دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 11-13
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
د. أبو بكر الشامي
مباديء راقية في الفروسيّة وأخلاق الحرب ( 11 )
لقد رأينا في فقرة سابقة ، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس القوة والردع العسكري ، عندما كان يحتاج الموقف إلى ذلك.
فلقد هدم حصون الطائف بالدبابات والمنجنيقات ، وأهدر دماء بعض المشركين وأمر بقتلهم حتى لو وُجدوا معلّقين بأستار الكعبة المشرّفة ، وقتل بعض أعدائه صبراً ، وقطع أيدي وأرجل البعض الآخر .!!!
كل ذلك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب ، وللحرب أحكامها ، لا عن قسوة في القلب ، وتعطّش للدماء ، معاذ الله .!!!
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحمل بين جوانحه قلباً ، فيه من الرحمة والمروءة والنبل ، ما لو وُزّعت على أهل الأرض لوسعتهم ، مصداقاً لقوله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)).
ولكنه التوازن المطلوب في شخصيّة القائد العسكري المسلم ، فللرحمة أوقاتها ، وللحزم أوقاته كذلك ، والمسلم ليس بالخبّ ، ولا الخبّ يخدعُه ...
والرسول صلى الله عليه وسلّم يقول : (( ولا يُلْدَغُ مؤمنٌ من جُحر مرَّتين )) … وإذا كانت مثل تلك المواقف الحازمة لها ما يسوّغها في مسيرة الدعوة الإسلامية ، ومسيرة الجهاد الإسلامي ، في ظروف معينة ، وحالات خاصة ، يقدرها القائد في ميادين المنازلة والجهاد .
فإن الأصل الثابت ، والمنهج العام للدعوة ، هو غير ذلك تماماً ، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحمل من قيم الفروسية ، ومعاني الرجولة ، وأخلاق الحرب ما يصلح اليوم للتدريس في أرقى المعاهد والأكاديميات ، التي تعلّم اليوم قيم العسكرية وأخلاق الحرب في العالم ، إن كان ثمة قيم باقية .!
وإخواني من أبطال الجيش السوري الحرّ ، هم أولى الناس على وجه الأرض بها .
ولعل أهم ما لفت نظري من هذه الأخلاق :
1. نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن قتل الضعفاء من الأطفال ، والنساء ، والأُجراء :
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا عقد لواءً في سبيل الله ، كثيراً ما يوصي أصحابه فيقول :
(( أُغزوا في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، لا تغلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، فهذا عهدُ الله ، وسيرةُ نبيّه فيكم )) . هشام 2 ( 632 )
وكان يغضب عندما يرى امرأة مقتولة في غزواته من دون سبب معقول ، فقد ذكر ابن اسحاق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد مرّ على امرأة مقتولة في طريقه إلى الطائف ، والناس متقصِّفون عليها ( متجمِّعون ) ، فقال : ما هذا .!؟ قالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد ؛ فقال لبعض من معه :
(( أدرك خالداً ، فقل له : إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً ، أو امرأة، أو عسيفاً ( أجيراً ). )) هشام 2 ( 457 )
2 . الجمع بين الأمهات ، وأبنائهنَّ في الأسر :
لقد بُعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ونظام الرقِّ نظاماً عالمياً ، تعمل به كل أمم الأرض في ذلك العهد ، ولئن كان الإسلام يومها ، غير قادر على إلغائه مرّة واحدة من الوجود بجرّة قلم ، فقد بذل كل ما يستطيع ، لتجفيف منابعه ، والتخفيف من وقعه ، والتقليل من آلامه.
قال ابن هشام : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زيد بن حارثة نحو مدين ، ومعه مجموعة من أصحابه ، فأصاب سبياً من أهل ميناء ، وهي السواحل ، وفيها جُمَّاع الناس ، فبِيعوا ، ففُرِّق بينهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقال : ما لهم !؟ فقيل : يا رسول الله ، فُرِّق بينهم . فقال: (( لا تبيعوهم إلا جميعاً )). قال ابن هشام : أراد الأمهات والأولاد . هشام 2 ( 635 )
3. رفض بيع أجساد القتلى المشركين ، في أرض المعركة :
من فروسيّته العالية ، وأخلاقه الحربية الراقية ، صلى الله عليه وسلّم ، أنه كان يرفض بيع جثث المشركين الذين يسقطون في أرض المعركة .
