التذكر مقدمة للسلوك الإنساني الراقي
العمليات العقلية في القرآن الكريم
د. عبد الرحمن الحطيبات
مشرف اللغة العربية
مدارس الجامعة الملك فهد للبترول – الظهران
يهدف هذا المقال إلى بيان أهمية لغة الجسد لكل من المعلم والطبيب والمحقق فما مفهوم لغة الجسد
يعد التذكر إحدى العمليات العقلية وهو مقدمة للعمليات العقلية التالية له ولا يستغنى عنه التذكر يعمل لجلب معرفة قديمة, ذهل عنها أو غشيتها الغفلة والنسيان, وكما أن القرآن دعا إلى التذكر فقد أكد إعمال العقل فيه, ويتضح ذلك جلياً من خلال الآيات التي تحدثت عن التذكر, ومنها قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ "الذاريات:55", وذلك لأن القلوب تغفل, والإنسان بطبيعته ينسى, ومنها قوله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ " ق:45", وقوله تعالى: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ " ق:8", وقوله تعالى في تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ " هود:120". وقوله تعالى في التفريق بين أهل العلم وغيرهم: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ " الزمر:9".
وذَكَرْتُ الشيء بعد النسيان وذَكْرتُه بلساني وبقلبي وتَذَكَّرْتُه وأَذْكَرْتُه غيري وذَكَّرْتُه بمعنًى. قال الله تعالى: وادَّكَرَ بعد أُمَّةٍ؛ أَي ذَكَرَ بعد نِسْيان، وأَصله اذْتَكَرَ فَأُدغم. والتذكر هو عملية اكتساب المعلومات وتخزينها ثم استدعائها عند الحاجة إليها, ويمر التذكر بمراحل منها الترميز ويعني تنظيم وتصنيف المعلومات بشكل يساعد على تخزينها ومن ثم تذكرها , وقد يكون الترميزعن طريق تحويل المدخلات إلى صور ذهنية , ومعاني, و التخزين. ويشمل الاستدعاء الاسترجاع : ويعنى باستعادة ما هو غير ماثل أمام الذهن, و التعرف ويقصد به الشعور بأن ما نشاهده في لحظة ما قد مر في خبراتنا.
ومن العوامل المساعدة على التذكر : التكرار, والتنظيم والتحزيم , و توزيع التعلم على فترات , و تنمية الميل لموضوع التعلم , و تقوية الدافع للتعلم , والتنغيم الصوتي, و التهيؤ العقلي ومن وهذه الجوانب التي تعين على التذكر في كتاب الله وتسهل حفظه على صغار السن وكبارهم
ومن أنواع الذاكرة أ - الذاكرة قصيرة المدى :وفي هذه الذاكرة لا يزيد الاحتفاظ بالمعلومات عن عشرين ثانية ويحدث فيها نوع من الترميز يطلق عليه الترميز السمعي أو البصري , وسعة هذه الذاكرة سبع وحدات غير مترابطة ، لكن إذا وجدت روابط بين الوحدات المدخلة فيمكن زيادة سعتها .
ب - الذاكرة طويلة المدى : وفيها يتم الاحتفاظ بالمعلومات لفترات طويلة (أيام سنوات –مدى الحياة ), والترميز المستخدم فيها هو في الأغلب ذو معنى ودلالة ، وغالبا ما يتم ذلك عن طريق ربط الخبرات الجديدة بخبرات سابقة موجودة في المخ
والتذكّر من مقدّمات العمليات العقلية الموصلة إلى الله عز وجل.
وقد ارتبط ذكر التذكر بالتفكّر في كتاب الله عز وجل وقد قيل: إنّ التذكر فوق التفكّر; لأنّ التفكّر يكون عند احتجاب القلب بصفات النفس، فيلتمس الإنسان البصيرة المطلوبة، والتذكّر يكون عند رفع الأغطية والحجب التي تغلف القلوب والأسماع والأبصار الضعيفة ، ورفع هذه الأغشية عن الإنسان ، والرجوع به إلى الفطرة الأُولى التي فطره الله عليها ، فيتذكّر ما انطبع فيها في الأزل من التوحيد والمعارف بعد النسيان بسبب التلبّس بما في هذه الحياة الدنيا من صفات قد تطغى على الإنسان، وقد يكون التذكّر للمعاني التي حصلت بالتفكّر بعد نسيانها.
