شيء عن المورثات وأثرها
شيء عن المورثات وأثرها
عقاب يحيى
هل نملك الحرية في اختيار أسمائنا، أو الدين والمذهب الذي " ننتمي" إليه، أم أن للبيئة والوراثة، والآخر الدور الحاسم في ذلك ؟؟...
يختار الأهل اسمنا.. قد نحبه أو نكرهه، وقد يكون مناسباً .. وقد يكون مناقضاً تماماً بالشكل والمضمون.. وقد يؤثر فينا عبر الأقلمة والتفصيص.. لكنه يرافقنا العمر.. عدا قلة تحاول التمرد فتختار أسماء لها تراها التعبير الأدق.. ك" المتنبي" الذي غلبت الصفة عليه، و" بدوي الجبل" أحمد سليمان الأحمد"، و"أدونيس" علي أحمد سعيد الذي انتصر "متحوله على الثابت".. وقلة تكاد تقتصر على النخبة وبعض المتمردين..
ـ قد يغيّر البعض دينهم ومذهبهم.. وقد يتمردون على ذلك كلية.. لكن القاعدة العامة، خاصة لدى الفئات الشعبية الواسعة، هي إدمان المعهود، ووراثة وتوريث القائم الذي اعتادوا عليه .
مع صرخة الولادة الأولى يحضر الاسم والتصنيف الديني والمذهبي.. ويأتي تأثير الأهل والبيئة في كتابة أولى الصفحات، ونقش السائد في ذاكرة الوعي.. والذي غالباً ما يكون متوارثاً، خلائطياً، تعبوياً، لنصبح أسرى له، حتى بعد الوعي، وحتى لو أعلنا خيارات أخرى، وحتى لو تمرد البعض مراهقة سياسية، أو رفضاً واعياً للقائم، وبحثاً عن البديل ..لأن في قاع الظاهر، وقاع القاع كثير من تلك النشأة والمؤثرات .
ـ السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، وقد صارت قصة الدين والمذهب حديث الراهن، وبعبع القادم، وميزان القياس عند بعض الفئات، ترى هل نحن أحرار فيما نختار؟، وهل نحن بقدرة تجاوز السلبي تماماً مما دخل الذاكرة والحقل المعرفي والبيئي..والمجتمعي الصغير، وسواه؟، أم نكون سجناءه بطريقة ما.. خاصة عند الامتحانات الكبرى والمنعطفات المهمة؟.. ولدى النخبة بالتحديد ؟؟؟؟.....
ـ قد نعي ـ لاحقاً ـ حدود السلبي فيما ورثناه وتلقنّاه وتفاعلنا به، وقد ندرك ضرورة تجاوزه، بل تحطيمه كي نلتقي في المشتركات العامة مع الآخر : شريكنا في الوطن، وربما الأكثر.. لكن : إلى أي مدى يمكن للعامل الذاتي ـ الجهد الخاص ـ أن ينجح في عملية التخطي والتجاوز؟، وما هو منسوب ذلك على العموم ؟..
ـ الكثير تجري قولبتهم بثقافة البيئة التي نشأوا فيها. والكثير يصبح متأثراً بعواملها حتى بعد مرحلة النضج، وبعد مرحلة اختيار ما يُعتبر بديلاً، أو مناقضاً، أو متعايشاً..
ـ هنا يجب رؤية العاملين : الموضوعي والذاتي في عملية التغيير والتجاوز، وعدم قصرها على الإرادة الواعية للشخص بعيداً عن المرحلة وسماتها وثقل مؤثراتها.
ـ لنقل أن مرحلة النهوض أضعفت ذلك الخبيء البيئي، الماضوي، الاسترجاعي، وفتحت الطريق لنماء بديل مختلف يرتقي إلى فضاءات عامة أخرى مفتوحة تتعدى ذلك البيئي، لكن مراحل الفشل والهزائم . مراحل النكوص والارتداد . مراحل التجويف والفوات . مراحل الاستبداد والفئوية المخططة . مراحل الصراع الذي تبرز فيه تلك العوامل وكأنها الرئيس.. يطغى العام بتأثيره فيناطح الخاص... يبرز ما في جوف الخاص في عملية اصطراعية تؤدي بالكثير إلى القلقلة والبلبلة والتردد والزوغان والتبرير.. وربما الانصياع، فالانزلاق فالتكييف مع الذي كان وإن بلبوس عصري، وبشعارات أخرى مجوفة ومنخورة ..
