ما لنا غيرك يا الله
د. محمد كمال الشريف
(سبق نشره بالاسم المستعار: الدكتور محمد ناصح عبد الله)
بسم الله الرحمن الرحيم
أكملت الثورة على الظلم في سورية شهرها السابع، والحال كما يبدو ظاهرياً يراوح في مكانه، مظاهرات طيارة سريعة تهدف إلى تسجيل هدف في مرمى النظام، يقابلها عمليات قتل واعتقال وتعذيب حتى الموت، بل وتهديد بخطف النساء وانتهاك الأعراض من أجل بث الرعب في النفوس .. المجتمع الدولي مستمر في حربه الكلامية على النظام وفي فرض عقوبات لا تسمن ولا تغني من جوع، والثائرون في سورية يستجيرون بالحماية الدولية، حتى إذا يئسوا من البشر لجؤوا إلى رب البشر فكان هتافهم (ما لنا غيرك يا الله ). وفي نفس الوقت يتمرد بعض الجنود والضباط الصغار على الأوامر المعطاة لهم بقتل المتظاهرين، وينتهي التمرد بتصفية أكثرهم وفرار البعض وتشكيله كتائب تريد القيام بعمليات انتقام ضد الأمن والشبيحة. أمريكا وأوربا تحاولان استصدار قرار إدانة للنظام السوري وتهديد له من مجلس الأمن فتتبارى روسيا والصين في استخدام الفيتو ضد هذا القرار، وهذا يزيد النظام غروراً واستخفافاً بالذي يجري وإمعاناً في المكابرة ومحاولة القضاء على الثورة بدل الاعتراف بها والتحاور الجدي معها.
الذين قاموا بالثورة في سورية هم شباب قرروا العيش بكرامة أو الموت في سبيل الله، ولم يعد الخوف كافياً ليبقيهم خانعين خاضعين ومستسلمين للظلم والتهميش. هؤلاء الأبطال لديهم الكثير من النوايا الطيبة المخلصة لكن حنكتهم السياسية ما تزال أقل من همتهم وبطولتهم، وبخاصة أن النظام الذي حرَّم على الناس ممارسة السياسة في سورية منذ ثمانية وأربعين سنة، لم يسمح لنمو طبيعي للوعي السياسي في البلاد، وإن كان الشباب فاقوا كل التوقعات من حيث وعيهم واستبسالهم.
في هذا المناخ يبقى المجال مفتوحاً لمن يريد الاصطياد في الماء العكر، سواء من قبل النظام أو من قبل بعض القوى الدولية التي تريد اغتنام الفرصة لتحقيق أهدافها الخاصة في منطقتنا. النظام يخوف الطوائف غير السنية ويخوف العلمانيين في سورية من سقوطه ومجيء حكومة متطرفة على النمط الإيراني الذي يضيِّق على الحريات الشخصية والسياسية باسم الإسلام، كما يقوم النظام في نفس الوقت بمحاولة إشعال فتنة طائفية بين السنة والعلويين لعلها تكون طوق نجاة له، كما يحاول استفزاز الثائرين وجرهم إلى التورط في العنف وحمل السلاح كي تتغير قواعد اللعبة إلى لعبة هو ماهر فيها وقادر على المغالبة والانتصار. وبالمقابل تحاول أمريكا استغلال الظروف كي تخلق رأياً عاماً في سوريا مرحباً بتدخلها عسكرياً للإطاحة بالنظام والإتيان بنظام غيره، نظام نحن نحلم أن يكون نظاماً مخلصاً وأميناً على مصالح الأمة، وأمريكا تحلم أن يكون عميلاً لها ينفذ سياساتها ويحمي اسرائيل.
الحيرة والتخبط واضحان هذه الأيام في تناقض الأصوات المطالبة بحماية دولية للمتظاهرين والرافضة للتدخل العسكري إلىى الأصوات المطالبة بحمل السلاح لمواجهة نظام لا يفهم لغة أخرى غير لغة القوة، مع أصوات تؤكد على سلمية الثورة وبعدها عن الطائفية. في غمرة هذا التخبط وهذه الحيرة رفع المتظاهرون لافتات تطالب بتدخل أجنبي في بلادهم، أي بالعودة إلى عصر الاستعمار المباشر، وهم ما كانوا ليطالبوا بذلك لو علموا ما وراء الرغبة الأمريكية المعلنة في مناصرة الثورة السورية عسكرياً، ولو علموا أنهم في غنىً عنها وسينتصرون من دونها.