وعلى أيّة حال، فالتفكّر والتذكّر أمران متفاعلان، وأحدهما يدعو إلى الآخر، فإنّ التفكّر يورث التذكّر لما نسيه؛ بسبب أغشية النفس، كما أنّ التذكّر يورث الانتباه، ومن ثمّ يدعو إلى مزيد من التفكير.
جاءت الآيات القرآنية تدعو الإنسان تذكر المتعلقات وأسبابها. بالنظر إلى السموات وتذكر الله . و ينظر إلى الشمس والقمر يتذكر قدرة الله. ينظر إلى الإبل ...والسماء....و الجبال ... والبحار .... والأرض يتذكر عظمة الله.
وإذا نظر إلى البراكين والزلزال تذكر غضب الله , ,إذا نظر إلى مصارع الظالمين ..تذكر غضب عليهم ورحمة الله به
ومن الأمور التي تعين على التذكر تلك الصور الحسية الزاخرة في كتاب الله وفيها تشبيه المحسوس بالمحسوس:
ومن ذلك: قوله تعالى:) وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ( فقد صور القرآن الكفار بأنهم يأكلون ويتمتعون غافلين عن الجزاء الذي بنتظرهم، كما تأكل وتمرح غافلة عن سكين الذبَاح.
وفي قوله تعالى:) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ* إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ* تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ( فقد شبه القرآن عاداً قوم هود-عليه السلام- حين كانت الريح تقتلع رؤوسهم فتجعلهم بلا رؤوس وكانوا ذوي أجسام عظام – بأعجاز النخل المقتلع من مغارسه.
وقوله تعالى:) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ( فقد شبه جيش أبرهة وهم أصحاب الفيل وقد سلط عليهم الأبابيل وهي ترميهم بحجارة من سجّيل شبههم بالعصف المأكول وهو قشر البُّر بعد نزع الحب منه أو التبن المهشم والمدروس والمهمل. ومنهم من قال مثل التبن الذي أكلته البهائم وراثته. و تشبيه المعقول بالمعقول وهي المعاني الكلية التي تدرك بالعقل، كتشبيه العلم بالحياة، والجهل بالموت والمرض بالهلاك، والفقر بالكفر.
ومثاله ) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً( وهنا شبه قسوة قلوب الكفار بقسوة الحجارة.
وكذلك القلوب بالحجارة فيكون حسي بحسي من وجه آخر وإن كانت القسوة هي المقصود الأول في الآية. وتشبيه المعقول بالمحسوس ومن ذلك: قوله تعالى:) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ( يشبه الله عباد الوثن حينما يدعون إلههم ولا يرجع هذا الدعاء عليهم بفائدة، بمن ببسط كفيه للماء ليشرب فلا يصل الماء إلى فمه ما دامت كفاه مبسوطتان.
وقوله تعالى:) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ( يصور القرآن حال الكفار الذين يدعون أوثانهم فلا تفهم ولا تجيب بحال الناعق الذي يصوت للأغنام فلا تفهم منه إلا ردى الصوت.
وقوله تعالى:)وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ( يصور القرآن ضياع أعمال الكفار بحيث لا يملكون لها رداً بصورة الهباء المنثور
قال الله تعالى: )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَ يَات لاُِوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِل مِّنكُم مِّن ذَكَر أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ(.
ويُرشِد ربُّنا الإنسانَ إلى تذكُّر بدايته ونهايته وما بين ذلك من تقلُّب أحواله وتدبير الله له كما يريد ربُّه وأنه لا يملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلا ما أعطاه الله ليخضَع هذا الإنسان لعبودية الله وشرعه مختارًا؛ إذ لا سعادة للإنسان إلا بذلِّ العبودية والمحبة لله - عز وجل -، قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [الواقعة: 62]
وقال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37]، وقال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف: 188].
