القدس في حضرة الشيخ
القدس في حضرة الشيخ
مأمون شحادة
لم تعد كما نعرفها، فغمامة الاسرلة الجابوتنسكية أخذت تجتاح كل شرايين قلبي المزروع في اوصالها، هذا هو حال لسانها وهي تستقبل اول الرصاصات وبداية الحريق، وكأن الشمس اطفئت عن بكرة ابيها، والليل الحالك اخذ يتجذر محاصراً مدينة يعشقها الجميع .
اللافت، انه واثناء التجوال في شوارعها وازقتها، يزداد اطار العين اتساعاً، فالبؤس والحزن مرسوم على معالم تضاريسها، حتى ان الشيخ الكهل اصبح يمثل تلك المعادلة الواضحة، التي لا تحتاج تحليلاً لعناصرها وعواملها التكاملية، فالحقيقة لامعة مثل قباب القدس ومسجدها .
توقفت كي استمع الى ما يقوله ذلك الشيخ، فقد اعجبتني حركات يديه ونبرات صوته، وملامح الغضب التي تنعقد بين حاجبيه، فحينما تحاصرني الذكريات اجلس وحيداً لأدق ناقوس من يحاصرني.
يا لهذا الشيخ، كم ان حنجرته تزداد اتساعاً، ونبرات صوته محاصرة بين مثلثين مقلوبين منفرجة اضلاعه، بعكس محددات قانون فيثاغورس!، فانا اعرف انه اضطهد وهُجِرَ من مربع الصراع الى ذلك المثلث.
وعلى الرغم من ذلك، فهو يعرف اكثر مني، ان انفراج المثلث الاول وانقلاب المثلث الاخر!، وانغلاق المربع الاخير! يحمل نتيجة اضطهادية اقصائية ضحيتها رافع الاذان وقارع الاجراس.
فالانفراج لا يورث الا زاوية قائمة لا تعرف الا الدم والاقصاء!، والتربع بزاوية قائمة لا تورث الا الديماغوجية واحتراف لغة الطواحين باسم المثالية واحترام حقوق الانسان! .
كم ان دموعك يا شيخ تجرح وجداني، واللؤلؤة البيضاء تزداد هطولاً على وجنتيك، فانا الان اعترف امامك ان جميع الالوان زورت بخطاب عقيم تحرق عباراته بين حرف الضاد ونبطية الكلام.
عذراً يا سيد الالوان، فالشيخ لا يستطيع أن يكون ميكافيلياً، لأن مساحة عقله لا تحتمل العيش في كينونة التملق الانزوائي المرسومة بين اضلاع مثلث معبد الخراب وزاوية الكنيست الصهيوني، فقاعدة "المعرفة والحقيقة" “لماذا، ومتى، وكيف، وماذا، وأين” تعرف أن مساحة رأي جابوتنسكي وجدار عنصره التلمودي تلاحق جذور الشيخ في بلدة سلوان وسوق القطانين وصخرة الاسراء.
هكذا هي ملامح وترانيم صوت القدس من بعيد، وكأن طفلتي الصغيرة تبتسم مرة أخرى على ضفاف البحر ورائحة الليمون، فكم فرحت وأنا احتضنها مبتسمة، لكني في الوقت حينه بكيت في قرارة نفسي لأنها ذكرتني بصديقي الشيخ لحظة استشهاده، وكأن الحالة متشابهة.
مرح
الصغيرة تغازلني بعينيها مرة أخرى، وعلى باب البيت جندي إسرائيلي يحاول أن يخطف تلك
البسمة من شفتيها، مثلما خطفها من شفاه صديقي الشيخ، حيث كان يحلم أن يصبح طياراً.
ما أدهشني، أنه حينما
طار إلى السماء كان مبتسماً وهو يعانق تلك الجنان، تماماً مثل طفلتي الصغيرة، التي
أصرت على مداعبتي ضاحكة، فالفارق بينهما رحلة السماء، أما مرح فقد بدأت الحياة
بِهِبَة من المكان الذي رحل إليه شيخنا الجليل.
كم أن الأقصى عزيز ووجهته بهية، وكأن قبة الصخرة وقباب مآذنه هي الأخرى تضاحكهم جناساً على طباق، فالعبور عبر بواباته صعب وخطير، ومن يرد أن يركب تلك الأخطار يجب أن يكون مبتسماً، كمرح وصديقي الشيخ.
مرح الصغيرة لم تعد تبتسم، فشفاهها أقفلت كبوابات القدس، والخوف أخذ يتجذر في أوصالها، وكأنها لم تعد مرحة كما أعرفها، فعلى ما يبدو أن هناك غصة في قلبها الصغير من ذلك المحيط السياسي، بالرغم أنها صغيرة على السياسة .
أخذت أروي لها عن ذلك المحيط الذي يحمل في ثناياه كلمتي "النفاق" و"الكذب"، حيث يحكى أن تلك الكلمتين اجتمعتا في يوم من الأيام "ما بين الماضي والحاضر" وكونتا كلمة تسمى "سياسة"، وعلى الفور أخذت مرح بالبكاء والصراخ، فتوقفت عن الحديث!
فأنا أعرف أنها لو استطاعت الكلام لطلبت مني التوقف، فتلك القصة لا تتلاءم مع فطرتها الإنسانية، كذلك هو حال المقهورين الذين هم بطبيعة الحال بين سنديان النفاق ومطرقة الكذب، فالسياسة مبدعة في تقمص الأدوار، واللعب على الشعور واللاشعور.
لم أعد أعرف إلى أي اتجاه أسير، فكل الطرق تؤدي إلى السياسة، فالشمال لم يعد شمالاً، والجنوب لم يعد جنوباً، كذلك هو حال الشرق والغرب، حتى أن القدس لم تعد قدساً، فالهيكل ينبش قلبها، ولم يعد لأطراف الحديث بقية .
احتضنت طفلتي وهي ترتعش خوفاً من ذلك الهيكل، وكأن معبد الخراب أصبح مقدمة لإقامته، وبعد دقائق معدودة من احتضانها أخَذَتْ تحرك شفتيها ضاحكة، ففرحت كثيراً، ورقصت فرحاً، لكن سرعان ما أتضح لي أنها ضحكة الخوف، ورقصة الموت.