قال ابن اسحاق يحدث عن قتلى المشركين يوم الخندق : ومن الذين قُتلوا يوم الخندق ، من بني مخزوم بن يقظة ، نوفل بن عبد الله بن المُغيرة ، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه فقُتل ، فغلب المسلمون على جسده .
قال ابن هشام : أعطَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده ، عشرة آلاف درهم ، فيما بلغني عن الزهري .! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا حاجة لنا بجسده ، ولا بثمنه )) فخلى بينهم وبينه . هشام 2 ( 253 )
4. المنّ على الأسرى والسبايا وإطلاقهم بدون مقابل :
لقد كان من أخلاقه الحربية العالية ، ومن فروسيّته النبيلة ، صلى الله عليه وسلّم ، أن يمنّ على الأسرى والسبايا فيطلق سراحهم بدون مقابل ، وهذا في سيرته الشريفة أكثر من أن يحصى ، ولكن ما ذكرناه للتو عن سبايا هوازن ، الذين أطلق منهم حوالي ستة آلاف من الذراري والنساء ، كان خير مثل على ما نقول ..
ولقد رأينا كيف دفع هذا العمل النبيل ، أهل ثقيف فأسلموا عن بكرة أبيهم . هشام 2 ( 488 )
5. التواضع لله ، وعدم البطر بعد النصر ::
مع كل الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من بطولات عظيمة ، وإنجازات هائلة ، غيرت خارطة العالم ، وعدَّلت مسار التاريخ ، إلا أنه كان متواضعاً لله ، عارفاً به ، قلما ينسب من ذلك شيئاً لذاته ، وهيهات أن تحدِّثه نفسه بشيء من العجب والغرور .!
قال ابن اسحق يحدث عن سيرته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : حدثني عبد الله بن أبي بكر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما انتهى إلى ذي طُوى ، وقف على راحلته معتجراً بشُقَّة بُرْدٍ حبرة حمراء ، وإنه ليضع رأسه تواضعاً لله ، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عُثْنُونه ليكاد يمسّ واسطة الرحل .!
هشام 2 (405)
6. لا يغير على أعدائه ليلاً ، حتى يرقب الأذان فيهم :
لقد كان من أخلاقه ونبله صلى الله عليه وسلم ، أنه لا يطرق أعداءه بليل ، قبل أن يُصبح ، ويتأكد من شركهم ، وعدم إسلامهم ، وذلك بالإصغاء إلى الأذان فيهم .!
قال ابن اسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا قوماً، لم يُغِر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذاناً أمسك ، وإن لم يسمع أذاناً أغار . هشام 2 ( 329)
7. لا يمنع الميرة والطعام حتى عن أعدائه المحاربين :
فلقد أورد ابن هشام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجت خيلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت رجلاً من بني حنيفة لا يدرون من هو ، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتدرون من أخذتم !؟ هذا ثُمامة بن أسَّال الحنفي ، أحسنوا إساره . ورجع إلى أهله فقال اجمعوا كل ما عندكم من طعام ، فابعثوا به إليه ، وأمر بلِقْحته أن يُغدى عليه بها ويُراح .
وجعل يأتيه فيقول أسلم يا ثُمامة ، فيقول : إيها ، يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن ترد الفداء فسل ما شئت ، فمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أطلقوه ، فلما أطلقوه ، خرج حتى أتى البقيع ، فتطهَّر فأحسن طهوره ، ثم أقبل فبايع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أمسى جاؤوه بما كانوا يأتونه من الطعام ، فلم ينل منه إلا قليلاً ، فعجب المسلمون من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من رجل أكل أول النهار في معي كافر ، وأكل آخره في معي مسلم .!؟
إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمسلم يأكل في معي واحد .
والتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والله لقد كان وجهك أبغض الوجوه إليّ ، ولقد أصبح وهو أحبها إليّ.
ثم خرج معتمراً ، فلما قدم مكة ، قالوا : أصبوت يا ثُمام !؟
فقال : لا ، ولكني اتبعت خير الدين ، دين محمد ، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تأمر بصلة الأرحام ، وإنك قد قطعت أرحامنا ، فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع .!
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يخلي بينهم وبين ميرتهم .!
ألا فما أعظم هذه الأخلاق ، وما أروع هذه السيرة .!؟
وما أجدر الدعاة والقادة اليوم ، وأخصّ أبطال الجيش السوريّ الحرّ النشامى ، الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن شعبهم ، ونصرة ثورتهم ، أن يقتدوا بها ، ويسيروا على نهجها ...
