الاستبداد في مواجهة الثورة السورية
الاستبداد في مواجهة الثورة السورية
د. عبد الله تركماني
ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية هو ثورة على الاستبداد السياسي الذي كان منتشراً في عقود مضت، وإذا كان الإبداع الثوري الذي أظهره ربيع الثورات العربية مازالت تجلياته في تصاعد، فإنّ رياح التغيير تعصف في الأقطار العربية كلها، بحيث يمكن أن نقول: إننا دخلنا الموجة الرابعة من موجات التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي سورية، في بداية السنة الثالثة للثورة السورية، وبعد سيل التضحيات التي قدمها أبناء الشعب السوري وبناته، فإنّ الثورة كغيرها من ثورات الشعوب العربية جاءت من وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادراً على تحمّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ أربعة عقود.
فعلى امتداد 43 عاماً هيمن نمط من الأجهزة الأمنية الأخطبوطية، التي يبلغ عددها سبعة عشر جهازاً، على مجمل نواحي الحياة السورية، بحيث تم ابتلاع كل المظاهر الأولية لوجود المجتمع المدني السوري. فقد اعتادت السلطة على مصادرة المجتمع وإخضاعه كلياً، وأقامت في سبيل ذلك منظماتها الشعبية كامتداد لسلطتها، بحيث لم يعد من الممكن الحديث عن دولة ومجتمع بالمعنى الحديث. ومرد كل ذلك هو النظام السلطوي الذي حكم البلاد والعباد، والذي تميز بالتماهي بين الدولة والسلطة والمجتمع والحزب، واندمجت كلها في شخصية الحاكم المستبد، بعيداً عن أية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود مراتبية تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الأهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقرّب أهل الولاء وتنفّر أهل الكفاءة.
إنّ نظام الاستبداد الذي نصبّ من نفسه وصياً على مصالح الوطن السوري تمكّن من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية، بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة الهجمة الإمبريالية. والمؤلم أنّ سلطة الاستبداد لم تراكم سوى المحن، ولم تنتج سوى الأزمات، بما فيها العزلة الدولية والعربية، مما قاد إلى انسداد كل أفق ممكن لإيجاد حلول ومعالجات ناجعة للأزمات الناشئة في المجتمع السوري.
إنّ الطبعة الوحيدة من الوطنية التي يُطلب من جميع السوريين إعلان ولائهم لها وانتمائهم إليها، والالتحام عبرها بالرئيس والنظام والحزب، بصرف النظر عن موقعهم ومصالحهم وحقوقهم ومستقبلهم، لا تبدو الوطنية فيها مرتبطة بحقوق وواجبات ومصالح ومسؤوليات والتزامات تخص الجميع وكل مواطن، وتحتمل النقاش والتطوير والتجديد والتحسين، وإنما سقفاً تفرضه مقتضيات أمن النظام، ويتجسد عبر تعزيز القيود والحدود التي تؤمّن وحدها الوحدة والالتحام والانتظام.
وهكذا، في ظل احتكام سلطة الاستبداد إلى الخيار الأمني، كما وجدناه منذ انطلاق الثورة السورية في 15 آذار 2011، وغياب أي أفق حقيقي لإجراء إصلاحات عميقة، وصل الشعب السوري إلى قناعة مفادها أنّ انتهاء ثورته من دون الحصول على نتائج سياسية حقيقية، تنطوي على تفكيك النظام الأمني والتوجه نحو نظام سياسي معاصر قوامه عقد اجتماعي وسياسي جديد يقوم على تعددية سياسية حقيقية ومؤسسات تؤمّن الكرامة والحرية للمواطن السوري، سيؤدي إلى الانتقال لمرحلة أسوأ مما كانت عليه الأمور قبل بداية الثورة.
إنّ الثورة السورية تتصاعد وهي تشطب كل يوم أساطير شاعت عن المؤامرة الخارجية، وعن الجهات الداخلية التي كادت تبدو كأنها ميليشيات علنية مسلحة، أو خلايا سرية نائمة استفاقت فجأة لحظة اندلاع الحراك الشعبي. ويبحث نشطاؤها عن أفضل السبل لتفكيك " مملكة الخوف " وإعادة بناء جمهورية المواطنة، والانتقال بسورية إلى دولة مدنية ديمقراطية لكل أبنائها.
إنّ عناد الديكتاتور السوري ووحشيته جعلا من الثورة السورية مدرسة في البطولة والتحدي، ففي مدن سورية وبلداتها وأريافها فرض النظام المتغول أشكالاً نضالية متنوعة، بدأت بالمظاهرات السلمية واتخذت أشكالا عسكرية متعددة للدفاع عن المدنيين العزل.
