فنارات مضيئة في بحار القصّاب

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

حينما نتتبع مسارات سفينة (الربان) المهندس الأستاذ عدنان القصّاب, ونتعرف على مراسيها المينائية المتعددة, نقف إجلالاً واحتراماً لهذا المهندس اللامع, الذي ركب البحر في العقد الثالث من عمره ليقود أسطول الموانئ العراقية نحو مرافئ الإبداع والتألق في مسيرة التطوير والبناء والأعمار, لكننا نشعر بالألم والأسى عندما نعلم إن زوابع الرياح الكيدية جرفت سفينته نحو المرافئ البعيدة, فجنحت فوق صخور التهميش والإقصاء, على الرغم من كل الفنارات المضيئة, التي شيدها وأنارها هذا الربان الشهم بعبقريته ونزاهته وتفانيه في أداء المهمات المنوطة به على الوجه الأكمل. . .

فالعبقرية والنبوغ والذكاء والإخلاص والمشاعر الوطنية الصادقة تعد في العراق من الخصال المرفوضة, التي تؤلب الأعداء, وتجلب لحاملها الهم والغم والحرمان, وربما ينتهي به المطاف منفيا مستبعداً في محطات الغربة والاغتراب بعيداً عن أهله ووطنه. .

بيد أن هذا الرجل الأصيل لم ييأس, ولم يقنط, فوقف في (طريبيل) ساخراً من وقاحة الدهر وتقلباته المزعجة ليمارس الأعمال الحرة الشريفة بروح لا تعرف الخنوع ولا الخضوع ولا التملق, فاختار مهنة الصيرفة في منطقة حدودية نائية, وظل يمارسها حتى عام 2002, فضرب في عزلته أروع الأمثلة لرجل متواضع, تحرر من بهرجة المناصب العليا, التي شغلها مديراً عاماً للموانئ العراقية, ثم مديراً عاماً لشركة النفط الوطنية, فمديراً عاما لشركة المقاولات الإنشائية, فنقيبا للمهندسين العراقيين, فرئيساً لاتحاد المهندسين العرب, فأميناً عاماً لاتحاد المقاولين العرب.

من هو عدنان القصّاب

هو رئيس المهندسين عدنان بن علي بن حسين بن عبد العزيز القصّاب من أسرة هاشمية قرشية صحيحة النسب, واسمه المثبت في بطاقته الشخصية (عدنان السيد علي), ولد في محلة سوق حمادة بمنطقة الكرخ ببغداد عام 1936.

أكمل دراسته الابتدائية في مدرسة الكرخ الابتدائية عام 1946, وأكمل المتوسطة عام 1949, وأكمل الثانوية عام 1951, ثم حصل عام 1957 على شهادة الدبلوم من معهد الهندسة الصناعي العالي, ونال فيه شهادة تقديرية سلمها له المغفور له الملك فيصل الثاني بنفسه تقديراً لتفوقه على أقرانه, وحصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة من جامعة بغداد. .

تزوج عام 1961 من الصيدلانية مآرب أحمد كمال العزاوي. كان والده معلماً في مدينة العمارة (ميسان), لكنه ترك التدريس وعاد إلى بغداد ليزاول تجارة التبغ, ثم عاد ثانية إلى التدريس في بغداد. .

والدته السيدة فاطمة بنت الشيخ عباس حلمي القصّاب. كان خاله عبد الله القصّاب وزيراً للداخلية في العهد الملكي, وكان عم والدته (عبد العزيز القصّاب) رئيساً لمجلس النواب عام 1945 ثم صار وزيراً في وزارات متعددة, وكان زوج خالته (عبد المجيد القصّاب) وزيراً للمعارف, ثم صار وزيراً للصحة. .

