ستون عاما من العمل الفكري لدولة الخلافة!!
حزب التحرير:
"دولة واحدة تعم دول العالم الإسلامي"
هذا الذي ما زال الحزب يطمح له
فراس حج محمد /فلسطين
في المقال التحليلي الذي نشرته صحيفة العرب العالمية/ لندن، بتاريخ 27/3/2013 والذي تم فيه مناقشة بعض أراء حزب التحرير ونظرته إلى الديمقراطية واختلافه أو اتفاقه مع بعض الاتجاهات السياسية لبعض حركات الإسلام السياسي وخاصة القاعدة، أود أن أبين بعض الجوانب في فكر هذا الحزب الذي لم يلتفت إليه إلا نادرا في الدراسات والمقالات، وخاصة العربية منها.
بدا للحزب نشاط سياسي ملحوظ مؤخرا، تجلى في معارضته لنهج السلطة الفلسطينية في تعاطيها مع الأحداث، وبرزت معارضته بشكل لافت مؤخرا في تصديه لزيارة الرئيس الأمريكي بارك أوباما الأخيرة للأراضي الفلسطينية و"إسرائيل"، فقد نفذ الحزب العديد من الوقفات الحاشدة ضد هذه الزيارة في العديد من المدن الرئيسية في الضفة الغربية (رام الله، وطولكرم، وبيت لحم، وفي القدس في المسجد الأقصى المبارك)، وقد تعرض أتباعه لعمليات من الاعتقال السياسي نتيجة ذلك، وقد أصدر الحزب العديد من المنشورات ووزعها "كفاحيا" مما زاد من حنق الأجهزة الأمنية عليه بعد أن وصفها بأوصاف الخيانة وحراسة أمن إسرائيل وتجويع الناس، محذرا قيادتها من التمادي في التصدي للحزب ودعوته للإسلام كما جاء في بيانه الأخير بتاريخ: 26/3/2013
يعرف حزب التحرير نفسه بأنه "حزب سياسي، مبدأه الإسلام، وغايته استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة إسلامية تنفذ نظم الإسلام وتحمل دعوته إلى العالم"، وقد غلب على الحزب ودعوته الاشتغال بالسياسة الدولية والإقليمية، ولعله ينظر إلى كل القضايا السياسية التي تحصل في العالم ذات أبعاد واحدة؛ استعمارية في الدرجة الأولى تخدم أهداف الدول الكبرى المهيمنة، وقد أصدر الحزب في هذا المجال كتبا متعددة منها: "نظرات سياسية لحزب التحرير"، و"مفاهيم سياسية لحزب التحرير".
ويعد هذان الكتابان جماع فكر حزب التحرير السياسي فيما يخص نظرته لصراع القوى في العالم ومناطق النفوذ، وقد عرّف الحزب السياسة في كتاب "مفاهيم سياسية" السابق الإشارة إليه، بقوله: "السياسة هي رعاية شؤون الأمة داخليا وخارجيا"، ومن ثَمّ يسهب في شرح هذا المفهوم ومرامي هذا التعريف من كل جوانبه.
وبالإضافة إلى هذين الكتابين فإن الحزب قد أصدر مجموعة من الكتيبات التي تعالج مسائل سياسية كبرى حدثت في العالم الإسلامي، وأذكر منها على سبيل المثال الكتيب الذي أصدره حزب التحرير في 26/7/2002 بعنوان "الكفار الغربيون: أمريكا وبريطانيا والدول الأوروبية يعملون على فصل جنوب السودان عن شماله وإقامة دولة ذات صبغة نصرانية"، وكان الحزب قبل ذلك قد أصدر كتيبا في 8/5/2001 بعنوان "معالم السياسة الأمريكية برئاسة بوش في فلسطين والخليج وآثارها المدمرة على الأمة الإسلامية"، هذا، عدا النشرات والتحليلات السياسية التي أصدرها تعليقا على كثير من الأحداث المتلاحقة في العالم والعالم الإسلامي.
ويلاحظ كل من يقرأ في أدبيات حزب التحرير أنه يعتمد في فكره اللغوي على طائفة من المصطلحات والثيمات الفكرية والسياسية الخاصة به، إلى درجة أنك تعرف "التحريري" من طريقة كلامه وآرائه ومصطلحاته التي يبني عليها كلامه، فتجد مثلا تعبيرات من مثل مقارعة الحكام، والصراع الفكري والكفاح السياسي، والخلافة الراشدة، والوحدة الإسلامية والأمة الإسلامية، وكذلك فإن له مجهودات فكرية بحتة لتعريفات فكرية من مثل العقل والنهضة والناحية الروحية والغرائز والحاجات العضوية والمبدأ والنظام والفكرة الكلية وغيرها الكثير.
