الثرى لقدرتها على الصبر , هي أمي التي أنجبتني ووهبتني الحياة , هي كانت قد ضمتني إليها قبل اثنان وثلاثين سنة في نفس تاريخ اليوم لتضمني بعدها مرة أخرى وفي نفس التاريخ
في يوم واحد فقدت زوجها وابنتها الشهيدة غنية وابنها في غيابات السجن , وفي غيابات البعد ثلاثة من أبنائها , ضاع اثنان وبقيت أنا بعدها وهي تنتظر اللقاء
كانت تعيش في وسط مجتمع الذئاب كانت تقاوم الجميع , وصمدت في وجه الجميع , تتحداهم بتعبير وجهها تتحداهم بنظراتها بلذعة لسانها , شامخة رافعة رأسها لم تحنه إلا لله تعالى
لم تفقد الأمل يوماً , وهاهي الثورة من جديد كأنك تجد كل ذرة في جسدها قد ولدت مجاهداً ضد الظلم والجبروت والطغيان , جلست معها وهي جاوزت الثمانين , ولها كلمات وأقوال ضاحكة لم تفقد الأيام خفة دمها والمحن التي مرت عليها , كنا نجلس سوية نتناول طعام الافطار , وبدأت القذائف والصواريخ الغادرة تنهال على المنطقة ومن حولنا فقالت (لعنة الله عليكم ياسفلة لو تنتظروا حتى ننهي طعامنا وبعدها اضربوا )
يعتبرها الثوار هناك بأنها أماً للجميع وهي تراهم بنفس المكانة الراسخة في أعماق وجدانها الكل يمر عليها ويسلم عليها لتطبع قبلة على جبين كل ثائر
ابنها العاجز والذي خرج من السجن بعد أن دُمر جسده , يطلب منها بالدعاء والرجاء ويقول وفقك الله ياأمي اتركي لي رغيفاً من الخبر من الخمسة عشر رغيفاً التي نملكهم , ولكنها لم تفعل فأرسلت الكل لكتيبة من الثوار كانت تسكن بالقرب من بيتها
فقد جمعت بين أم الشهداء وأم الثوار وأم المفقودين وأم المعذبين وأم المعتقلين والمشردين
فهل من صفة أعم من أن توصف فيها تلك الأم ؟ إلا بأم الثورات كلها والتي انطلقت عبر التاريخ البشري لتحرير الانسان من العبودية والتسلط إلى الحرية والنقاء والعدل والوفاء ودحر الظلم في كل مكان , قبل انحراف الثورة عن أهدافها .
هي أمّي.... فيارب أطل عمرها وكحل عينيها بالنصر والتحرير وعودة من بقي من الأحبة لتدوس معهم بحذائها على قبر وعنق كل ظالم وحقير