رحلة الإغاثة التي مرت من جانب الموت
رحلة الإغاثة التي مرت من جانب الموت
شاهد عيان على تفجير معبر باب الهوى
طريف يوسف آغا
بالرغم من مشاركتي شبه اليومية ككاتب بالقصائد والمقالات والمداخلات في دعم الثورة السورية ومنذ يومها الأول، وأيضاً في معظم المظاهرات والوقفات السلمية المناصرة لها، وبالرغم من عدم تقصيري في المشاركة في أعمال الاغاثة الانسانية المرسلة من الجالية السورية من مدينة (هيوستن) إلى أهلنا المنكوبين في المخيمات في الداخل والخارج وعلى الحدود، إلا أني كنت دائماً أشعر أن هناك شيئاً ناقصاً في كل هذا. ثم وجدت أن هذا الشئ ليس سوى الذهاب إلى هناك والوقوف وسط هؤلاء المنكوبين وتقديم تلك المساعدات والمواساة لهم باليد وعلى الأرض، وإعلامهم بأن السوريين في كل أصقاع الأرض يقفون معهم ويريدون مساعدتهم. ولكن وحين غادرت (هيوستن) مع صديقي (م ت) متجهين في تلك الرحلة عبر تركيا، لم نكن نعلم أننا سنكون بعد أيام على موعد غير منتظر مع عملية تفجير السيارة المفخخة على الحدود السورية عند معبر (باب الهوى).
وصلت مع صديقي إلى بلدة (الريحانية) التركية القريبة من المعبر المذكور صباح السبت 9 شباط، فيبروري 2013 قادمين من مطار (اسطنبول). وكانت الثورة السورية المباركة قد وضعت تلك البلدة الحدودية في قلب الأحداث لاستقبالها آلاف اللاجئين المدنيين السوريين الهاربين من إجرام (النظام الأسدي). هذا النظام الذي بات يترنح تحت ضربات الجيش الحر والكتائب المقاتلة إلى جانبه فينتقم بالقصف العشوائي على المناطق المدنية الآهلة بالأطفال والنساء. وقد تحولت هذه البلدة، مثلها مثل الكثير من البلدات الحدودية، إلى مايشبه خلايا النحل التي لاتهدأ فيها الحركة ليل نهار لتقدم الاغاثة الانسانية بكافة أنواعها للمنكوبين من الجرحى وممن تركوا بيوتهم مع أطفالهم وأهلهم طلباً للأمان.
كان الموقف الأول لنا في نفس اليوم في مركز النقاهة والمعالجة الفيزيائية الذي يرعاه المقاتل (أ م)، وهو شاب في العشرينيات من عمره من (ريف ادلب) يتناوب في رعايته لهذا المركز مع قريبه المقاتل أيضاً إلى جانب الجيش الحر في الداخل. وقد أخبرني بأن كل واحد منهما يمضي شهراً في القتال وشهراً في رعاية المركز ثم يعود إلى القتال وهكذا، كما وروى لي قصته التي تتشابه في خطوطها العريضة مع قصة كل شاب سوري حمل السلاح ضد النظام. فهو كان شاباً عادياً يملك محلاً تجارياً متواضعاً في بلدته إلى أن انطلقت الثورة السورية قبل سنتين، فشارك في المظاهرات السلمية متمنياً كغيره أن تؤدي إلى رحيل النظام المجرم سلمياً كما حصل في تونس ومصر. ولكنه اضطر بعد ذلك لحمل السلاح بعد أن شاهد بأم عينه وحشية النظام الأسدي في التعامل مع الحراك السلمي. والكل يعرف أن أهل الريف أكثر حمية للدفاع عن الكرامة والشرف وأقل قبولاً للرضوخ للظلم والتنكيل من أهل المدن الكبيرة. ولهذا رأينا كيف أن ثورتنا، كبقية الثورات العربية وغيرها عبر التاريخ، اشتعل لهيبها من الأرياف قبل المدن. ويستقبل هذا المركز الجرحى السوريين الذين تمت معالجتهم في المشافي ولكن لايتوفر لهم أمكنة لمتابعة التأهيل والعلاج الفيزيائي، فيأتون إلى هنا حيث يؤمن لهم المركز تلك الحاجات الطبية بالاضافة للأسرة والطعام. ويستوعب حوالي العشرين مصاباً، حيث جلست وتكلمت معهم وروى لي بعضهم كيف وصل إلى هنا وفي أي معركة أصيب وماهي أحلامهم للمستقبل، وأكثرهم يتمنى أن يعود إلى ساحة القتال اليوم قبل الغد وحلمهم تحرير سورية أو الشهادة دون ذلك. كما استمعت هناك إلى شهادات شبان شاركوا في معركة تحرير (مدرسة المشاة) في حلب وكذلك (مطار تفتناز) العسكري وحواجز أمنية للنظام في (ريف ادلب). لقد شعرت بعد حديثي مع هؤلاء الأبطال، والذين كانوا جميعاً إما على العكازات أو الكراسي ذات العجلات، بأن شعباً كهذا لايمكن أن يهزمه أحد، لانظام الأسد ولاغيره، فأنت تستطيع هزيمة الجميع إلا من يبحثون عن الموت شهادة في سبيل النصر. مصاريف هذا المركز تعتمد بالكامل على التبرعات الشخصية وليست هناك أي منظمة رسمية مسؤولة عنه.