تميز منذ طفولته بالحكمة والشجاعة, كان في شبابه نحيفاً شامخاً عنيداً صامداً, لا يعرف المجاملة, يكره المهادنة, يمقت التزلف والتملق, حاسماً في قراراته, عرفه الناس بصدقه وأمانته وصراحته, كانت قوة شخصيته القيادية كفيلة باستفزاز أصحاب النفوس المريضة, الذين مارسوا ضده أبشع أساليب الضغط والتنكيل, فحاربوه وعزلوه وتحالفوا ضده من دون أن يسيء إليهم, فباءت محاولاتهم بالفشل الذريع, لأنهم شعروا بالخيبة حينما وجدوه شامخاً صامداً مرفوع الرأس كعادته في مواجهة القرود البشرية. .

ربما يطول بنا المقام في سرد مآثره ومواقفه الوطنية الخالصة, لكننا سنقتصر الحديث عن محطاته البحرية, وانجازاته المينائية, ونجاحاته الملاحية, وقدراته الفائقة في التعامل المرن مع خطوط الشحن البحري. .

الربان المهندس, والمهندس الانسان

باشر عمله البحري في مدينة البصرة في اليوم الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1968, خلفاً للسيد عبد المجيد سعيد, فوجد نفسه في مواجهة تحديات كبرى, وتركة ثقيلة, وأعباء جسيمة, ومهمة صعبة في مؤسسة كبيرة استحوذ فيها مديرها العام الأسبق (مزهر الشاوي) على قلوب الناس ومشاعرهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم, ونال شعبية واسعة, وحقق من الانجازات ما لم يحققه غيره حتى يومنا هذا, وليس من السهل ملء الفراغ, الذي خلفه ذلك الفارس العملاق. .

ثم وجد عدنان القصّاب نفسه في مواجهة موجة أخرى من العقبات والمنغصات, إذ لم تكن تربطه أي علاقة ودية مع محافظ البصرة, ولا مع قائد القوة البحرية (عبدو الديري), فلم يكن أمامه أي خيار سوى الارتكاز على قدرات الطبقة العمالية والاهتمام بها ورعايتها, فباشر على الفور بتنفيذ سلسلة من مشاريع الإسكان, فشيد الدور الحديثة للعمال والموظفين في المعقل والفاو وأم قصر والواصلية, ثم باشر بتعبيد الطريق الرئيس المؤدي إلى ميناء أم قصر, وأنشأ المنطقة الحرة, وأمر ببناء مستشفى أم قصر, وقاعة للسينما والمسرح, وحوض للسباحة, ومطعم للعمال, وساحة للتنس الأرضي. .

ثم قام بتشييد (50) داراً لكبار الموظفين في أم قصر, وبناء معمل الأنابيب الحلزونية, وتوسيع مخازن وسقائف الموانئ وأرصفتها, وتجهيزها بالرافعات الثابتة والمتحركة ومعدات المناولة الحديثة, وتخصيص رصيف لتصدير خامات الكبريت, ورصيف آخر للحاويات (الأوعية النمطية), وأمر بتطويق مدينة أم قصر بحزام نباتي أخضر لمقاومة ظاهرة لتصحر, وتلطيف أجواء المدينة المينائية المحاصرة بين سخونة البر ورطوبة البحر. .

انصرف بعدها نحو تنفيذ مشروع حفر نهر (شط البصرة) ببواباته الملاحية, وفتحاته التصريفية, وقناطره المتحركة, فنجح بربط نهر (كرمة علي) بخور الزبير عبر قناة مائية مستقيمة, صممت لتخفيف الضغط على الأهوار والتغلب على مشكلة الفيضانات الموسمية, ووفرت للعراق قناة بديلة لشط العرب تطل مباشرة على الخليج العربي. .

كان عدنان القصّاب أول من فكر بنقل الخبرات المينائية العراقية إلى موانئ حوض الخليج العربي والبحر الأحمر, فأرسل سفينة الحفر (الحلة), وسفينة الحفر (الموصل), وسفينة الحفر (السليمانية) للعمل في تعميق الموانئ اليمنية (عدن والحديدة), وتهذيب أعماقها, وتنظيف مياهها من المخلفات الحربية الجاثمة في قيعانها ومقترباتها الملاحية منذ الحرب العالمية الأولى. .