وقد رسخ الحزب نفسه حزبا سياسيا عاملا في العالم أجمع؛ إذ إن له وجودا في أكثر من أربعين دولة، وقد خطا الحزب خطوات ذات أثر بين لتكريس نفسه كأحد الأحزاب التي لم تستطع دوائر البحث الغربية والأمريكية أن تتجاهله، أو تتجاهل دعوته لإقامة إمبراطورية كبرى تضم دول العالم الإسلامي، كما صرح بذلك غير سياسي غربي في مناسبات عديدة.
وتقوم إستراتيجية عمل الحزب على عدم تبني العنف والعمل المادي في التغيير، وهذا ما يحرج الحكومات الغربية في حظر الحزب، فلا يوجد قانون بحسب الدساتير الغربية يجرم العمل الفكري مهما كانت طبيعته، ولذا فإن الدعوات التي كانت تنادي بحظر الحزب في بريطانيا مثلا لم تنجح، وهذا ما كان يسعى له الساسة الأمريكان من أجل إلصاق علاقة بين الحزب والقاعدة، ولكنها أيضا لم تؤت ثمارا تذكر على هذا الصعيد، فتلجأ هذه الحكومات بشن حرب بلا هوادة على أفراد الحزب في دول العالم الإسلامي عن طريق الأنظمة الدكتاتورية التي تبطش بجبروت غير مسبوق بأفراد حزب التحرير، وقد أصدر الحزب في هذا المجال العديد من النشرات التي يكشف فيها عن عدد معتقليه في السجون العربية وبلاد المسلمين الأخرى، وخاصة أوزباكستان التي قضى كثير من أفراد الحزب نحبهم في السجون هناك، وقد وثق مركز الدفاع عن الحقوق "ميموريال"، وهو المركز المعلوماتي لحقوق الإنسان في آسيا الوسطى، هذه التصرفات في كتيب تم نشره في موسكو عام 1999، وكان الكتيب بعنوان "إسلام كريموف ضد حزب التحرير"، ومن يزر موقع الحزب على الإنترنت يلاحظ استمرار هذه الحملة على الحزب في أوزباكستان إلى الآن.
وينادي حزب التحرير منذ نشأته على يد الشيخ تقي الدين النبهاني عام 1953 بتوحيد بلاد المسلمين كافة في دولة واحدة، يطلق عليها الحزب مصطلح الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة الراشدة، التي يعتبرها الدولة الراشدة الثانية بعد دولة الخلفاء الراشدين في القرن الأول الهجري يحكم هذه الدولة حاكم واحد يطلق عليه الخليفة أو أمير المؤمنين.
ولتحقيق الحزب رؤيته تلك فإنه يعمل على صياغة الرأي العام عند الناس عبر وسائل متعددة، من توزيع للنشرات، وافتتاح مكاتب إعلامية في كثير من الدول، وقد استفاد الحزب من إمكانيات الإنترنت، فللحزب أكثر من موقع إلكتروني بالإضافة إلى إذاعة تبث عبر الإنترنت، ومنتديات تفاعلية، أشهرها منتدى العقاب ومنتدى الناقد الإعلامي، بالإضافة إلى المجموعات البريدية العاملة على إرسال كل منشورات الحزب الجماهيرية، وخاصة السياسية إلى ما لا يحصى ربما من العناوين الإلكترونية، وتنشط في هذا المجال المجموعة البريدية (مجموعة الخلافة)، عدا أنه أصبح له مؤخرا ظهور رتيب على بعض القنوات الفضائية، ومنها قناة الرحمة.
ويوظف الحزب كذلك من أجل التأثير في الرأي العام ما يحدث في العالم وفي بلاد العالم الإسلامي من هزات سياسية واقتصادية واجتماعية وثورات شعبية رادّا الحزب هذه الهزات إلى فشل النظم المستبدة أولا في العالم الإسلامي التي ارتضت أن تكون خادمة للغرب في المشاريع السياسية والعسكرية ونهب الخيرات وتسخير الناس ليعملوا عند الشركات الكبرى في أحسن الأحوال بما يقيم الأوَد، فقد كانت هذه الأنظمة من وجهة نظر الحزب عاملا قويا مثلا في سقوط فلسطين عام 1948 وسقوط بغداد عام 2003 واحتلال أفغانستان عام 2001.
ويرى الحزب كذلك أن العالم يعيش أزمة اقتصادية إنسانية عامة وطامة بسبب النظام الرأسمالي المستغل للشعوب كلها لا فرق بين شعب مسلم وغير مسلم، فالكل في نظر الحزب مستغَل لمصلحة أصحاب رؤوس الأموال وحيتان الشركات العملاقة، ولذا فإن الحزب يرى أن العالم يعيش على فوهة بركان أو على حافة الانهيار بسبب هذا النظام، وبين الحزب رأيه في هذه المسألة في الكتب الذي حمل العنوان "هزات الأسواق العالمية- أسبابها- وحكم الشرع في هذه الأسباب" الصادر عام 1997.