على الرغم من أن حرباً أهلية حصدت عشرات الألوف من الشهداء في ليبيا واستهلكت مليارات كثيرة من الدولارات واعطت امتيازات لأمريكا وفرنسا في نفط ليبيا إلا أن ترفُّع القوى الغربية عن احتلال ليبيا أو تقسيمها أوْهَم الكثيرين منا أن الدول الغربية يمكن أن تساعدنا دون أن تحتل أرضنا أو تقسم بلدنا. والحقيقة أنهم لا يهمهم من ليبيا إلا نفطها بينما سورية ذاتها مهمة لهم رغم فقرها في النفط وغيره من الثروات الطبيعية. الأرض السورية والأمة السورية هي ما تريد أمريكا أن تسيطر عليه لا النفط ولا غيره. لقد ضمنوا السيطرة على النفط الليبي لأجيال مقابل معونتهم للثوار الليبيين في القضاء على نظام القذافي، وهم ليسوا في حاجة إلى توسيخ أيديهم باحتلال مباشر لليبيا التي لا تهمهم صحراؤها الشاسعة إلا بما تحويه في باطنها من نفط. إن احتلال بلد شاسع مثل ليبيا والمحافظة عليه محتلاً سيكون أمراً مرهقاً ومكلفاً لهم ولن يعطيهم من المنافع أكثر مما أخذوه دون أن يتورطوا ويكسبوا سواد الوجه.
سوريا مختلفة عن ليبيا من حيث موقعها الاستراتيجي وصغر مساحتها وتشكيلتها الطائفية والعرقية وجوارها لإسرائيل. من يسيطر على سورية ويضع قواعده العسكرية فيها يسيطر على الشرق الأوسط بكامله، فهي تتوسط هذا الشرق الأوسط وتقع في القلب منه. منذ سنين طويلة والأمريكان يحلمون باحتلال سورية لكنهم كانوا خائفين من رفض السوريين لهم ومقاومتهم لاحتلالهم على اختلاف طوائفهم وأديانهم وأعراقهم .. لقد دخلت القوات الأمريكية إلى العراق واستقبلها بالترحاب ثلثا الشعب العراقي من أكراد وشيعة، ومع ذلك أرهقت المقاومة التي لم تكن متوقعة كل خططهم في العراق، وجعلت بقاءهم فيه مكلفاً جداً لهم. هذا لا يعني أنهم لم يحققوا شيئاً مما احتلوا العراق من أجله، فالعراق أصبح مقسماً إلى ثلاث دويلات تماماً كما كانت تحلم إسرائيل: دولة كردية، ودولة شيعية، ودولة سنية، وإن كانت شكلياً متحدة اتحاداً فيدرالياً ضعيفاً. ارجعوا إلى كتيب خنجر إسرائيل الذي نشره صحفي هندي في أوائل الستينات قبل هزيمة سبع وستين بعدة سنين لتروا ما تحلم به اسرائيل، من تقسيم لمنطقتنا إلى دويلات طائفية متناحرة تكون إسرائيل بينها بمثابة دولة عظمى متحكمة، ويكون في ذلك ضمان لبقائها وأمنها وازدهارها. لقد قرأت هذا الكتيب بعد هزيمتنا في حزيران سبعة وستين ربما بسنة أو أكثر، وكنت قبل حرب حزيران أراه معلقاً مع مجلات سوبرمان وميكي ماوس التي كان يبيعها رجل في حيينا ضمن ما يبيعه مما يرغب به الأولاد من حلوى وألعاب، وكان الكتيب تزينه فضلات الذباب من طول الزمن الذي عرض فيه دون أن يجد من يشتريه.. كنت أشتري مجلات سوبرمان وقصص الأطفال ولم تراودني فكرة شراء هذا الكتيب الذي كان على غلافه صورة خنجر يقطر دماً، وحتى عندما قرأته بعد ذلك كانت نسخة أعارني إياها مدرس فلسطيني متقاعد، وقد ذهلت بما وجدت فيه. كان فيه خطة إسرائيل لاحتلال الجولان والضفة الغربية وسيناء ثم إرجاعها مقابل السلام والتطبيع، وكان فيه خطة إسرائيل لتقسيم سورية ولبنان إلى دولة علوية تأخذ الساحل السوري وتضم حمص وحماة وطرابلس، ودولة مسيحية تأخذ ماتبقى من الساحل اللبناني، ودولة شيعية ودولة سنية في الداخل، ودولة درزية تمتد من جبل العرب حتى المناطق الدرزية في لبنان تكون بمثابة حاجز بشري وطبيعي بين اسرائيل وسورية، وكان فيه خطتهم لتقسيم العراق إلى دولة كردية وأخرى سنية وثالثة شيعية. ولكم أن تتخيلوا المنطقة لو نجحت إسرائيل في مخططها.