*********************************
حرب القلّة ضدّ الكثرة (12)
إن واحدة من أهم خصائص ديننا الإسلامي الحنيف هي الواقعية الحركية ، فهو حركة تغيير شاملة ذات مراحل مختلفة ، ولكل مرحلة أولويّاتها وخصائصها التي تتناسب مع طبيعة الظرف والواقع الذي يعيشه المسلمون ، ففي المرحلة المكيّة مثلاً لم يكن مسموحاً للمسلمين بالجهاد في سبيل الله واستخدام العنف الثوري في التغيير، لا لزهد في عملية الجهاد ، بل لأن فقه المرحلة ، وفهم الواقع ، كان يقتضي استخدام وسائل أخرى أنفع للدعوة والدعاة ، مثل : الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، والصبر واحتمال الأذى ، وكفّ الأيدي وعدم المواجهة المسلّحة . قال تعالى في تلك المرحلة : بسم الله الرحمن الرحيم (( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )) النساء (77).
ولكن ، ما إن وطئت أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنوّرة ، وتغير الظرف وتغيّرت المرحلة ، حتى أذن الله له بالجهاد ، فقال تعالى عن تلك المرحلة : بسم الله الرحمن الرحيم
(( أُذِنَ للذين يُقَاتَلونَ بأنهم ظُلموا وإنَّ اللهَ على نصرهم لقدير ، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا ربُّنا الله )) الحج (4).
ونظراً لقلة أعداد المسلمين يومها بالمقارنة مع كثرة أعدائهم كما ذكرنا مراراً ، لذلك فقد لجأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ستراتيجة مبدعة هي : حرب القلّة المؤمنة ضد الكثرة الكافرة ، والتي تعرف اليوم كما ذكرنا ب( حرب العصابات ) والتي من روحها وجوهرها :
المعنويات العالية التي تستند إلى قضية عادلة مقدّسة ، والكفاءة الفردية التي تعوّض القلّة العددية ، وخصوبة الذهن العسكري ، وسرعة الحركة ، ومرونة الخطّة ، وابتكار تكتيكات عسكرية مبدعة ، والمفاجأة ، والمبادأة ، والتركيز على تحطيم العدو وإرهاقه ، وتوجيه ضربات سريعة ومتلاحقة له ثم التواري ، بدلاً من التشبث في الأرض والدفاع عنها ... وهكذا ...
ولقد اقتدى بهذا الرسول العظيم ( ص ) خلفاؤه من بعده ، فها هو ذا الخليفة ( الصدّيق ) رضوان الله عليه ، يطبّق نفس المباديء التي تعلّمها من حبيبه وقائده ، وذلك عندما يجد نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحبه من قبل إبّان ارتداد المرتدّين ، فيستنفر الأمة للجهاد ، ويحشدها للمعركة ، ويشكّل الفيالق ، ويحرّك الكتائب ، ويضرب بمنتهى الرشاقة والقوّة في أكثر من اتجاه ، حتى يدوّخ الأعداء ويشلّ تفكيرهم ، ويربك خططهم ، ويقول قولته الخالدة التي لا تزال تجلجل في أذن التاريخ : ( والله لو منعوني عَقالاً كانوا يؤدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لجالدتهم بسيفي هذا حتى تنفرد سالفتي ) .
ويكفي لكي ندلّل على مدى جدّية الصدّيق (رض ) وحزمه وبراعته ، أن نذكّر بأنه كان قد جهّز أحد عشر جيشاً ، عقد لكلّ منها لواءً ، وجعل على كلّ منها قائداً ..
ونذكّر أيضاً بأن واحداً فقط من هذه الجيوش ، وهو جيش خالد بن الوليد ( رض ) ، كان تعداده عشرة آلاف مجاهد ، وهو الذي كان فيما بعد النواة الأولى لفتح العراق كلّه .!!!
*************************************
أمة مجاهدة .. تقبل التحدّي ( 13 )
بعد أن قُمعت الرّدة ، وأُخمدت نار الفتنة ، وتوحّدت الجزيرة العربيّة تحت راية التوحيد من جديد ، أراد الصدّيق ( رض ) أن يستثمر هذا الزخم الجهادي للعرب ، وأن يوظف هذه الروح المعنوية العالية للمسلمين ، فأصدر قراره التاريخي الرائع ( قرار الفتوح ) ، ولكنّه فتح له باب التطوّع هذه المرة لأن درجة التحدّي التي تواجه الأمة قد خفّت نسبياً ، وكتب إلى قائديه ، خالد بن الوليد ، وعياض بن غنم رضي الله عنهما ، يأمرهما بالتوجّه إلى العراق ، ويطلب منهما بصريح العبارة :
( وأذنا لمن شاء بالرجوع إلى أهله ، ولا تستفتحا بمتكاره ) الطبري (4/19).
