مصر وإيران واللعب بالنار
شريف عبد العزيز الزهيري
يعتقد الكثيرون أن السياسة لا دين لها، فهي قائمة على تبادل المنافع والمصالح في ضوء الممكن والمتاح، وأن السياسة ومنطق الدولة والسلطة القائمة والظروف الإقليمية المحيطة بها أقوى من أي أيديولوجية وخلافات مذهبية، ولكن التاريخ والوقائع يكذبان ذلك في مواطن كثيرة، ورصيد الخبرة من تجارب الأمم وممارساتها السياسية تضع دائمًا الأيديولوجية والمذهب في المرتبة الأولى عند اتخاذ القرارات ووضع السياسات، ففي حرب العراق وإيران في ثمانينيات القرن المنصرم، دخلت سوريا بقيادة حافظ الأسد على خط المواجهة ضد العراق، واصطفت عسكريًّا وسياسيًّا مع الجانب الإيراني، على الرغم من أن الذي يجمع سوريا بالعراق سياسيًّا البعثية والقومية العربية، أكبر مما يجمعها مع إيران أيديولوجيًّا ومذهبيًّا؛ (التشيع)، ومع ذلك انتصر المذهب والأيديولوجية على السياسية والقومية وقت الأزمات وعند التعارض، وألقى حافظ الأسد بالعروبة والبعثية في سلة المهملات في سبيل الدفاع عن إخوة المذهب والعقيدة.
منذ نجاح الثورة المصرية في الإطاحة بأعتى الديكتاتوريات في المنطقة، وثمة تغيرات ملموسة قد طرأت على السياسة الخارجية، وكان لتولي نبيل العربي منصب وزير الخارجية في أول تشكيلة وزارية بعد الثورة دور هام في تطوير دور مصر الخارجي، وكان لتصريحه الشهير في مايو سنة 2011 عن ضرورة التواصل المصري الإيراني على اعتبار أنهما أكبر دولتين إقليميتين، أثر ظاهر في تحريك المياه الراكدة بين البلدين طيلة فترة حكم المخلوع مبارك، ثم كانت الخطوة الثانية ممثلة في الزيارة الشهيرة للرئيس مرسي لطهران في أغسطس سنة 2012 وترضيته الشهيرة على الصحابة رضوان الله عليهم بعقر دار الشيعة الرافضة، وأخيرًا زيارة نجاد الأخيرة في فبراير سنة 2013 ، وكل هذه الزيارات المتبادلة كانت في إطار الدبلوماسية الدولية وحضور مؤتمرات القمة الإسلامية.
ولكن بعد زيارة نجاد الأخيرة بدت أن خطوات التقارب بين مصر وإيران قد أخذت منحنى جديدًا وخطيرًا في نفس الوقت، فمصر بدأت تستجيب للغزل الإيراني، وذهبت لما هو أبعد من ذلك بإيفاد البعثات الرسمية من أجل توثيق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والشعبية أيضًا، وذلك في لعبة سياسية خطرة من الجانب المصري الذي يغامر بهذه الخطوات الجريئة في التطبيع مع الجانب الإيراني مغامرة يراها من جانبه محسوبة العواقب، ومحدودة المخاطر، في حين يراها الكثيرون لعبًا بالنار ومجازفة كبيرة بإدخال العقائد والثوابت في لعبة المصالح والضغوط السياسية.
فلماذا أقدم الجانب المصري على هذه المغامرة الخطرة؟ وما دوافعه ومبرراته؟
الجانب المصري أقدم على هذه العلاقة السياسية الخطرة، من باب (مجبر أخوك لا بطل)، فبالنظر لسياق الأحداث الجارية في مصر بعد الثورة، نجد العديد من الدوافع الداخلية والخارجية التي قادته للإقدام على مثل الخطوة الجريئة منها:
الدافع الأول: رغبة الجانب المصري في إعادة تشكيل دوره الإقليمي في المنطقة بالصورة التي تتماشى مع طموحات القيادة الجديدة، والتي ترغب في لعب دور أكثر استقلالية وتأثيرًا في المنطقة، بصورة تمكنها من التحرر لو مرحليًّا من النفوذ الأمريكي و"الإسرائيلي" في المنطقة، فمصر دولة مركزية كبرى ولكن دورها تقزَّم في عهد المخلوع مبارك، وتناهى عند دور الحارس الأمين للمصالح الأمريكية و"الإسرائيلية" في المنطقة، وحماية البوابة الغربية للكيان الصهيوني الغاصب، ومن ثم كان التواصل مع الجانب الإيراني المتشوق لاستعادة علاقاته مع مصر لأسباب سياسية وإستراتيجية كثيرة.
الدافع الثاني: تدهور الاقتصاد المصري بصورة متسارعة بسبب الضغوط الداخلية والخارجية الكثيرة، والتركة الثقيلة للنظام البائد والتي تمثلت في ديون داخلية وخارجية بلغت أكثر من ألف مليار دولار،وانهيار شامل في كافة مرافق الدولة، وسقف طموحات شعبية متنامي بعد الثورة، أصبح معه الأساس الاقتصادي الذي بنى عليه الإخوان مشروعهم السياسي (مشروع النهضة) في خبر كان، وفي المقابل رفعت الدول المانحة يدها عن مساعدة مصر بعد الثورة، ومن ثم كان لحزمة العروض المالية والاقتصادية التي قدمتها إيران دور كبير في الاستجابة للغزل الإيراني.