وعلى الرغم من أن حزب التحرير حزب سياسي إلا أنه لا يقبل الدخول في "لعبة الديمقراطية" كما يسميها، بل يرى أن هذا الأسلوب مدمر للعمل الإسلامي ومحبط للتغيير، فالمشاركة في الحكم تحت مظلة الأنظمة القائمة من قبل بعض الإسلاميين هي مشاركة تجمّل قبح النظام وتطيل عمره، بعيدا عن التأصيل الفقهي المستند إلى التحليل والتحريم في هذه المسألة، والتي يستند إليها الحزب في بحثه، ومن أجل ذلك دخل مع بعض قيادات الإخوان المسلمين في جدل فقهي وسياسي احتدم طويلا.
ويرفض الحزب كذلك المشاركة في الانتخابات النيابية في بلاد العالم الإسلامي، وخاصة في البلاد التي تقع تحت الاحتلال العسكري (فلسطين، العراق، أفغانستان)، وأصدر في تلك الانتخابات وحرمتها الكثير من النشرات والتحذيرات، فقد رأى مثلا أن الانتخابات في فلسطين تندرج ضمن خطط إنهاء القضية الفلسطينية لصالح الكيان الصهيوني، ولذا يرى الحزب أن هذه الانتخابات تعطي شرعية لوجود المحتل، ومن يشارك فيها فإنه يسير شاء أم أبى ضمن ما عُرف بخارطة الطريق، التي نصت على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وبلدية، يتبعها خطوات أخرى.
وقد ارتبط فكر حزب التحرير بفكرة هدم الخلافة التي ألغيت نهائيا ورسميا في 3/3/1924، عندما اتفق الإنجليز مع كمال أتاتورك مؤسس تركيا العلمانية الحديثة على إلغاء الخلافة، والتخلص من كل ما له علاقة بهذا النظام وإحلال أبجديات في الحكم والفكر بدلا من الدولة العثمانية التي تهالكت وأصبحت رجلا مريضا يعاني من أمراض مزمنة ويحتاج إلى من يطلق عليه رصاصة الرحمة، فكانت على يد كمال أتاتورك في تركيا وعلى يد الحسين بن علي في بلاد العرب فيما عرف في التاريخ الحديث بإطلاق الرصاصة الأولى من قصره معلنا بدء الثورة العربية.
ويُرجع الحزب كل مشاكل العالم الإسلامي إلى أن المسلمين غير موحدين في دولة واحدة تحكمهم بشريعة واحدة، ويرى أن حالة الضعف السياسي في الأمة تكمن في أنهم أصيبوا بكارثة هدم الخلافة، ولذا فإن جماع التغيير وأساسه كما يقول الحزب هو انقلاب شامل في النظام العام يغير الأنظمة والأفكار والمشاعر فيرتبطون معا في وحدة واحدة سياسية وفكرية وعقائدية في مجتمع إسلامي تمثله هذه الدولة، وعليه فإن الحزب يرى أن هذا المجتمع غير موجود على الإطلاق في أرض الواقع هذه الأيام ولا بأي دولة من الدول.
وبعد،
فإن ستين عاما مضت على تأسيس حزب التحرير، وأكثر من تسعين عاما على هدم الدولة العثمانية، والحزب ما فتئ يدعو لفكرته، فهل إصراره هذا ومواقفه في تحدي الحكومات في العالم الإسلامي ستوصله يوما لمبتغاه؟
على ما يبدو أن كثيرا من الوقائع قد تغيرت على أرض الواقع لصالح الحزب، كما يقول في أدبياته بعد الثورات العربية، التي يتحمس لها الحزب ويناصرها بقوة، وخاصة الثورة السورية فالدول الاستعمارية التي لن تقبل بفكرة الدولة الواحدة، وستحاربها بكل ما أوتيت من عزم وشراسة وجبروت، هذه الدول أصبحت أكثر ضعفا الآن من وجهة نظره، ومنيت بهزائم متكررة عسكرية في بلاد العالم الإسلامي، أو أنها لم تحرز - على أقل تقدير- ذلك النصر السهل القريب الذي كانت تطمح إليه، مما أقلق راحتها وجعلها تفكر مليا بالانكفاء والعودة إلى داخل حدودها، وهي الآن تستخدم سياسة من يصمد فترة أطول في اختبار "عض الأصابع"! زيادة على ما يرهق كاهل هذه الدول من أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، وصراع مصالح بين الدول الكبرى قد يكون داميا يوما ما.
والشيء نفسه يقال عن الدول القائمة في العالم الإسلامي، فإنها لن تستطيع مجابهة قوة فتية ناشئة في بلد مجاور، وذلك لافتقادها أدني مقومات الرصيد الشعبي عند الناس، فليس هناك حاكم عربي إلا وتتمنى الغالبية زوال حكمه وذهاب سلطانه، ولعل الحزب يراهن على هذين العاملين، فمتى تتحقق غايته، وهو ما زال ينتظر عما تسفر عنه الثورات العربية، التي يراها ربيعا قد ينتج عنه تلك الدولة التي طال انتظاره وعمله لها؟