إنّ أغلب المشكلات التي تواجه سورية في المجال الداخلي هي من ثمار النهج الذي اتبعه الحزب الحاكم خلال وجوده في السلطة منذ العام 1963 في إقامة نظام استبدادي استئصالي، حين حوّل سورية إلى دولة فئوية تقودها نخبة من أصحاب الامتيازات الذين يرفضون المساواة بين السوريين. كما أنّ مجتمع الحزب الواحد أشاع حالة من السلبية والعزوف عن الانخراط في الشأن العام، إذ غابت لدى غالبية الأفراد والجماعات المبادرة الذاتية والتفكير المستقل، وحصلت حالة من القطيعة بين أغلبية أفراد المجتمع والنخبة السياسية، بعدما بطشت السلطة بقوى المعارضة وأماتت أي تعبير أو مؤشر على حياة سياسية طبيعية.
إنّ التغيير الشامل في سورية، بعد سنتين من الحراك الشعبي المتواصل الذي تتسع قاعدته الاجتماعية، وبعد عشرات آلاف الشهداء والجرحى ومئات آلاف اللاجئين إلى دول الجوار وملايين النازحين داخلياً، أصبح مهمة إنقاذية لا تقبل التردد ولا التأجيل، وأية محاولة إلى إفراغه من محتواه الحقيقي، أو محاولة تقزيمه إلى إصلاح جزئي، أو تغيير أشخاص بآخرين، أو تلميع صور عتيقة، لن تفعل إلا أن تفاقم في سوء الأوضاع، وتضع سورية على حافة المجهول. وبالتالي فإنّ تعثر تلبية مطالب التغيير هو مجازفة خطيرة بمستقبل الدولة والمجتمع في سورية. فالحاجة ملحة إلى إعادة بناء السلطة على أسس جديدة تعطي الدولة طابعاً آخر يوحد المطامح الوطنية العامة، ويؤسس لفاعلية جديدة تستوعب مكوّنات المجتمع كافة.
إنّ نجاح أي مشروع للتغيير في سورية مقدماته الضرورية تقوم على الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، بما ينطوي عليه ذلك الانتقال من إلغاء كل القيود على الحريات الديمقراطية، وعلى الدعوة إلى استقلال القضاء وسيادة القانون، بما يضمن قيام دولة حق وقانون عادلة وقوية، دولة المواطنين الأحرار. من خلال صياغة معادلة جديدة في الحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية والمؤسسية والقانون، هي وحدها الكفيلة بوضع سورية على أولى درجات الإصلاح والتغيير المنشودين، وإلا فإننا أمام حالة إعادة إنتاج الماضي بكل مآسيه.
ولن ينعم المجتمع السوري بلحمة وطنية صحية إلا في حال البدء بتحرير السياسة من السيطرة الشمولية للسلطة، من الوصاية والنمطية، ومن سيادة الرأي الواحد والصوت الواحد والحزب الواحد، بما يعني الاستعداد لخطوات جريئة، على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون، والقبول بالتعددية والاختلاف كمقدمة لا غنى عنها لصياغة عقد اجتماعي متوازن يوفق بين نزاعات بشر تتباين همومهم ومصالحهم، ويضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة.
ويبدو أنّ رفض الاتعاظ من مصائر المستبدين السابقين هو لعنة مسلطة على رؤوس الأنظمة المستبدة التي لا تنتهي إلا وفق سيناريوهات تراجيدية ومأساوية كان يمكن تجنبها بكل تكاليفها وتداعياتها مبكراً فيما لو اتعظ الطغاة، ولكن هيهات أن يفعلوا. فالنظام السوري، وهو يمعن في قتل الأبرياء ويحاول تخليد وحماية عرش سلطوي انتهت أيامه ودالت دولته، لا يقرأ التاريخ ولا يحسب حساب المتغيّرات، وهو بالتالي لا يقيم وزناً ولا احتراماً لدماء الشعب الذي يحكمه ولا حرمة لأرواحه وهو يبحث عن انتصار تاريخي مزيف على شعبه، وذلك معناه نهايته الحتمية التي لن تختلف عن نهايات الطغاة عبر التاريخ.
وبذلك فإنّ الثورة السورية تتجاوز ساحتها الأصلية لتتحول إلى الأداة الأهم في تغيير المشرق العربي ورسم صورته لعقود طويلة مقبلة، وربما هذا بالذات ما يجعلها على تلك الدرجة من الصعوبة وما يزيد من الآمال المعلقة عليها.