لقد حاولت اسرائيل تقسيم لبنان أولاً، وما كانت الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات والثمانينات إلا من أجل ذلك.. كانت أمريكا مؤيدة لإسرائيل في مسعاها، لكن فرنسا التي كان لبنان مستعمرة لها لم توافق على تقسيمه، وأوعزت إلى حافظ أسد أن يدخل لبنان ويحول دون تقسيمه. وهذا لاقى هوىً عند حافظ أسد ذي النزعة القومية الوحدوية، وكان دفاعه ضد تقسيم لبنان دفاعاً عن وحدة سوريا وتأجيلاً لأي مخطط لتقسيمها. ثم جاءت الفرصة المواتية لتنفيذ خطة تقسيم العراق والفوز بنفطه جائزة ، فقامت أمريكا بغزوه تعاونها بريطانيا وانضمت إليهما فرنسا التي عاندت في البداية، وكان معها حافظ أسد معانداً، حتى إذا تيقنت فرنسا أنها ستخرج من المولد بلا حمّص ما لم تشارك أمريكا في احتلال العراق، أقالت فرنسا وزير دفاعها وانضمت إلى الحلفاء ومعها سورية التي ضمنت لهم وقوف إيران على الحياد. لقد مهد الحظر الجوي الذي فرضته أمريكا على جنوب العراق وشماله منذ عام 1991 وحتى غزوهم العراق عام 2003 مهد لتقسيم العراق وكرس شعور العراقيين بالانقسام على أساس طائفي وقومي، لكنه أبداً لم يَحْمِ العراقيين من بطش صدام الذي ارتكب المذابح في البصرة عندما انتفضت، ولم يكن بحاجة إلى الطيران للقيام بذلك، وهو يواجه شعباً أعزل أو شبه أعزل. لقد كانت الحياة في العراق أيام صدام قاسية من حيث فقد العراقيين للحرية السياسية ووقوعهم ضحايا نزوات دكتاتور سفاح مثل صدام، لكن الأمور لم تتحسن كثيراً بعد احتلال أمريكا للعراق، فالذين قتلوا بعد الاحتلال أضعاف أضعاف من قتلهم صدام، وما تزال العراق تعيش حالة من الخوف والفقر وسوء الخدمات والفساد السياسي والإداري والفوضى على كافة الأصعدة، بما يجعل كثيرين يترحمون على أيام صدام ويرونها خيراً مما يعاني منه العراق الآن. لقد كان الهدف المعلن للغزو الأمريكي للعراق هو تحرير الشعب العراقي من دكتاتور مستبد ونقل العراقيين إلى نعيم الحكم الديمقراطي، وكان الهدف الحقيقي هو السيطرة على نفط العراق والخليج وتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات ضعيفة لا تشكل أي تهديد لإسرائيل، والواقع يرينا أن الأمريكان نجحوا في تحقيق أهدافهم غير المعلنة ولم يحقق الشعب العراقي الكثير من المكاسب، ولم تتحقق أحلامه في حياة حرة كريمة راغدة حتى الآن، رغم الأعداد التي لا تحصى من الضحايا، والدمار، والجراح الجسدية والنفسية التي أصابت العراقيين بسبب الغزو، وبسبب الحصار الاقتصادي الذي سبقه، وكان الادعاء أنهم فرضوه من أجل الشعب العراقي.
ما تزال إسرائيل ومن ورائها أمريكا تحلم بتقسيم سورية ولبنان. وبالنسبة لإسرائيل لا يبدو هنالك من هو خير من النظام السوري الحالي إلا أن تحتل أمريكا سورية وتقسمها وتضع فيها حكومات تابعة تنفذ سياساتهم وتحمي إسرائيل، لذا فإن إسرائيل لا تشجع على الإطاحة بالنظام الحالي إلا من خلال التدخل العسكري الأمريكي المباشر الذي يضمن أمنها ومصالحها وتحقيق حلمها في تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية ضعيفة متناحرة. وهذا يعني أن أغلب الساسة الأمريكيين سيكونون متحمسين لمثل هذا التدخل حتى لو كلف أمريكا المال الكثير رغم ما تمر به من صعوبات اقتصادية، هذا إن افترضنا أن أمريكا لن تجبر دول الخليج على دفع نفقات تدخلها في سورية بحجة أنه تدخل من أجل حماية الشعب السوري وتحريره. وهذا يفسر ضعف الدعم الأمريكي للثورة السورية وفتوره الذي يهدف إلى إعطاء النظام فرصة لقتل المزيد من السوريين، لا حباً في النظام وحرصاً عليه، بل ابتزازاً للشعب السوري بتركه فريسة بيد النظام، مما جعل بعض المتظاهرين السوريين يرفعون لافتات تطالب بالحظر الجوي والتدخل العسكري. إنهم يريدوننا أن نتألم حتى نصرخ ونستغيث بهم ونرضى بشروطهم لنجدتنا ومساعدتنا. وأمريكا لا تتصرف بمفردها في منطقتنا إذ عندها دول تابعة لها لا تقدر على مخالفتها تحيط بسورية وتمارس نفس الضغط على الثورة السورية، وذلك بالامتناع عن المساعدة مع التلويح بها كي يدفعنا اليأس إلى الالتجاء إليهم والقبول بشروطهم.
الأمريكان لا يهمهم أن يقتل منا الآلاف أو عشرات الآلاف ظلماً، فمجزرة تدمر في صيف عام 1980 لم تكن غائبة عنهم، والسوريون يومها وصلتهم أخبار دخول عناصر من سرايا الدفاع إلى مهاجع السجناء الإسلاميين في سجن تدمر وإطلاقهم النار عليهم وقتلهم لأكثر من ألف سجين، دون معرفة أسمائهم، ودون ثبوت أية تهمة عليهم. وما كان ذلك إلا انتقاماً لقيام شاب إسلامي كان في الحرس الخاص بحافظ أسد بإلقاء قنبلة يدوية عليه لقتله، لكن لسوء حظ السوريين أو ربما لحسنه، نجا حافظ أسد، وأمر في اليوم التالي بالانتقام من أكثر من ألف إسلامي لا دخل لهم بمحاولة اغتياله. المهم لم تكن مذبحة كهذه علم بها السوريون فور وقوعها، لتخفى على أمريكا وغيرها من الدول الغربية أو الدول المحيطة بسورية، ولم يكن صمت الجميع عليها نتيجة عدم علمهم بها، بل تجاهلوها لأن دماء السوريين لا قيمة لها عندهم، ولأن النظام وقتها كان يحارب الاتجاه الإسلامي، بعد نجاح الإسلاميين في إيران في ثورتهم عام 1979، وخشية أمريكا من نجاح الإسلاميين في دول المنطقة في ثورات مماثلة.