ويُرشِدُّ الربُّ تعالى إلى تذكُّر تقلُّب الليل والنهار، وتذكُّر الحِكَم والمنافع والغايات التي خُلِق لها كلُّ مخلوقٍ، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62]، وقال تعالى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 13].
وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم: 5].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أيام الله: نِعَمُه"، وقال مُقاتل: "أيام الله: نِقمَتُه من أهل الكفر والمعاصي"، وكلٌّ مرادٌ للآية، فالتذكير بنِعَم الله يُورِثُ الحياءَ من المُنعِم، ويحُثُّه على مُقابلَة النِّعَم بالطاعة والشكر، والتذكيرُ بعقوبات الله لمن حاربَ دينَه يزجُرُ عن الوقوع في الذنوب والمعاصي، ويمنعُ من اتباع سبيل الهالكين، قال الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19].
وقد أمرنا الله - عز وجل - أن نتذكَّر نعَمه علينا وعلى الناس، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3]، وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة: 231]، وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة: 7].
وأعظم النِّعَم: نعمة القرآن الكريم الذي جمع الخيرَ كلَّه وأمرَ به، وبيَّن الشرَّ كلَّه ونهَى عنه، فهو أعظم واعِظ ومُذكِّر، قال الله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27]، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [الإسراء: 41]، وقال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45].
وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستكون فتن»، قلتُ: ما المخرجُ منها يا رسول الله؟ قال: «كتابُ الله؛ فيه نبأُ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدَكم، وحكم ما بينكم، هو الفصلُ ليس بالهَزل، من حكمَ به عدَل، ومن عمِلَ به أُجِر، ومن ترَكه من جبَّارٍ قصَمَه الله، ومن ابتَغَى الهدى من غيره أضلَّه الله، لا يخْلَقُ عن كثرة الرد، ولا تزيغُ به الأهواء، ولا تشبعُ منه العلماء»؛ رواه الترمذي.
[الأنفال: 25]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف: 201، 202].
والأمر بالتذكّر وارد في كثير من آيات القرآن الكريم منها : قوله تعالى: ﴿... أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ...﴾، ﴿...مَا لَكُم مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيْع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون﴾، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
والمتأمل لكتاب الله عز وجل يجد أن من بين ما عهد إلينا في عالم الذر، المنطبع في الفطرة سواءٌ فرضنا عالم الذرّ نفس عالم الفطرة، أو عالماً أسبق, به تكوّنت الفطرة الطاهرة، فإنّ أغشية النفس أذهلتنا عن ذلك ولا نذكرها، ولكنّنا نستطيع أن نتذكّرها بمعنى: الرجوع إلى الفطرة واستكشاف ما فيها والعودة للحق ، فقوله تعالى مثلاً: ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ) يعني: أنّ المقدار الذي تفضّل الله به علينا من العمر كاف لنجد ما يكمن في فطرتنا من التوحيد الخالص لله عز وجل.
وقد رُتِّبَ التذكّر في القرآن تارة على الإنابة، وأُخرى على اللب، قال الله تعالى: ( وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ)، وقوله تعالى: { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ}.
أمّا التفكّر فله أقسام كثيرة، منها ما يكون تفكّراً في آيات الله كما أشارت إليه الآيات في قوله تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَات لأولي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) وهذا تفكّر يعرف الإنسان بالله بإدراك عظمته وأسراره في خلقه، وقود هذا التفكر إلى التذكير بالوظائف الأساسية للإنسان وضرورة طاعة الله عز وجل, والإيمان الخالص بالله وبكتبه وبرسله وملائكته .. والهرب من العذاب; ولهذا أعقبه الله ـ سبحانه ـ بقوله: ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ)
ويكون التفكّر في نعم الله وآلائه، و في كتاب الله و في المناجاة والدعاء والصلاة، كما قال رسول الله فيما ورد في وصاياه لأبي ذرّ: (...يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه)
ومن صور التفكر التي يدعونا إليها الله تعالي في كتابه التفكر في النفس وحالاتها ومهالكها وأساليب علاجها ونجاتها).