ـ اليساريون، والقوميون والعلمانيون.. الذين حلموا بوطن متقدم يتجاوز أطر المألوف من التخلف، وصراع الأديان والمذاهب.. وأبحروا بقوة، وبعيداً في سماوات البديل.. اصطدموا بذواتهم أولاً، وبتراكب الذات مع العام، فترنّح معظمهم.. وحين فتح الطاغية الأكبر أشداق الطائفية بشكل شبه مشرعن.. ترجرج كثير.. وزاغ بصر أفكارهم وشعاراتهم ..فزواجوا بين الذي كان وكان في توليفة مشبعة بالتناقض واختلاط التخوم .
ـ وحين تكرّست الفئوية تحفر عميقاً خنادقها في المجتمع، وتلفّ حولها الأنصار والمؤيدين ـ من مختلف الفئات والطوائف ـ برز المألوف القديم اقوى من كل زخم البدائل، وانخرط كثير في موج المصالح والمنافع والانتهازية والتدجين والتكييف.. فاختلط حابل الحديث بالقديم ضمن توليفة أشبه بحقول الألغام ، واستبدل الكثير محتوى الصراعات بأخرى، أو خلطوها بطريقة غرائبية ليعيشوا نوعاً من فصام مكشوف . وهناك من استفاد كثيراً من ذلك الوضع فنفخ أوداجه بخطاب ملفق، تبريري، غشاش .
ـ وحين تفجّر الزلزال السوري ثورة من طراز خاص ارتجّ كل شيء.. تداخلت الحدود عند البعض فامتشقوا الأسهل. والأسهل عودة إلى ذلك القابع في الذاكرة القديمة من خوف من آخر، ومن عداوة توريثية غير مفهومة، ومن قابلية كبيرة على الاحتراب والتمييز بين ابناء المجتمع على تلك الأسس.. رغم التمسك برايات الحداثة، أو الدين المنفتح، الوسطي عند قسم آخر مقابل . وهناك من انخرط مع الطغمة جندياً في معركتها، وهناك من يرتجف خوفاً فيملأ النفس بتصورات يبالغ فيها حتى التجسيم.. بينما كان مصلحة فئات متعددة أن تغلّب الصراع الديني والمذهبي وترفعه انطلاقاً من أن أكثر المتضررين، واكثر من يقع عليهم فعل الإبادة والتدمير هم من الأغلبية السنية، بينما مناطق معظم "الأقليات" هادئة، ولم تعرف ذلك الجحيم.. الكارثي..عدا مناطق محدودة، كوضع سلمية الخاص .
ـ اهتزّت " المكونات" على وقع الثورة.. فهرب كثير إلى التنظير، وقبع كثير في أنفاق المعهود، وتجند كثير في كهوف الماضوية.. وحمل كثير سلاح الاقتتال تحت ادعاء الحفاظ على الحياة وحماية الأرواح من قاتل قادم على الهوية، خاصة وأن بعض السيوف الصدئة التي برزت ومارست شيئا من عشقها الدموي لفقهها الملفق صبّت الزيت على نار الارتباك والازدواجية.. فتغلبت البيئة، وانتصر عند العديد ذلك القابع في أعماقهم.. الذي كثيراً ما برز لديهم متوحشاً، ومسيطراً في المواقف الحاسمة .
ـ بين التمرد الذي يتخذ أشكالا غالبا ما تتسم بردود فعل قشرية، وبين وعي أهمية الانتماء لوطن متنوع الإثنيات والأديان والمذاهب، على قاعدة الحريات الديمقراطية، وحقوق الجميع بالعبادة والاعتقاد والرأي.. وغيره، ووحدة الوطن الجغرافية والسياسية والمجتمعية، تكمن واحدة من إشكالات المجتمع السوري على العموم، وبنية المكونات الدينية والمذهبية والإثنية، أيضاً،على وجه الخصوص ـ وعلينا أن نفهم أثر المكونات بالبشر كي نعرف كيف نتعامل معهم، وكيف نبني سياساتنا وخطابنا، وكيف ننجح في اختراق الشاذ وصولاً للعام المشترك الذي يحمي الوحدة الوطنية ويصونها فعلياً لا تلفيقاً، ولا شعارياً .