عندما تخدم الجريمة مصالحهم فإنهم يغضون الطرف عنها حتى لو كان ضحاياها عشرات الآلاف من الأبرياء، وهذا بالضبط ما حصل في حماة في شباط 1982 ، عندما أعلن مجموعة من الشباب الإسلامي فيها ربما لا يبلغون مئتي شاب، أعلنوا تمرداً مسلحاً، وكانوا مختبئين في الأحياء القديمة من مدينة حماة، حيث البيوت متلاصقة والحارات ضيقة ويسهل على الشباب الدخول إلى بيت ثم القفز على الأسطح للوصول إلى أماكن بعيدة يصعب القبض عليهم فيها، فكانت أوامر حافظ وبتنفيذ أخيه رفعت لها، بمحو الأحياء القديمة من حماة وتدميرها حتى على رؤوس أهلها، من أجل القضاء على ذلك التمرد الذي لم يكن مسلحاً بأكثر من البنادق والقنابل اليدوية ، ومن أجل إزالة أي مخبأ يمكن للمتمردين أن يختبئوا فيه، فكانت مذبحة حماة التي يقال أن ضحاياها كانوا بالآلاف أو ربما عشرات الآلاف.
لم تقع مذبحة حماة في غفلة من أمريكا وحلفائها في المنطقة، ولم تكن أرواح السوريين الأبرياء لها أية قيمة لديهم طالما كان إزهاقها فيه مصلحة لأمريكا وإسرائيل والأنظمة الحليفة لهما في المنطقة. واليوم لا يتباكى الأمريكان على شباب الثورة السورية الذين يقتلهم الأمن والشبيحة لمجرد أنهم هتفوا مطالبين بالحرية وإسقاط النظام، لا يتباكون حزناً ورحمة على قتلانا إنما هي الفرصة واتتهم لتوظيف هذه الجرائم التي يرتكبها النظام واستغلالها والاستفادة منها لتحقيق أحلامهم الاستعمارية وأحلام إسرائيل. ولا تظنوا أن روسيا والصين استخدمتا الفيتو في مجلس الأمن حباً في النظام وكرهاً بالثوار، إنما هي مصالحهم ودفاعهم عن أنفسهم حيث يشكل سقوط سورية في يد أمريكا تهديداً لهما، لذا أحبطتا مشروع القرار الأوربي الأمريكي في مجلس الأمن لأنه كان يمهد قانونياً وسياسياً لتدخل عسكري أمريكي في سورية، ولتحوُّل سورية إلى قاعدة أمريكية. في أيام الاتحاد السوفيتي كانت الإيديولوجية الاشتراكية تدفع روسيا والصين لمساعدة الدول التي تنادي بالاشتراكية ولو كلفهما ذلك الخسائر المالية، لكن الإيديولوجيا الاشتراكية لم تعد تحرك أحداً هذه الأيام.
أقول ذلك لأبين لشباب ثورتنا أن موقف روسيا والصين ليس موقفاً مؤيداً للنظام في سورية ضد شعبه من أجل عيون النظام، إنما هي مصلحتهم الاستراتيجية التي ترى النظام رغم جرائمه خيراً من احتلالٍ أمريكي لسورية، ومن تحولها إلى قاعدة للأمريكان. أي إنه لو ضمن الروس والصينيون أن الإطاحة بالنظام ستأتي بنظام آخر لا يسمح لأمريكا بالسيطرة على سورية أو احتلالها فإن موقفهم من ثورتنا سيتغير. تشرشل قال قديماً: ( ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون إنما لها مصلحة دائمة )، وهذا ينطبق على روسيا والصين وحتى على إيران، وعلى كل دول الأرض، إلا التي تحكمها أنظمة عميلة تقدم مصلحتها كأنظمة على مصلحة أممها، كما كان حال نظام مبارك على سبيل المثال. أنا لست منزعجاً من الفيتو الروسي والصيني رغم أنه يصب في مصلحة النظام، فرب ضارة نافعة كما تقول العرب، ولعل في هذا الفيتو إبعاداً لشبح الاحتلال الأمريكي عن بلادنا ريثما نتروى ونفكر بما علينا فعله للخروج منتصرين وبأقل الخسائر.
ويبقى السؤال هل من مخرج للثورة السورية من حالة المراوحة في مكانها التي تبدو عليها الآن دون تدخل عسكري أمريكي؟ وهل نحن مضطرون للاستعانة بالتدخل الأجنبي ثم تحميل النظام المسؤولية عن اضطرارنا هذا ووضع اللوم عليه؟ وهل ستختلف العواقب إن كنا نحن المسؤولين عن التدخل أو كان النظام هو من اضطرنا إليه؟
دعونا نتخيل الاحتمالات الممكنة ونتخيل عواقبها كي نختار أقلها ضرراً وأكثرها ربحاً لنا.