انجازاته الملاحية ومشاريعه البحرية

لم يترك عدنان القصّاب عقبة ولا معضلة في المسطحات البحرية العراقية الواسعة إلا وانبرى لها وانتصر عليها, وكان أول من فكر برفع الحوافز المالية للعاملين في عرض البحر, وأول من سعى لتحسين الأوضاع المعيشية للعاملين على سفن المسح البحري, وسفن الحفر, وأولى اهتماما  خاصا بالمرشدين البحريين وربابنة المرافئ, وفتح أبواب التوظيف للشباب, وسمح لأبناء الأسر الفقيرة بالاشتراك في دورات التأهيل البحري العالي في روسيا وألمانيا وبريطانيا, تمهيداً لتهيئتهم للانخراط في الأعمال المينائية الميدانية, وكان أول من دشن سفينة الحفر العملاقة (الحلة), والرافعة البحرية (المقداد), وسفينة المسح البحري (الفاو), وتعاقد مع شركة (IHC) الهولندية لبناء مجموعة من الحفارت المائية من النوع القاطعة الماصة المخصصة للمشاريع النهرية, وكانت تحمل أسماء (صلاح الدين), و(المثنى), و(سنحاريب), و(الفلوجة), و(القرنة), و(دهوك), وافتتح دورة تأهيلية جديدة لقبول (30) مرشداً بحريا, وشيد معملاً جديداً في الفاو لإنتاج غاز الاستلين, ولتجهيز الفنارات والعلامات والعوامات الملاحية بالغاز اللازم لتنويرها ليلاً في الرقعة الممتدة من القرنة وحتى نهاية خور الخفقة في الربع الشمالي للخليج العربي.

كان عدنان القصاب أول من فكر ببناء أسطول بحري متخصص بصيد الأسماك, فأرسل السفينة (زبيدي) لتجربتها ميدانياً في عرض البحر في مهمة خاصة للبحث عن مكامن الثروات السمكية غير المستغلة, فكانت رحلتها البحثية الناجحة هي الحافز القوي لولادة الشركة الوطنية لصيد الأسماك, فتكاثرت سفنها بعد مبادرة عدنان القصّاب, وانتشرت في البحار والمحيطات, وشهدت لها السواحل الموريتانية ومياه المحيط الأطلسي والهندي وشواطئ جزر الكناري ونهر جوبا وسواحل مقديشو, وضم أسطولها السفن التالية: (نكرور), و(صبور), و(الغراف), (العظيم), و(دجلة), و(الفرات), و(ديالى), و(روبيان), و(شط البصرة), و(شانك), و(هامور), و(شط العرب), و(نويبي), و(الرزازة), و(ساوة), و(النهروان), و(الكحلاء), و(شبوط), و(قطان), و(زين القوس), و(الساحل العربي), و(البحر العربي). .

مشاريعه الاجتماعية والرياضية

انصبت اهتمامات عدنان القصاب في البحث عن متنفس ترفيهي لعوائل منتسبي الموانئ العراقية, فتعاقد مع الشركات الايطالية لتجهيز مدينة ألعاب المعقل, التي قرر تشييدها فوق مروج حدائق الأندلس, ولم تمض بضعة أشهر حتى أكتمل المشروع الترفيهي, وفتح أبوابه لاستقبال عامة الناس في ربيع عام 1971. .

ثم فكر في استثمار جزيرة (السندباد) وتحويلها إلى محمية نباتية طبيعية مزدانة بالأشجار والأزهار والمقاعد, وأنشأ فيها كازينو عائلية كانت وقتذاك من أكبر الكازينوهات في عموم المدن العراقية, وشيد فيها شاليهات جميلة مؤثثة للعرسان الجدد بأسعار رمزية. .

حققت الأنشطة الرياضية في زمنه سلسلة من الأرقام والنجاحات الفرقية في ملاعب كرة القدم والطائرة والسلة, وألعاب الساحة والميدان, وألعاب القوة. .