وعن ابن عمر قال: (قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله ؟ فبكت وأطالت، ثُمّ قالت: كلُّ أمره عجب، أتاني في ليلتي، فدخل في لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي، ثُمّ قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربّي؟ فقلت: يا رسول الله إنّي لأُحبّ قربك، وأُحبّ مرادك، قد أذنت لكَ، فقام إلى قِرْبة من الماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثُمّ قام يصلّي، فقرأ من القرآن، وجعل يبكي، ثُمّ رفع يديه فجعل يبكي حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بِلال يؤذنه بصلاة الغداة، فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبكَ وما تأخّر؟! فقال: يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً، ثُمّ قال: مالي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة: " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..." ثُمّ قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها. وروي: ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل فيها)
هناك قسم من النسيان يكون سببه قوة فاعلة تخفى عن الإنسان تتحكم فيه عند ظروف معينة وهي : الفاعل الخفي وهو الله سبحانه وتعالى ودليله قول الله سبحانه وتعالى ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون ) لاحظ , أنساهم ... أنفسهم , أي الله هو الفاعل للنسيان وذلك لأسباب ومقدمات من الشخص الذي نسي الله وتجاوز على أوامره . وقوله تعالى (سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) ومعنى الآية عند المفسرين, أننا سنقرئك ولن تنسى أي سوف ندفع عنك النسيان إلا ما شاء الله, وبمعنى آخر أن حرف (لا) في لا تنسى أداة نفي وليست أداة نهي. إذاً يتبين أن الله يتكفل بتذكر الإنسان في أمر ما كما يُنسيه في أمور أخرى.
والفاعل الخفي
الآخر هو الشيطان اللعين ودليله قول الله سبحانه وتعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وقوله تعالى ( وإمّا يُنسينك الشيطان) . و قوله تعالى
(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ
وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ عَجَبًا ) . والمتأمل للآيات يلاحظ أن الشيطان أنسى فتى موسى ذكر الحوت.
وقوله تعالى (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ
الْخَاسِرُونَ) . وقوله تعالى (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا
اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) وعليه فكما أن الشيطان قادر على أن يصل إلى قلب الإنسان
الغافل اللاهي عن ذكر الله ويلقي فيه
الهواجس والمخاوف والشكوك والظنون كذلك قادر على أن يصل إلى جهاز الاستذكار؛
فيُنسيه ما يريد ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ )
قال تعالى (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) .والمتأمل للآية يجد أن موسى عليه السلام نسب النسيان إلى نفسه.
وفي قوله
تعالى ( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) نجد أن
النسيان منسوب لأنفسنا بعد التقسيم السابق يتضح معنى التذكر وهو مقدرة الإنسان
على السبر داخل أغوار النفس والوصول إلى المعلومة المحفوظة في جهاز الاستذكار هذا
في حالة الاستذكار الإرادي , أما في حالة الاستذكار اللاإرادي وهو حضور صورة أو
معلومة مختزنة لدى الإنسان لا إرادياً بسبب قرينة خارجية أو قرينة داخلية أو نتيجة
إلقاء من الفاعل الذي يخفى عليه والمشار إليه .