الاحتمال الأول هو أن تفرض أمريكا حظراً جوياً مشكوكاً بفائدته، وأن تفرض تركيا منطقة عازلة تكون ملاذاً للعسكريين المنشقين والمتطوعين لقتال النظام. ثم تقوم أمريكا وحلفاؤها العرب بتسليح هؤلاء وعندما يبلغون من القوة حداً معقولاً يشنون حرباً برية تغطيها حرب جوية أمريكية وأطلسية، تماماً كما حدث في ليبيا، والأمل أنه على المدى البعيد ستتم الإطاحة بالنظام.
لكن السؤال ما الثمن الذي ستدفعه سورية من أرواح أبنائها ومن دمار مقدراتها حتى نحقق ذلك الانتصار؟ وهل يومها ستكون الدولة السورية الجديدة دولة مستقلة استقلالاً حقيقياً بحيث تحمي مصالح السوريين ولا يكون دورها غير تنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة. لا تنخدعوا بالوضع الليبي فإن المهم في ليبيا هو نفطها وأسواقها الواعدة ومشاريع بناء البنية التحتية التي تنتظر الشركات الأمريكية والأوربية استلامها للاستفادة من الثروة الليبية في إقالة عثار اقتصادهم المأزوم. ما زلت أذكر اضطرار بلد عربي في التسعينات لإعطاء مشروع اتصالات كبير لشركة أمريكية تطلب أربعة مليارات دولار بينما شركة يابانية كانت مستعدة لتنفيذه بمليار وستمئة مليون دولار فقط. يومها تدخل بيل كلنتون شخصياً لإقناع هذه الدولة بإعطاء المشروع للأمريكان رغم الخسارة الرهيبة لهذه الدولة، وهي دولة مستقلة. ماذا سيكون الحال بعد أن يسقط النظام لنسقط نحن في قبضة الأمريكان؟ والله لن يرحمونا ولن يأتوا إلا من أجل مصالحهم وأطماعهم.
الاحتمال الثاني هو تحول الثورة إلى ثورة مسلحة تحركها الروح الدينية الاستشهادية، وبالتالي تتحول تلقائياً إلى ثورة طائفية سنية ضد علوية، وعندها ندخل في حرب أهلية ستكون مدمرة أكثر من الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر سنة وخرج الجميع منها خاسرين، وعندها سيتمكن النظام من تجييش جميع العلويين ومعهم الدروز والمسيحيين، لأنهم بالتأكيد لا يريدون أن يحكم سورية حكومة دينية على النمط الإيراني لا تعاملهم كمواطنين لهم جميع حقوق المواطنة بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وعندها ستطول الحرب وتكثر الضحايا وسينتصر النظام في النهاية، وسيكون ذلك على حساب وحدة الشعب السوري الذي سيكون لديه الأحقاد والرغبة في الثأر من بعضه بعضاً، وسيطول بقاء النظام إلى أمد لا يعلمه إلا الله.
الاحتمال الثالث أن تستمر الثورة بنفس الزخم أو أكثر منه، ويستمر النظام في ارتكاب جرائمه، مما يدفع الكثيرين من العسكريين للانشقاق بحيث يصبح الجيش السوري مهدداً بالتفكك الكامل، ويرافق ذلك صعوبات اقتصادية حتمية تؤثر على التجار والضباط الكبار الذين يدعمون النظام، بحيث يصبح النظام عبئاً عليهم، لا مصدر منفعة لهم كما كان من قبل، وهم حتى لو صبروا فإن لصبرهم حدود، وسيكون لا بد من انقلاب عسكري مدعوم من فرنسا بالذات ومن وراءها من الدول الغربية للإطاحة بالنظام ومجيء نظام جديد مع بقاء هؤلاء الضباط في مناصبهم. ولكن لماذا فرنسا بالذات؟ لأن فرنسا غير مستعدة لاحتلال سوريا عسكرياً، ولا تحب أن تسيطر أمريكا على سورية وتفقد فرنسا نفوذها ومصالحها فيها، لذا فرنسا التي تؤيد في العلن الموقف الأمريكي الداعي إلى التدخل العسكري في سورية، لا تتمناه في سرها، وتتمنى لو تنفرد هي بحل المشكلة السورية، لتبقى صاحبة النفوذ الأكبر في بلد استراتيجي مثل سورية. طبعاً لو تغلبت أمريكا ففرنسا ستكون شريكة لها، لأن ذلك خير لها من خروجها بلا مكاسب على الإطلاق. هم واقعيون ويتمنون أن تبقى سورية لهم، لكن لن يترددوا في الانضمام إلى أمريكا في أي تدخل عسكري في سورية حتى يضمنوا حداً أدنى من مصالحهم في سورية ولبنان وباقي المنطقة. لكن لو أصر الثوار السوريون على سلمية الثورة، وعلى الرفض التام لأي تدخل عسكري أجنبي، وبقي انشقاق العسكريين سلمياً، أي لم يتحولوا إلى مقاومة عسكرية للنظام تُدْخل البلد في ما يشبه الحرب الأهلية، فعندها سيزداد فتور أمريكا في دعم الثورة من أجل تركيعها، لكن فرنسا ستبقى مؤيدة لأي انقلاب عسكري يقوم به ضباط متعاونون معها ويضمنون لها بقاءها الدولة صاحبة النفوذ وذات الأفضلية عند السوريين.
