الانطلاقة الجديدة للمسلم
الانطلاقة الجديدة للمسلم
عبد العزيز كحيل
لقد خلق الإنسان في أعلى مراتب الإنسانية ويملك أن يعلو عليها فيصير بالالتزام الواعي ربّانيا، أو أن ينحطّ عنها إلى الحيوانية إذا أوغل في الحسيّة والغريزة، وإلى الشيطانية بالتلبّس بالفساد، والتقويم المذكور في قول الله تعالى " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " لا يقتصر على الخلقة البهية وإنما ينسحب أساساً إلى عالم الأفكار والمشاعر والقيم الذي يرقى فيه الإنسان إلى مصافّ الكرامة والعزة والخلافة عن الله فيكون جديراً بعمارة الأرض وأداء واجب الشهادة على الإنسانية، فالتقويم الأحسن هو المرجع الأساسي لعدّة مقامات يرتقي من خلالها الإنسان المؤمن:
· مقام حقوق الإنسان بما يقتضيه من عصمة وحماية: "ولقد كرمنا بني آدم"
· مقام العزة والسيادة: "ولله العزة لرسوله وللمؤمنين"
· مقام الاستحقاق والجدارة: "ولكلّ درجات مما عملوا"
وأيُّ معنى للإنسان إذا لم يُحَط نفسيًّا واجتماعيًّا بسياج من الصيانة والحصانة يحفظه في نفسه وماله وعرضه ومسكنه ووطنه وضميره وحريته؟ وأي تكريم للإنسان إذا حُجب عن قيم الحق والخير والجمال؟ وأي احتقار للإنسان أكبر من احتقار رأيه؟
· قيمة الفعل الإنساني: قيمة الإنسان على قدر أعماله وبذله وعطائه ، فلا وزن لبعض النظريات الدينية التي تهوّن من الفعل البشري وتركّز فقط الفعل الإلهي- ولا مجال ابتداء للمقارنة بين المطلق والنسبي - ذلك أنّ الانتقاص من قيمة الفعل البشري وتغييب الإنسان انتهاكٌ لهذا الإنسان تُسبّبه الغفلة عن ملاحظة الوجود الإلهي في الفعل المؤمن، فمصادرة الفعل الإنساني لمصلحة الفعل الإلهي المطلق خطأ في التصور ينطق به النسق الإسلامي كله ويؤدي عند احتدامه إلى نتائج عكسية أبرزها ضمور المبادرة والحوافز الذاتية والانسحاب من ساحة الخلافة والعمارة والاكتفاء بالمفهوم الطقوسي الشكلي للعبادة، بينما يُراد من المؤمن أن يقتحم العقبات ويُثبت ذاته ويكون قدَر الله الذي يُنفذُ من خلاله إرادته ويُجري حكمه، وإنما تحدث الانتكاسة في أجواء التخلّف التي تجني على الإنسان قبل أن تصيب الاقتصاد والاجتماع والأدب والفنّ.
ففي أجواء التخلّف يقتصر همّ الانسان – في الغالب – على البقاء على قيد الحياة ، يواجه كل يوم تحديات لقمة العيش وشربة الماء وحبّة الدواء ونحوها ، في حين كان ينبغي – بالنسبة للمسلم - أن يتجاوز معركة البقاء الجثماني إلى خوض معركة أداء الرسالة وإقامة الحضارة والوقوف موقف الشهود على الأمم والشعوب ، والحلّ يتعدى توفير مقوّمات الحياة إلى إعادة صياغة الإنسان إسلاميا حتى يسترجع الشخصية المسلوبة والإنسانية الضائعة وينجو من عوامل الخوف والقلق والسحق ليضع نفسه من جديد على طريق البناء والإصلاح .
· صياغة جديدة: وحتى تكون الصياغة المنشودة صحيحة متوازنة يجب أن تشترك فيها عوامل التربية والتكوين في منهجية محبوكة تتفادى الرؤى الجزئية التي قد تشبع رغبات عاطفية جلية أو دفينة لكنّها أعجز من تنشئة إنسان الرسالة والتغيير والحضارة في ظل العولمة الطاغية وجبهات التحدي المتعدّدة على مستوى النفس والمجتمع والمادة والوعي ، فليس من المعقول إطلاقا تبنّي المنهج الاعتزالي وحده ولا السلفي ولا الصوفي ولا التبليغي ولا الجهادي ، فهذا من شأنه تكرار أخطاء الماضي من جهة ، وتغييب محاسن وإيجابيات التصوّر الشمولي من جهة أخرى ، وهو التصوّر الذي يتناول في تناغم وانسجام – وعلى بصيرة – التجارب الإيمانية الناجحة على المستوى الذهني الفكري، والقلبي العاطفي ، والسلوكي العملي لإيجاد الإنسان الربّاني صاحب العلم والأخلاق والاستقامة والعطاء ، فيستطيع بناء المجتمع المتحضّر الراقي ، ويصنع أمجاده بتوجيه من القرآن الكريم والسنة.
