أين نحن من ثقافة "الفعل و ردة الفعل"

الثقافة قيم إنسانية وأخلاقية،

فأين نحن من ثقافة "الفعل و ردة الفعل" ؟

رضا سالم الصامت

الثقافة  العربية تمثل مخزوناً تاريخياً هائلاً يتكون من قيم الشجاعة، والتواضع، والتسامح، والحرية ونقائضها، فالعبرة هي بطبيعة الظروف والقيادة السياسية التي تساعد على إبراز مجموعة معينة من القيم على حساب غيرها. فالمجتمع العربي تواصل تاريخياً مع الحضارة العربية الإسلامية، ثم أنقطع هذا التواصل أثناء المرحلة الاستعمارية، وفي دول مثل تونس ومصر والعراق والجزائر و ليبيا و سوريا  يوجد مقوم سابق لانتشار الإسلام، وتلك الخبرات المختلفة أفرزت عناصر متنافرة تعايشت معاً وبرزت في مراحل تاريخية معينة. وبصفة عامة، فإنه يمكن التعرف على أهم خصائص الثقافة  العربية  و منها دورها التنموي في تقدم المجتمع ككل  . فالثقافة تتسع إلى نشاطات متعددة من الفنون و المعارض و البحوث و غير ذلك فهي قريبة للمواطن الذي أصبح مستهلكا لها وأحيانا مساهما فيها ، يكفي أن تقرأ جريدة أو كتابا أو تشاهد التلفزيون أو مسرحية أو تحضر معرضا أو مهرجانا أو ترسم لوحة ... أو تتصفح موقعا الكترونيا

فالثقافة في المجتمعات المتقدمة أصبحت قوية و قد طالت كذلك المجتمعات التي هي في طريق النمو بالرغم أن الاثنين يستعملان نفس الأدوات تقريبا

الثقافة و المعرفة ليس مكانهما الجامعات و المعاهد و المدارس ، فحسب بل ينبغي أن تمتد إلى كافة نشاطات المجتمع ففي العالم المتحضر و المتقدم تتوزع العملية المعرفية و التعليمية و التربوية و المعلوماتية على المتاحف و المعارض و الإذاعات و قاعات السينما و الندوات الفكرية و المهرجانات و التظاهرات الثقافية إلى غير ذلك... و تجد في أي أثر تاريخي أو بيت مفكر أو شاعر أو أديب أو فنان أو ناشر أو إذاعي أو مسرح أو ناد ... فرص مناسبة لنشر المعرفة و من يتحول للسياحة ومثلما ذكرنا آنفا فان من يقرأ جريدة أو مجلة أو كتاب و من يرسم لوحة و من يستمع إلى إذاعة أو يتصفح موقعا ثقافيا علميا على الشبكة العنكبوتية فهنا يطلع على أشياء جديدة تهمه تثقفه تزيده معرفة ، فالثقافة إذن تفرض نفسها عليه أثناء تنقلاته و خلال جولاته سواء كان في متحف أو ناد أو مسرح أو مصنع أو شارع فالعين ترى و الأذن تسمع و العقل يستوعب و يميز فعلينا مسايرة هذا العصرعصر التكنولوجيا و المعلومات الرقمية و نساير هذا التقدم العلمي و الثقافي و ننفتح على الحضارات الجديدة و الثقافات المتعددة و الإطلاع على مختلف جوانب هذه الحياة دون تمييز أو تعصب بل بكل احترام للرأي الآخر و للثقافات الأخرى خاصة بعد التغيير الذي حصل في بلدان ربيع الثورات العربية فعلاقة المواطن العربي بالثقافة جديدة بالمقارنة مع علاقة المواطن الغربي بها ، حيث أنها كانت مقتصرة على طبقة مخصوصة يسمونها طبقة المثقفين

المستهلك للثقافة هو أيضا مساهما  فيها باعتباره مرتبط بمواضيع أو بمناسبات ذات صبغة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى دينية ، كما هي مرتبطة بجمعيات و منظمات تعمل على تأطير و استقطاب الشباب و الناشئة و تكوينهم و صقل مواهبهم لتفجير طاقاتهم الثقافية و إظهار إبداعاتهم ، زد على ذلك حرية التعبير عن الرأي التي اخذت منعرجا هاما في الثقافة ، لكن العولمة جعلت الثقافة مقيدة و سيطرت عليها الإنتاج الثقافي الغربي و الأمريكي و تسهم فيها وسائل الإعلام و الاتصال بقسط وافر مما دفع الكثير من الشعوب إلى الدفاع عن هويتها الثقافية للمحافظة على موروثها المادي و المعنوي كالمعالم العمرانية و الأثرية التاريخية و غير ذلك