لو صبرنا على تقديم الشهداء ولم نتورط في أي عنف، فإن المزيد من الشباب سينشقون عن الجيش ، ولا بأس أن ينشقوا بأسلحتهم الفردية، ولا بأس أن يقاوموا محاولات اعتقالهم وتصفيتهم ولو أدى ذلك لاستشهادهم دفاعاً عن أنفسهم، بشرط أن لا يقوموا بأية مهاجمة لا للأمن ولا للشبيحة، فالذي يموت دون نفسه فهو شهيد طالما أن النظام سيكون مصراً على قتل أي عسكري ينشق لإرهاب باقي العسكريين ممن تراودهم أنفسهم بالانشقاق، وهذا قتل ظالم لا يستحقونه ولا يمكن أن ندعوهم للاستسلام للنظام ليقتلهم بدم بارد ثم يسير في جنائزهم على أنهم شهداء قتلتهم العصابات المسلحة المزعومة. لكن قيامهم بالمبادرة والمهاجمة سيفقد الثورة طابعها السلمي، وسيكونون جناحاً عسكرياً للثورة، مما سيطيل عمر النظام ويزيد فرصه في الانتصار والقضاء على الثورة. على المنشقين الإعلان عن أن انشقاقهم كان لأنهم يرفضون قتل إخوانهم السوريين دون حق، لكنهم لن يمارسوا أي حرب مسلحة ضد أي فئة في بلادهم، حتى لو كانت الشبيحة سيئة الصيت. يجب أن لا يهاجم السوري سورياً آخر، أما أن يفر المنشقون بأسلحتهم ويعتزلوا النظام ويكفونه خيرهم وشرهم، ثم إن أصر على مهاجمتهم في مخابئهم لقتلهم، دافعوا عن أنفسهم وماتوا دفاعاً عن النفس، فلا بأس في ذلك، طالما أنهم لم يعتدوا على أحد، ولم يبادروا في الهجوم على أحد.
قد يبدو هذا الكلام مثالياً أو متخاذلاً لبعض المتحمسين الذين تدفعهم رغبتهم في الانتقام من النظام إلى الدعوة إلى التمرد المسلح على النظام. لكن صدقوني إن الضحايا إن بقيت ثورتنا سلمية ستكون أقل كثيراً مما لو تحولت إلى مسلحة، وسيكون انتصارها مؤكداً حتى لو كان على يد ضباط علويين وغير علويين هم الآن جزء من النظام.
قد يقول البعض إن من الضباط الذين يمكن أن يساهموا في الانقلاب المتوقع ضباط تلوثت أيديهم بدماء السوريين المسالمين خلال مرحلة القمع للثورة التي نمر بها حالياً، فكيف سنرضى أن يبقوا في مناصبهم بعد سقوط النظام وأن لا يحاكموا على جرائمهم؟ وأن لا يلاحقوا على كسبهم غير المشروع قبل أن ينقلبوا على النظام؟
نعم سنرضى، لأن المصلحة تقتضي ذلك.
لكن حق أهل الشهداء في التعويض من مال الدولة تعويضاً مجزياً لا يسقط، بل تدفع دية كل شهيد ويعوض كل مصاب التعويض المالي الكبير الذي يضمن للمصاب ولأولاده ولأولاد الشهيد وأهله حياة كريمة، إذ دية المقتول كانت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مئة ناقة، أي ثروة كبيرة جداً في حسابات ذلك الزمان، ولا بد أن تكون دية كل شهيد من شهداء الثورة ما يعتبر ثروة كبيرة في زماننا.
أما الذين استشهدوا فلن يعوضهم شيء إلا ثواب الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون ، ولن ينفعهم القصاص، إنما هو من أجل ذويهم ومنعاً لعمليات الثأر التي يقتل فيها البريء بجريرة قريبه، وسيسعدهم كثيراً أن لا تذهب دماؤهم هدراً بل تكون الثمن لتحرر الأمة والنهوض بأحوالها.
نعم المصلحة تقتضي أن لا يلاحق من ينقلب على النظام ويساهم في إسقاطه، لأن الإصرار على ملاحقته يجعله يستميت في الدفاع عن النظام، إذ يبقى لديه أمل أن ينتصر النظام ويكون بذلك نجاة له من الانتقام والملاحقة. لا تستغربوا هذا المنطق الذي يغلب المصلحة على العاطفة، فهو منطق قرآني نجده في مسألتين. الأولى حالة بغي فئة على فئة في مجتمع المسلمين بدافع سياسي، فقد أذن الله بقتال الفئة الباغية أي المتعدية حتى تفيء إلى أمر الله، أي حتى ترجع إلى الحق والعدل، فإن رجعت أو تم التغلب عليها، فإنها لا تعامل معاملة العدو المهزوم، فلا يقتل منهم الأسير، ولا يُجْهَز على الجريح، ولا يلاحق الهارب، ولا تصادر أموالهم ولا تُسبى نساؤهم، إنما هم بعد هزيمتهم مواطنون كغيرهم، لهم الأمان على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولا يلاحقون فيما سببوه من قتل أو جرح أو إتلاف مال. اقرؤوا ما جاء في سورة الحجرات حيث يقول تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }، واسألوا العلماء إن شئتم عن هذه الأحكام التي لا يعلمها كثير منا هذه الأيام.
