في رحاب الحلّاج (6)

العين سراج القلب

أعنِّي على الضّنى

مادونا عسكر

نظري بَدْءُ عِلَّتي

ويحَ قلبي وما جنى

يا مُعينَ الضَنَى عليَّ

أَعِنِّي على الضنى 

 [ من مجزوء الخفيف ]

العين سراج القلب، فإن كانت مستنيرة الأحداق انفتح القلب على الخير والحقّ والجمال، وإن كانت في حلكة الظّلمة غارقة، دفنت القلب والجسد في مآسي المرض والهزال. والعين ليست الآداة الّتي من خلالها ننظر إلى الأشياء وحسب، وإنّما هي قلب الإنسان الظّاهريّ، ويتوقّف حسن عملها على كيفيّة رؤيته.

العين للإنسان سراج يتغذّى من زيت الحكمة، فإمّا ينظر وينعم بسلام القلب، وإمّا ينظر ويلوّث إنسانيّته الجميلة. ومنها تبدأ خيوط الحكمة بالتّسرّب إلى البصيرة لتعاين الحبّ الإلهيّ، وتطلق في مسيرة النّقاء نحو قلب الّذي يملك على كلّ قلب.

تتلقّى العين صوراً عديدة وتحفظها وترسلها إلى حنايا الجسد، وقد يضطرب وينتفض ويعيش في حالة من  التّوتّر إلى أن يلامس سعادة سطحيّة هشّة، فيستكين ويعود ليبحث عن تلك الصّور ليسجن ذاته فيها ويقيّد إنسانيّته الحقيقيّة الّتي هي أبعد من اللّحم والدّم، وإنّما هي الجسد. وقد يمتلكه الهدوء، فيمعن النّظر أكثر، ويتحوّل إلى تأمّل في عمق الأشياء لاستنباط معانيها السّامية والرّفيعة.

لا تكمن المشكلة في الصّور وإنّما في كيفيّة النّظر إليها. فإن تأمّلنا جبلاً عالياً تلامس قمّته صفحة السّماء، قد نرى فيه التّعالي عن كلّ ما حوله، وقد نرى فيه التّوق إلى صانعه. وإن تأمّلنا نهراً منساباً متجّهاً للذّوبان في البحر، فقد نفهم من هذا المشهد إمّا التّبعيّة وإمّا الالتحام. إن شاهدنا عراكاً وقتالاً، تقودنا الرّؤية إمّا إلى الحقد النّاتج عن الضّعف الإنسانيّ وإمّا إلى المحبّة والصّلاة من أجل السّلام. وإلى ما هنالك من صور ومشاهد تستفزّ النّظر فتصيب الجسد بداء مقيت، أو تثير في ذاته عظمة الإنسانيّة الرّاقية والمرتقية.

البصر سبيل القلب إلى البصيرة، ولا قيمة له بعيداً عنها. البصيرة هي اليد الممتدّة لتقوده إلى فوق، إلى ذرى أعالي الحبّ، حيث يعاين الإنسان جماله الحقيقيّ جسداً وروحاً.  فإن تلمّس البصر متعة الجمال، منح البصيرة نعمة التّأمّل والتّدقيق في ذات الصّورة العميقة وليس في ظاهرها وحسب.

يبقى الظّاهر أرضيّة ينطلق منها الإنسان، ليغوص ببصيرته في بحر الجمال، فيصبح الجمال هو الدّليل والسّبيل.  لذلك يجب ألّا نقف عند شاطئ الأمور فنرى جمالاً متقلّباً وغير مستقرّ، وإنّما علينا الإبحار والغوص عميقاً في بحر الجمال الحقيقيّ والّذي لا تراه إلّا البصيرة وحدها.

 ألا نغمض عينينا في حوارنا مع الحبّ المطلق؟ ألا نغمض عينينا ونتأمّل، لندع القلب يبصر ما لا يُرى وما لا يدرك؟ ألا نسدل أهدابنا لنصعي إلى من يصلّي فينا بأناة لا توصف؟

نظري بدء علّتي، فجنى قلبي الاضطراب والأرق، وتوجّع من شدّة السّقم. فيا من أنت النّور والحبّ، اخطف نظري إليك أبداً، فيكون نظري بدء رحلتي إلى قدس أقداس مجدك، فأعاين نورك بصراً وبصيرةً. ويا من أنت صانع الأبصار أضئ نظري بزيت سراجك، فلا أعود أرى إلّا وجهك الحبيب في كلّ ما صنعته يداك.

               

* من (المجتّث)، ديوان الحلّاج، أبي المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي (244 هـ- 309 هـ/ 858-922 م)، صنعه وأصلحه أبو طرف كامل بن مصطفى الشيبي، منشورات الجمل 1997- الطبعة الاولى- ألمانيا- كولونيا.