و لكن إذا ما نظرنا إلى الزخم المعرفي والمعلوماتي الهائل، الذي تعيشه الإنسانية والتحديات التي تواجهنا جميعاً من جراء مشروع العولمة ، يحتمان علينا بلورة نظرية متكاملة للثقافة، حتى يتسنى لنا كأفراد ومؤسسات، من الاستفادة القصوى من هذا الزخم المعرفي الضخم 

ومن الطبيعي، أن بلورة نظرية الثقافة، لا تتأتى إلا بدعم وإسناد عملية الاجتهاد الفكري والثقافي، لما توفره هذه العملية من آفاق ثقافية جديدة، ونظرات فكرية تجمع البعد التاريخي التأصيلي، وبعد العصر وتطوراته المتسارعة 

فمواجهة تحديات العولمة، على المستوى الثقافي، لا تتم إلا بإنهاض الحياة الثقافة العربية، ووصلها بالأفكار الإنسانية العليا، التي تثري الزاد المعرفي لدى الأشخاصفعصر العولمة لا يمكن أن يواجه ثقافيا إلا بالمزيد من النقد والحوار، و تبادل الآراء والتوجه إلى القضايا الإستراتيجية، و إطلاق حرية الإبداع وأفكار المساءلة والابتعاد عن كل ما يمنع حيوية وحرية العمل الثقافي العربي، مما يزيدها زخما وحيوية

إذن فانه لا يمكن أن نواجه تحديات العولمة، إلا بحضور الوعي الحضاري وتكثيف آلياته في حياتنا، حتى تتأسس الشروط اللازمة للانطلاق في رحاب الوعي وآفاقه بعيدا عن أطر التقليد الضيقة أو خيارات التبعية المذلة ، ذلك الوعي الذي ينهي كل مفردات التقليد الأعمى، من حياة الإنسان فتصبح ذاته ذاتا عارفة متحركة باستمرار نحو الآفاق المعرفية المرجوة 

 إن المجال الثقافي فسيح وفسيح جدا ، هناك آفاق لمزيد تطويره أمام شرائح أو أقليات كانت مهمشة في السابق ابان حكم الطغاة و جبروتهم و بعد التحرير ان صح التعبير تغيرت الأوضاع و بالتالي تحررت الأفكار لدى مجتمعنا العربي ، مما اقتضى الأمر إلى إعادتهم إلى جذورهم الثقافية. و تم فسح لهم المجال للتنوع و خاصة في المجتمعات المتعددة الأعراق

هذه التحولات تحمل في الواقع عدة تناقضات و نقائص ألزمت العديد من البلدان بإعادة صياغة سياساتها الثقافية و مراجعة دورها في ظل العولمة التي فرضت عليها . لآن الثقافة فيها قيم انسانية و اخلاقية و سياسية هي في حد ذاتها مشروع مجتمعي له خصائصه - الآن و بعد ثورات الربيع العربي صرنا نسمع الكثير و نرى عبر الفضائيات ثقافة الأنشطة  التي يقوم بها أفراد المجتمع بهدف التأثير في العملية السياسية، ومن مظاهر تلك  الأنشطة حضور المؤتمرات والندوات، مطالعة الصحف وبيانات الأحزاب وبرامجها، والاتصال بالجهات الرسمية، والانخراط في المؤسسات الوسيطة مثل الأحزاب والنقابات، والترشيح للمناصب العامة، وتقلد المناصب السياسية و المشاركة في التظاهر، والاعتصام، وأعمال الشغب عندما يشعر أن الوسائل القانونية غير متوفرة  فترفع الأصوات مطالبة و تحرق المؤسسات و يكثر العنف اللفظي و الجسدي  الخ  و هذه ظاهرة ثقافية سلبية  يجب الحد منها ان لم نقل مكافحتها و على ضوء ذلك يريد البعض أن يفرض رأيه بالقوة بتعلة حرية التعبير و ثقافة التغيير. فهل هذه ثقافة " الفعل و ردة  الفعل" أم ماذا؟ كيف يمكن ان نستجيب لهذه الظاهرة الغريبة عن مجتمعنا العربي الاسلامي - فثقافة العنف سواء كان لفظيا او جسديا لا يليق و لا يستجيب لعدة معايير اخلاقية و انسانية  و لا ينسجم مع حجم المشكل .  بما تفسر  اعتداءات على الأطباء و المحامين والقضاة و المعلمين و الاداريين ؟ هل تحل المشكلة  بسلوك كهذا ؟ صحيح ان هناك حرية مطلقة في التفكير و السلوك لكن ليس بالعنف ، السلوك العدواني لا ينشأ تلقائيا و انما ينشأ بتحريك او تحرض  او يد تحركه  و هذه ليست ثقافة  تنبع من عادات و قيم  يتميز بها افراد يعيشون في مجتمع اسلامي.