ثم هنالك المجرمون الذين يمارسون القتل والسطو المسلح، فإن حكم الله فيهم إن وقعوا في قبضة الحكومة حكم قاس شديد، وهو أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو يُنْفَوْا من الأرض، وقد فسر البعض النفي بالسجن. لكن إن تابوا قبل أن يتم القبض عليهم سقطت عنهم العقوبة والملاحقة القضائية، قال تعالى في سورة المائدة : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }.
ويبقى السؤال: لِمَ أسقط الله العقوبة عنهم بمجرد أن تابوا وتوقفوا عن جرائمهم؟
إن في ذلك حكمة عظيمة، فالحكومات تعرف مدى صعوبة محاربة العصابات المسلحة وتعذر القضاء عليها، لذا ترك الله لهم باب التوبة والعودة إلى المواطنة الصالحة مفتوحاً، وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم مضطرين للاستمرار في نشاطهم الإجامي حتى يُقْتلوا أو يُؤْسَروا طالما أنهم سيلاحقون على جرائمهم التي تورطوا فيها في جميع الأحوال. هذا العفو الدنيوي لا يسقط عنهم الإثم والعقوبة في الآخرة، ولا يضيع حق من سُلب ماله أو عرضه أو أصيب بجرح أو قتل فرد من أسرته، بالتعويض المجزي والسخي، إنما يتم التعويض من مال الدولة، ويترك المسلحون الذين تابوا قبل أن يتم القبض عليهم دون ملاحقة حتى يتشجعوا على العودة إلى الحياة الشريفة ولا يتحولوا إلى أسرى لماضيهم ولجرائمهم التي ارتكبوها.
إن هذا العفو عن الذين ارتكبوا الجرائم بحق الأمة ثم قرروا التغيير من قبل أن يهزموا ويتم القبض عليهم ليس من أجلهم، بل هو من أجل المجتمع الذي يفقد الشعور بالأمان إن استمروا في جرائمهم ويصعب عليه هزيمتهم في أغلب الحالات إلا بعد ضحايا كثيرين .
رب العالمين يحرص على المصلحة العامة ويعطيها الأولوية على العواطف والرغبة في الثأر والانتقام. هذا بخصوص المجرمين فكيف بخصوص الذين يرتكبون جرائمهم بدافع سياسي ونحن لم ننتصر عليهم ونأسرهم إنما هم انقلبوا على النظام وأطاحوا به ليتحقق للثورة بعض الذي تكافح من أجله.
قد يقول البعض إن الثورة في غنىً عن هؤلاء وستستمر من دونهم ولا بد أن يسقط النظام في النهاية وتتم محاسبة هؤلاء على جرائمهم.
أولاً الواقع يقول إن نظاماً من أناس لا حياء عندهم ولا كرامة لن يتخلى عن السلطة ويعرض نفسه للملاحقة لمجرد أن الملايين خرجت إلى الشوارع تهتف مطالبة بسقوطه. إن رجلاً عنده كرامة مثل ديغول استقال واعتزل السياسة عندما طرح للاستفتاء مشروعاً فرفضه أكثر من نصف الشعب الفرنسي فاستقال ديغول، ولم يكن أحد يطالبه بالاستقالة، إنما كانوا يعارضون مشروعه، ولو بقي في منصبه لما ذمه أحد. لكن الأناس الذين نحن مبتلون بهم لا حياء عندهم ولا كرامة، ولن يأتي اليوم الذي يستجيبون فيه لهتاف الجاهير مهما علا ومهما زاد عدد المتظاهرين. نعم يجب أن لا نيأس وأن لا تتثبط هممنا، لكن علينا التفكير بواقعية، فالله لن يفرج عنا بمعجزة ولابملائكة تهبط من السماء لتطيح بالنظام استجابة لرغباتنا ودعائنا، إنما فرجه يكون من خلال أسباب وعوامل يبدو لي أن انقلاب بعض الضباط العلويين وغير العلويين على النظام الذي هم جزء منه الآن هي الوسيلة التي يمكن أن يفرج الله عنا بها دون أن نرهن مصير بلادنا بيد الأمريكان وغيرهم. لذا علينا أن نسعى في هذا الاتجاه، فهو اتجاه واقعي ومحتمل جداً وتستطيع الاحتجاجات السلمية للمدنيين والانشقاقات السلمية للعسكريين والدعم الدولي السياسي والإعلامي أن تقود إليه، فالهدف هو أن تنصلح أحوالنا ونتخلص من حكم المخابرات والأجهزة الأمنية المتسلطة على رقاب الناس وأموالهم، حتى لو لم يمكن القصاص والثأر للشهداء والمظلومين من قتلتهم وجلاديهم، المهم هو أن يتوقف القتل والظلم قبل أن يصيب الكثيرين ممن لم يصل إليهم حتى الآن، أي المهم هو إنقاذ ما تبقى، ولنترك العدالة للسماء، ولنتغلب على عواطفنا، ولنكن قادرين على العفو وتقبل الذين أساؤوا إن قرروا الانضمام إلى ثورتنا وتخليصنا من هذا النظام المجرم.