الموقف الثاني لنا كان في نفس اليوم ونفس البلدة في بيت من طابقين مستأجر أيضاً بتبرعات شخصية لايواء عائلات فقيرة ليس لها مكان تذهب إليه، فيتم استضافتها فيه لعدة أيام أو أسابيع لحين ترتيب التحاقها بأحد المخيمات الكبيرة المنتشرة في المنطقة في الجانبين التركي والسوري والتي تحظى بمساعدات دولية وافرة. وقد علمت أن هناك جهتين تعملان معاً على تغطية مصاريف هذا البيت، واحدة تغطي إيجاره الشهري والثانية تتوكل بالطعام، وهو قادر على استيعاب حتى الأربعين شخصاً في آن واحد معظمهم من الأطفال والأمهات.
الموقف الثالث كان أيضاً في نفس اليوم في الجزء المحرر من مدينة (حلب) القديمة، حيث دخل صديقي إلى هناك وأمضى عدة ساعات التقى خلالها بعدة عائلات من تلك التي فضلت البقاء في بيوتها ولكنها في نفس الوقت في أمس الحاجة للمساعدة. كما والتقى مع بعض قيادات الجيش الحر حيث أطلعوه على الجهود المبذولة من قبلهم لمساعدة السكان المدنيين وكذلك على احتياجاتهم الضرورية.
الموقف الرابع والخامس كان لنا في اليوم التالي (الأحد 10 شباط) في مركزين طبيين تم تجهيزهما في بلدة (الريحانية) على حساب أطباء سوريين وكذلك تبرعات فردية. ويقدم كل واحد من هذين المركزين مختلف أنواع الخدمات من جراحات صغيرة إلى تجبير كسور إلى تحاليل ومعالجات سنية وغيرها، وكافة هذه الخدمات يتم تقديمها مجاناً للمواطنين السوريين اللاجئين المحتاجين لها. الداخل إلى هذين المركزين يلاحظ أن الحركة فيهما تكاد لاتتوقف والأطباء يكادون لايجدون وقتاً للراحة.
الموقف السادس والأخير كان لنا يوم الاثنين 11 شباط حيث اتجهنا أنا وصديقي إلى معبر (باب الهوى) الحدودي قاصدين (مخيم قطمة) الواقع على بعد عدة كيلومترات على الأراضي السورية المحررة. وقد اتفقنا أن يقوم بايصال المعونات التي نحملها إلى المخيم ويعود خلال ساعتين على أن أبقى مع السيارة على الجانب التركي. وقد دخل إلى الجانب السوري حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، ورحت من جهتي بالتجول بين عشرات السوريين المتجمعين هناك، من القادمين أو الذين ينوون الدخول إلى سورية، مستمعاً لقصصهم وماذا حصل معهم وكيف وصلوا إلى هنا. ولكن وفي تمام الساعة الثانية والنصف حدث مالم يكن في الحسبان، حيث دوى انفجار كصوت الرعد، ثم ارتفع في السماء عمود من النار على بعد مئتي متر إلى الجنوب من مكان وقوفي مصدره خلف بوابة المعبر، سرعان ماتحول إلى عمود من الدخان الأسود الكثيف. وقد سادت الفوضى مباشرة وبدأ الناس بالجري في كافة الاتجاهات، ولم تمض دقيقة حتى بدأت عربات الشحن الصغيرة تأتي مسرعة من جهة الانفجار محملة في صناديقها أشخاصاً مدنيين مضرجين بدمائهم لنقلهم إلى أقرب مشفى في بلدة الريحانية. ثم وصلت بعد دقائق أكثر من عشرة سيارات اسعاف لتقوم بنقل الضحايا الذين بلغ عددهم حوالي الخمسين بين قتيل وجريح. ظن الجميع في البداية أن المنطقة تتعرض لقصف من الجانب السوري، حيث حصل ذلك قبل أشهر، ولكن تبين بعد قليل أنها سيارة مفخخة، وكلنا يعلم من هو المختص بالسيارات المفخخة في تلك المنطقة. وقد قطعت الجهات الأمنية التركية العبور في الاتجاهين لعدة ساعات لحين الانتهاء من التحقيقات الأمنية، مما أدى إلى تأخر عودة صديقي من (مخيم قطمة) لوقت متأخر من ذلك المساء قاطعاً معظم المسافة سيراً على الأقدام.
غادرنا (الريحانية) صباح الثلاثاء عائدين إلى (اسطنبول) جواً بعد أربعة أيام أمضيناها هناك على الأرض واطلعنا خلالها على القليل مما يعانيه الشعب السوري البطل جراء قراره الاستمرار بثورته من أجل الحرية والكرامة. وكنا قد حملنا معنا من (هيوستن) بعض التبرعات المتواضعة من أصدقاء لنا أرادوا أن يساعدوا بقدر استطاعتهم للتخفيف عن اخوانهم المنكوبين الذين فقدوا أحبة لهم وكذلك فقدوا بيوتهم وأرزاقهم. ومهما كانت قيمة هذه التبرعات، فهي بالتأكيد لاتساوي نقطة من بحر المعاناة التي قدمها هؤلاء المنكوبين وأيضاً التي يقدمها المقاتلون على الأرض لتخليص سورية من كابوسها ومن ليلها الذي استمر لأكثر من أربعة عقود.