نهاية غير متوقعة

لم يكن من السهل في العراق أن يُسمح لهذا الرجل النبيل بإكمال خطواته الإصلاحية الصحيحة, ولم يكن من المتيسر في العراق أن يمضي عدنان القصّاب في تنفيذ مشاريعه المينائية الناجحة من دون أن يطارده شبح المنغصات, ومن دون أن تحاصره ضباع الحسد, ومن دون أن تنصب شراكها له لتوقع به, وتخرجه من مساره الإبداعي, ثم تنفيه خارج السرب, فالانتهازيون والوصوليون والغادرون والحاقدون كانوا من ألد أعداء هذا الفارس المغوار, فشنوا عليه أعنف غاراتهم الكيدية في أوج تألقه الإبداعي في الوسط المينائي. .

لم يكن قائد القوة البحرية (عبدو الديري) بمستواه الفكري ولا الإداري ولا العلمي, ولم يكن بمستواه السياسي, لكنه كان يحمل في قلبه بعض الضغائن المهنية لعدنان القصّاب, ولم يكن عدنان يعبأ به, فالديري يعمل ضمن تشكيلات وزارة الدفاع, بينما يعمل عدنان في أوسع وأشهر وأكبر وأقدم تشكيلات وزارة النقل والمواصلات, في شركة مينائية تمتلك من المقومات التشغيلية والموقعية ما يجعلها أعلى رتبة وأوسع مسؤولية من بعض الوزارات الروتينية. .

كان (عبدو) يتربص شراً بعدنان, ويتابع قفزاته النوعية الهائلة في المضمار البحري, ويراقب سطوع نجمه بعين الحاسد الحاقد. لم يكن يتحمل تألقه ونجاحه المرموق, فاستغل الخلاف البسيط, الذي نشب بينه وبين عدنان على خلفية وعد قطعه له عدنان بتخصيص أحد أرصفة الموانئ لإيواء السفن الحربية الصغيرة التابعة للقوة البحرية, فاتهمه عبدو بالمماطلة, ولجأ بعدها إلى بغداد, ليشن هجومه هناك على عدنان, فصدرت القرارات الارتجالية غير المسبوقة بوأد تجربة المهندس الوطني المبدع, فقطعوا صلته بالموانئ, ونقلوه للعمل في شركة النفط الوطنية بدرجة مدير عام, بينما حصل الضابط المدلل على الرعاية والتكريم, وأمروا بترقيته إلى درجة سفير للعراق في العواصم الأوربية, رغم انه لا يحمل الجنسية العراقية, ولا ينتمي للعراق وأهله, وهذا ما أثبتته المواقف المتذبذبة لعبدو في السنوات اللاحقة. .

والحقيقة ان هذه القرارات التنكيلية الجائرة ليست غريبة على العراق, الذي كان معتاداً على احتضان الغرباء وتغريب الأوفياء, وهكذا خسرت الموانئ العراقية فارساً ومهندسا من خيرة المهندسين والقادة في السابع والعشرين من تموز (يوليو) من عام 1971, ففقدته البصرة كلها وهو في بداية مشواره الوطني الإبداعي نحو الارتقاء بمستوى موانئها إلى مصاف البلدان المتقدمة. .

لم يكن عدنان القصّاب أول ولا آخر عراقي جنت عليه وطنيته في عالم المزايدات السياسية, فقد جنت على كثير من العراقيين قديما وحديثاً وحتى يومنا هذا, وجنت قبله على فارس الوفاء والإخلاص الشاعر عبد الله بن عمر بن عمرو العرجي,  وهو القائل:

أضاعُوني وأيَّ فتىً أضاعوا ليوم كريهةٍ وسدادِ ثَغرِ

وخلوني لمعترك المنايا وقد شرعت أسنتها بنحري

كان المهندس المبدع (أبو رزان) أطال الله في عمره ربانا ماهراً قاد أسطول الموانئ العراقية في أحلك الظروف, ونهض بواقعها العمالي نحو الأفضل, وصار فنارا مشرقاُ فوق أرصفتها وسواحلها, فترك بصماته القوية في ذاكرة البصرة حتى يومنا هذا. .