وقبل ذلك تتيح هذه الصياغة للعاملين للإسلام أن يقدّموا ذلك المنهج التغييري التفصيلي المتكامل الذي مازال الناس – مسلمين وغير مسلمين – يطالبون به عسى أن يستهويهم الحلّ الإسلامي بما فيه من عقيدة واضحة سهلة ومنهج للحياة تستريح له الفطرة.
إنّ الإنسان المتشبّع بالرؤية الإسلامية المتكاملة ينبّهه إيمانه للسنن الإلهية في الكون والمجتمعات ويندبه لإعمالها في الواقع بحيث يستطيع تحويل البعد الإيماني إلى إنجاز حضاري ، وهذا من أفضل وسائل الدعوة بين المسلمين وغيرهم ، وليس من رأى كمن سمع ، وهو وحده القادر على ذلك لأنّه يربط بين الإيمان والتقوى وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق ، فدينه يمدّه إلى جانب المعرفة المتنوّعة الراسخة بالبصيرة ( التي سمّاها القرآن الكريم فرقانا ) وهي نور ربّاني يجلبه الإيمان الصادق والمجاهدة وطول الوقوف على باب الله تعالى بالعبادة والتضرّع والإخبات ، كما أنّ شمولية التصوّر تيسّر للمسلم – الفرد والمجتمع – تجسيد الارتباط بين الانتصار في ميدان المبادئ والانتصار على الشهوات وبين الانتصار في المعارك الحربية ، فليس هذا المسلم عقلانيا فقط ولا متصوّفا فحسب ولا مقاتلا بحتا ، إنما هو كلّ هذا ، فهو يحسن التفكير والتدبير ويتفنّن في تزكية النفس وعبادة الله تعالى وينصر دينه وأمّته في ساحة الوغى.
· إنسان إيجابي: إنّ الإنسان المراد إعادة صياغته – سواء كان رجلا أو امرأة – سيخرج من إطار التديّن الفردي والطقوسي إلى رحاب الشهود الحضاري مشتغلا بمحاربة الظلم السياسي والاجتماعي ، منتصرا للفقراء والمستضعفين ، مدافعا عن حقوق الإنسان والحريات بجميع مستوياتها ، رافضا للترف والرذيلة مبشّرا بالحياة الطيّبة ، مساهما في إرساء قواعدها وتنمية عناصرها تربويا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفنيا ،على هدي الوحي المنزّل والتجارب الإنسانية عبر العصور ، مستعينا بإيجابيات الغرب في النظام والإتقان والبحث العلمي والعمل المؤسسي ورفع شأن ذوي الكفاءات ، يستعمل هذه الأدوات لتبليغ رسالة الإسلام بالقدوة وبالإنجازات المعنوية والنفسية والجمالية لإشباع حاجة الغربيين الذين يشتكون من الخواء الروحي والفراغ الإيماني بسبب تحييد الدين عندهم – وهو دين محرّف على كل حال- وسطوة المادّة .
أنّ الإنسان المنشود يتعلّم من إسلامه ألاّ يستسلم للقدر كالجبريّين، وإنّما يواجه هذا القدر بقدر أحبّ إلى الله منه ، وهذا نتيجة لتطليق الأمية العقلية التي سادت ساحتنا قرونا ،بذلك يستطيع السير بهدي الإسلام ليخرج الناس من ظلمات الجهل والاستبداد والرذيلة والفوضى والتخلّف إلى نور المعرفة والشورى والنظام أي ينتقل من القلق النصوصي إلى القلق الحضاري ومن التبرّك بالقرآن إلى التحرّك به ومن النظر السطحي للسنّة النبوية إلى تجسيد معانيها الكريمة في العلاقات الأسرية والاجتماعية كما في الحياة الروحية تماما ،فهو يعرف مراتب الأحكام ولا يخلط بين الأصول والفروع ، و يحسن التمييز بين الكليات والجزئيات ، ويتحلّى بالحكمة فيضع كل شيء في مكانه المناسب ولا يعطي لأيّ شيء ولا أحد إلاّ " التسعيرة " التي أعطتها له الشريعة من غير إفراط ولا تفريط ، ومن أهمّ ميزاته الجمع التوافقي المتوازن بين التميّز الإيماني والبعد الإنساني ، فذلك يحميه في آن واحد من التقوقع المتزمّت ومن التميّع المتربّص بمن يتعاطى مع المحيط الكبير بما فيه من أفكار وفلسفات ونظريات وسلوكيات شتّى ، وموضع التوازن والوسطية هو الأصعب دائما لكنّه الأنسب لصاحب رسالة الحضارة والشهادة.
ولا يخفى أنّ هذه الصياغة الجديدة لن تقوم لها قائمة إلاّ بقراءة أصولية مقصدية متّزنة ومتفتّحة للقرآن والسنة ولتراثنا الفكري، وباستعمال الآليات الأكثر فاعلية في فهم الواقع المتشعّب نفسيا وماديا واجتماعيا وحسن الإسقاط والتنزيل لتجاوز العقبات الحقيقية والافتراضية والموهومة في عملية إصلاح البشر والمؤسسات والعلاقات بروح الإسلام وأحكامه وضوابطه وأخلاقه.