وداعا يا أم يوسف!!
وداعا يا أم يوسف!!
فراس حج محمد /فلسطين
هي امرأة ككثيرات في فلسطين، ممن يعانين من فراق فلذات الأكباد، وقد غيبت المعتقلات الأحبة خلف القضبان، حكاية أم يوسف ليست لها وحدها، وهي ليست بطلتها الوحيدة، بل كل نساء فلسطين مرشحات لمثل ما كانت عليه!!
أم يوسف امرأة قروية بسيطة، تغازل أحلامها المتواضعة في العيش مع أسرتها، ليست معنية بالثراء ولا بالجاه، معنية فقط أن يتحلق أبناؤها حولها عند المساء، ليتسامروا ساعة من ليل، لتضمهم ساعات أطول في ليل هادئ يحلمون فيها بأحلام لا تتجاوز كيفية تدبير قوت الغد، وكيف سيسيرون نحو أعمالهم، لتعد أم يوسف لهم "زوادة الطعام البلدي"، فليس بوسعهم أن يشتروا فطروهم حيث هم يعملون.
تسير أيامها على هذا المنوال، حتى يأتي ذلك اليوم، ليصبح ابنها أسيرا بتهمة باطلة باعتراف كاذب أو وشاية مجنونة، فقد حاول ابنها أن يقطع بعض أشجار المستوطنة، وأن يتلف آلة تصوير، وأن يحرق بعض أعمدة الكهرباء، ولم يكن يدري ذلك المجرم الذي اغتال حلمها وحلم ابنها، أن ابنها يقضي نهاره كله من "طلعة الشمس حتى مغيبها" في أعمال البناء، لا يرى أحدا، ولا يخرج حتى في الزيارات العائلية إلا ما ندر، تأتي الوشاية، فيكون الاعتقال، وتبدأ المعاناة، لتنضم أم يوسف لركب الباحثين عن مواعيد الزيارات، واستصدار التصاريح اللازمة، وانتظار المحاكمات الجائرة!!
لم تنتظر أم يوسف طويلا، ولم تزر ابنها كثيرا، ولم تستصدر مزيدا من التصاريح، هي مرة أو مرتين، وترتاح من كل هذا العناء المرّ! فقد كان القدر أرحم بها من كل تلك الطقوس التي تعذبها وتشقيها هي وزوجها وأبناءها!!
تلبي أم يوسف نداء ربها في صبيحة يوم زيارة ابنها، لقد استعدت ليلا لتلك الزيارة، تنام مبكرا، تداعبها أحلام رؤية ذلك الشاب الأسمر المبتلى والمغلوب على أمره، "يا ترى كيف هو؟ هل يأكل جيدا؟ هل ينام جيدا؟ كيف أصبح الآن هل ما زال يطلق نكاته وتعليقاته الساخرة؟ لعله الآن يسخر ممن احتجزه". أفكار تداعت لأم يوسف وهي تأمل أن ترى ابنها وقرة عينها.
يستعدون صباحا للزيارة، يطمئن الأب أن كل شيء جاهز، وما عليه إلا أن ينبه زوجته، ليكونوا هناك حيث المعتقل المتربص بأحلامهم، ينبهها مرة واثنتين، ثلاثاً، لا مجيب، يحاول أن يعرف ما بها، يكتشف أن زوجته بلا نبض وبلا حياة، لا يستطيع السيطرة على نفسه، يصرخ بأعلى صوته يبكي، ينادي، يترك نفسه لتقول: " ابننا في انتظارك ليراك، قومي يا أم يوسف، لا تخيبي رجاء من يتشوق لرؤيتك".
لا أحد يجيبه غير الصدى، يتجمع الأهل والأقارب، ويجهزون أم يوسف إلى مثواها الأخير، ولكنهم جميعا ربما لا يعرفون أن روحها قد رفرفت ملاكا طاهرا لتعانق ابنها قبل موعد الزيارة. وتودعه قبل الجميع وتستأذنه قبل الرحيل الأخير، فوداعا يا أم يوسف، وسلام عليك حين أنجبتِ وربيْتِ، وصنعتِ الرجالَ، وودعت الجميع وأنتِ الأمّ، أمّا لكل أسير يقبع في سجون الظالمين.