لن تنجح ثورتنا إلا إذا كانت ثورة جميع السوريين بما فيهم العلويون. يجب أن لا يقف استعمال النظام لآلاف من العلويين الذين غسل عقولهم وأقنعهم أن مؤامرة تجري ضده لأنه قومي وممانع، واستغل فقرهم واستخدمهم في قمع المتظاهرين، يجب أن لا يقف حائلاً بيننا وبين إخوتنا العلويين. فهذا هو ما يريده النظام لتبقى الطائفة العلوية أسيرة له ومرتبطة به، والقوة العسكرية والأمنية في سورية مركزة في أيدي ضباط منها، ولا أمل بتغيير من دونهم، إلا عن طريق الحرب الأهلية والغزو الخارجي. يجب أن تحرص الثورة على اجتذاب العلويين وباقي الطوائف والقوميات السورية وأن نتناسى الماضي من أجل مستقبل أفضل نشارك كلنا في بنائه العلوي منا وغير العلوي.
صدقوني ليس العلويون أقل فقراً من باقي السوريين ، إنما يلهيهم النظام بالشعور بالتسلط على الناس وخوف الناس منهم ليتخذهم جنوداً له، ليستمر في نهب خيرات البلد هو ومن معه من المنتفعين، ولتبقى الطائفة فقيرة وقليلة الثقافة بحيث يكون التطوع في الجيش والأمن مصدر الرزق الرئيسي لشبابها.
النظام لا يحترم العلويين ولا غيرهم ولا يحرص حرصاً حقيقياً لا على العلويين ولا على غيرهم، إنما هو نظام من أناس فاسدين يجمعون المال من حلال ومن حرام ولا يفكرون بأكثر من استمرارهم في السلطة ليدوم تمتعهم بالامتيازات التي أعطوها لأنفسهم، وما الطائفة العلوية إلا مطية لهم مسخرة لخدمتهم وحمايتهم، وهي بحاجة مثل باقي السوريين لتتحرر منه ولتشارك في بناء سورية بحيث تكون للجميع وتتكافيء فيها الفرص ويسود العدل ويتقدم الأصلح. العلويون بشر مثلنا، عندهم ضمائر مثلنا، ولهم آمال ومخاوف مثلنا، وهم شركاؤنا في هذا الوطن، ولا يمكننا المسير من دونهم، وبخاصة بعد أن تركزت القوة العسكرية والأمنية بأيديهم.
ثم علينا كسب الطوائف الأخرى للثورة من خلال تطمينهم أن ثورتنا لا تسعى إلى حكم ديني يتحكم فيه علماء الدين بالناس، إنما نريد حكماً مدنياً لا يعادي الأديان ويستطيع في ظله العسكري أن يؤدي صلاته علانية دون أن يقع تحت المراقبة والتحقيق، حكم يشجع على مكارم الأخلاق ويحترم شرائع كل طائفة أو دين في الأحوال الشخصية، حكم يطلق الحريات ويسمح للجميع بالمشاركة في صياغة سياسة البلد بالوسائل الديمقراطية، ولا يسمح باضطهاد أي فئة من السوريين بسبب دينها أو قوميتها أو غير ذلك.حكم يتساوى أمامه جميع السوريين فيكون لهم الحقوق ذاتها وعليهم الواجبات نفسها لمجرد أنهم سوريون بغض النظر عن مناطقهم أو مذاهبهم أو أديانهم أو لغاتهم أو قومياتهم. السوريون عائلة كبيرة واحدة تتعاون من أجل حياة كريمة لهم ولأجيالهم القادمة.
حتى تنجح ثورتنا لا بد لها من الحرص على لاءاتها الثلاث: لا للعنف بجميع أشكاله، ولا للطائفية والحرب الأهلية، ولا للتدخل العسكري الأجنبي، فإن بقاء النظام على علاته أرحم للسوريين من أي من هذه الخيارات الثلاث، وكما يقول فقهاء الإسلام: الشر خيار، أي العاقل يختار أهون الشرين ولا يزيل المنكر بمنكر أكبر منه. وإن الاستمرار في ثورة سلمية تضم جميع السوريين وتتقبل من الدول الأخرى العون الذي لا يمس استقلال البلاد، وتترفع على أية أحقاد أو نعرات، هو كفيل إن شاء الله بسقوط هذا النظام ومجيء نظام أحسن منه وأرحم، لكن علينا أن لا نستعجل ولا نتثبط إن تأخر الفرج فإنه قادم وحتمي إن تواصلت ثورتنا ولم تفتر عزيمتنا.