الدافع الثالث: وهو الأهم، مواجهة الضغوط الإقليمية المتنامية من دول الخليج خاصة من الإمارات والكويت ضد النظام الحاكم الجديد في مصر، فهذه الدول قد أبدت مخاوف متزايدة من وصول الإخوان إلى الحكم في مصر وتونس والمغرب وليبيا واقتراب وصولهم في دول أخرى مثل سوريا، خاصة وأن للإخوان وجودًا لافتًا في هذه الدول، وأكبر جالية مصرية خارجية توجد في هذه الدول، وقد كشف التصويت الانتخابي ولاء غالبية هذه للتيار الإسلامي، فخشيت هذه الأنظمة الوراثية على عروشها وسيادتها من تهديد الثورات العربية العامة والمصرية خاصة، وانتقال حمى هذه الثورات إلى بلاد لا تعرف أمثال هذه الممارسات السياسية، هذه الأنظمة اتخذت موقفًا عدائيًّا ضد الثورة المصرية حتى من قبل وصول الإخوان، وزاد بشدة بعد الانتخابات الرئاسية، فقطعت هذه الدول ملياراتها السنوية المعتادة التي كانت تدعم بها نظام مبارك بإيعاذ من أمريكا صاحبة النفوذ الأكبر في المنطقة، وتمادت دويلة الإمارات تحديدًا في عدائها للنظام الجديد، حيث لم تكتف بقطع المساعدات فقط، بل أصبحت ملاذًا آمنًا لكل أعداء الثورة مثل أحمد شفيق وعمر سليمان قبل هلاكه، ثم شنت حملات إعلامية عنيفة ضد الإخوان، وتبعتها بحملات ملاحقة للمصريين العاملين بأراضيها، واتهام البعض بالتآمر على نظام الحكم، وأخيرًا دخلت على خط المواجهة ضد المشاريع المصرية الطموحة نحو تطوير قناة السويس، وبدا للعيان أن العديد من دول الخليج ترغب وتعمل من أجل إفشال الثورة المصرية وإسقاط الإخوان.
الدافع الرابع: وهو ما يجادل البعض في جدواه من الأساس، وهو حل مشاكل أهل السنة في إيران، والمشكلة السورية، حيث ترى القيادة المصرية أنه لابد من التواصل مع الداعم الرئيس للنظام السوري، من أجل إنهاء الأزمة السورية.
كل هذه الأمور جعلت النظام المصري الجديد يبحث عن شراكة سياسية وإستراتيجية بعيدًا عن دول الخليج القلقة من تداعيات الثورة على بلادها، ولا يوجد من وجهة نظر الساسة الجدد في مصر أنسب من إيران العدو التقليدي لدول الخليج عامة، وللإمارات خاصة، للتخلص من هذه الضغوط الإقليمية، وهذه النقطة تحديدًا هي التي دفعت العديد من المثقفين والمفكرين في الخليج للفت نظر الأنظمة الخليجية لخطورة ترك مصر الجديدة لقمة سائغة لإيران، ويجب أن تعمل هذه الأنظمة على احتواء أزمتها مع مصر، والأخذ بيدها من كبوتها الاقتصادية؛ لأن البديل في غاية الخطورة.
أما عن مخاطر هذه العلاقة الجريئة، فالنظام المصري الجديد يراهن على أنه لا خطورة حقيقية على عقيدة المصريين من التقارب مع إيران، فالشعب المصري ومؤسساته الدينية مثل الأزهر والجماعات الإسلامية بشتى أطيافها، كل هؤلاء يرفضون التطبيع مع إيران، ويرونه خطيئة كبرى، ويرون في إيران عدوًّا لا تقل خطورته عن "إسرائيل" وأمريكا، كما أن النظام المصري نفسه لم يصرِّح للشيعة المصريين بإنشاء أحزاب، والأكثر من ذلك لم يقر بوجود الشيعة أصلاً في الدستور، ولم يشر إليهم من قريب أو بعيد، وشيخ الأزهر ووزير الأوقاف أعلنا صراحة موقفهم الرافض للنشر التشيع في مصر، لذلك فالنظام المصري يرى أنه لا خوف من التطبيع مع إيران.
ولكن الحقيقة الأكثر وضوحًا من كل هذه الحسابات السياسية الضيقة، أن إيران لها أطماع واسعة في مصر، وأنها ستفيد من تطبيعها مع مصر أضعاف ما ستفيده مصر، ففضلاً عن حلمها التاريخي القديم عن استعادة ملك الدولة الفاطمية في مصر، فإيران ستحقق عدة أهداف سياسية وإستراتيجية بتطبيعها مع مصر، من أبرزها تهديد أمن الخليج، وذلك بالضغط على السعودية العدو التقليدي والتاريخي لإيران، والضغط على الإمارات والبحرين، منها فك الحلف المصري التركي الوليد، والذي كان سيضغط بقوة على الحلف السوري الإيراني، ومنها مواجهة الضغوط الأمريكية و"الإسرائيلية" المتزايدة ضد المشروع النووي الإيراني، خاصة بعد التسريبات التي تفيد بأن عام 2013 سيكون عام الحسم لهذا المشروع، والخطط الأمريكية الجاهزة عن ضرب هذا المشروع، ومنها أن الوجود الإيراني في منطقة جغرافية حساسة مثل مصر، سيمكنها من نشر جواسيسها في المنطقة بأسرها، والعبث بأمنها.
لذلك ليس من المبالغة القول: إن التقارب المصري الإيراني هو لعب كبير بالنار، وأن السياسة المصرية مهما كانت محنكة فلن تستطيع أن تحتوي المكر الإيراني، والأيديولوجية الإيرانية التي تجعل من نشر مبادئ الثورة الإيرانية والتشيع من أهم أساسيات السياسة الخارجية.