ثم يأتي من بعده الفاروق عمر ( رض ) ، ويسير على نفس النهج الذي سبقه أليه صاحباه …
فها هو يتابع حركة الفتوح المظفّرة في المشرق والمغرب ، ويستمر في إرسال المتطوّعين لرفد ساحات الجهاد المباركة ، ويصعّد من عملية التعبئة والحشد كلّما ارتفعت نبرة التحدّي للأمة ، فيسمح لمن حسن إسلامه من المرتدين بالمشاركة في شرف الجهاد ، ويأمر بجمع ما تفرّق من قبائل العرب ليشكّل منها وحدات حربية مقاتلة تدعم حركة الفتوح ، وتعزّز ساحات الجهاد …
وفجأةً ، يجد الفاروق ( رض ) نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحباه من قبل.
إنه موقف التحدّي الخطير للأمة ، والتهديد الجدّي لها ، وذلك أن الفرس بعد أن ذاقوا الهزائم المتكرّرة على أيدي الفاتحين العرب ، حزبوا أمرهم ، واجتمع ملؤهم على تولية يزدجرد من ولد شهريار أمور دولتهم ، ودانوا له بالولاء ، وتباروا جميعاً في طاعته ، فبدأ هذا الأخير بحشد طاقات الامبراطورية المهزومة ، وأرسل إلى أطراف فارس يستنفرها ، فاجتمع له من الحشود ما لم يجتمع لغيره ، ولكنَّ عيون المثنّى ( رض) ، القائد الميداني المبدع للعرب ، وابن العراق البار ، كانت ترقب كل تلك التطورات ، وترسل بها إلى الفاروق ( رض ) أولاً بأول ..
وينتخي الفاروق ( رض ) كما هي عادة العربي دوماً ، ويقبل التحدّي المفروض عليه، ويكتب إلى المثنّى ( رض ) يقول :
( أما بعدُ …فاخرجوا من بين ظهراني العجم ، وتنحّوا إلى البَرّ ، وتفرّقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرض العرب ، وادعُ للجهاد من يليك من قبائل العرب ، ولا تدَعوا أحداً من ربيعة ولا مضر ولا حلفائهم من أهل النجدات ، ولا فارساً إلا اجتلبتموه ، فإن جاء طائعاً ، وإلا حشرتموه ، احملوا العرب على الجدّ إذا جدَّ العجم ، فلتلقوا جدّهم بجدّكم ، وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري ).
يا للعبرة الباهرة ، ويا للروعة الساحرة ، ويا لألق التاريخ .!!!
أية عزّة ، وأية نخوة ، وأية رجولة ، وأية شجاعة ، وأية حكمة ، وأية براعة ، وأية مدرسة حربيّة تلك التي تخرّج منها الفاروق ( رض ) ، حتى يصدر عنه مثل هذا البيان العسكري الساحر .!!!؟
إنه يتّخذ خطوته الأولى العاجلة التي لا بدّ منها ، فيخرج جنوده من أعماق العجم ليؤمّن حمايتهم ، لأن روح وجوهر حرب القلّة ضد الكثرة ، هي تحطيم العدو ، وعدم التشبّث بالأرض المحرّرة ...!!!
ثم يقسم بالله فيقول : ( والله ، لأضربنَّ ملوك العجم بملوكِ العرب ) .!!!
ثم يكتب إلى عماله في أرجاء الدولة الإسلاميّة بالمرسوم الجمهوري الذي يتناسب مع درجة التحدّي ، والذي يعلن النفير العام ، فيقول:
( ولا تدَعوا أحداً له سلاحٌ أو فرسٌ أو نجدةٌ أو رأيٌ ، إلا انتخبتموه ، ثمّ وجّهتموه إليَّ ، والعجَلَ .. العجَلْ ) الطبري (4/87).
وهكذا ، فلم يدع الفاروقُ ( رض ) رئيساً ولا فارساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف أو سطوة ، ولا خطيباً ولا شاعراً ، إلا رماهم به …
فرماهم بوجوه الناس وغرر العرب …!!!