ونخلص إلى القول أن الله عز وجل أو الشيطان اللعين , أو النفس الفاعل الحقيقي
والخفي عن النسيان. لكن ما المقصود بالقرينة الداخلية والقرينة الخارجية ؟
القرينة
الداخلية: هي ما يدور في نفس المتلقي من مشاعر لها علاقة في الاستذكار, مثل
الصور والأحداث الماضية . وتشير كثير من آيات القرآن الكريم إلى هذا منها قوله
تعالى (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) , فقد ربط التذكر بأولي
الألباب
وهي أصحاب العقول والنهى التي تحمل تلك الأحاسيس والمشاعر, ومنها قوله تعالى
(وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ). وقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) تأمل الربط
بين التذكر والقلب, (إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم ). وهذا شيء ندركه لدى الإنسان
عندما يحب شخصا ما فإنه يستحضر صورة ذلك الشخص لهذا الإنسان المحب بشكل دائم ولا
إرادي , وكذا استحضار المؤمنين الدائم لله الخالق جل في علاه فهم يتذكرونه
ويخافونه ويشتاقون إلى لقائه, وحينما تتحرك المشاعر القلبية وينبسط القلب ... يرسل
أمواجه إلى الجوارح فتخشع وعينيه فتدمع ولسانه فيذكر الله ذكراً كثيراً خالصاً .
فالكونُ المُشاهَد آياتٌ منظورة فيها التذكُّر والعبرة لكل عبدٍ مُنيب، وقد أرشدنا الله تعالى إلى التذكُّر والاعتبار بما وقع للأمم الخالية من العقوبات المُدمِّرة المُهلِكة لتحذَر الأمة أعمالهم، قال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36، 37].
إن التذكُّر لما ينفع العبد في دنياه وأخراه، والعملَ بما يُوجِبُه التذكُّر النافع هو فلاحُ الإنسان وسعادته وفوزه في الدارين، قال الله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: 10]، ونسيان ما ينفع والإعراضُ عن التذكُّر هو الخسران والخيبة والشقاوة، قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]
وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22]، وقال تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ [الصافات: 13].
اقترن ربط عملية التذكُّر بأهل العقول الراجحة والفِطر المستقيمة المهتدين المتقين الذين يفعلون الحسن ويهجرون القبائح ، قال الله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: 269]، و قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 17، 18].
وارتبط ذكر التذكُّر بالمُنيبين التائبين الذين أحيا الله قلوبهم بالإيمان، وأصلح أعمالهم بالإخلاص واتباع السنة، قال الله تعالى: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر: 13]، وقال تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: 8].
كما وصف الله المتذكرين بأوصاف رائعة من الوفاء والبر والخشية والصبر والصلاة والصدقة والحلم والإحسان وهو أعلى درجات الإيمان قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 19 - 24]، فالمُتذكِّرون هم الذين قد سلَكوا سبيل النجاة والسعادة في الدنيا، واتَّصفوا بأحسن الصفات، وتطهَّروا من أعمال وأخلاق السيئات، فوعَدَهم الله بأرفع الدرجات في الجنات تكريماً لمن تذكَّر وتقدَّم في الخيرات ولم يتأخَّر عن فعل المكرمات .
وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124].
والتذكُّر مأمورٌ به العباد لتحقيق التوحيد لرب العالمين، ومعرفة دلائله، قال الله تعالى في دعوة الخليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى التوحيد: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 79- 82]؛ لأن التوحيد أساس الدين، وأصل الأعمال الصالحة؛ فإن صلُح وصحَّ صلُحَت الحياة، وإن فسَدَت العقيدة فسدَت الحياة.
وتذكُّر تدبير الله للعالم العلوي والسفلي ونفوذ مشيئة الله بالكون وتصريف المخلوقات ينفع المُتذكِّر في صلاح قلبه، واستقامة أحواله، وزكاة أعماله؛ فالربُّ - تبارك وتعالى - يُذكِّرُنا بانفراده واختصاصه بالتدبير للخلق، قال الله تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [يونس: 3]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2]، وقال تعالى: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29]، وقال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 44]، وقال تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 107].
فإذا تذكَّر الإنسان أن تدبير الكون كله وتصريفه بيد الله وحده لا شريك له، وأن المقادير نافذةٌ بمشية الرب وحده، كما قال - تبارك وتعالى -: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وتذكَّر أن الدنيا والآخرة لله وحده، كما قال تعالى: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم: 25]، إذا تذكَّر الإنسان هذا كلَّه تعلَّق قلبُه بالله وحده، واعتمد على ربه في كل أموره، وطلبَ مرضاته, وبذلك تحققت سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.