الغَرَقُ في بِركَة الكَلِماتِ
الغَرَقُ في بِركَة الكَلِماتِ
ليث العبدويس
أنْ تَكونَ أديباً مَعناهُ أنْ تَتَأبَّدَ - كَسيزيفَ – في مُكابَدَةِ التَسَلُّقِ السَرمَديّ بِصَخرَةِ الالتِزامِ مِنْ قَعرِ العُقوبَةِ وحَتّى شَفا الصَفحِ عَنْ ذاتِك، ذاتُكَ التي أنكَرَتكَ مِنْ فَرطِ تَشَرُّدِكَ عَنها فَما عادتْ تَستَبينُ مَلامِحَكَ أو تَتَعرَّفَ عَلى تَقاطيعِك، فَلا تَحتَجَّ ساعَةَ أوشَكتَ عَلى الخُروجِ إذا ما رَكَلَتْ تِلكَ الذاتُ الضائِعَةُ عَن كاهِليكَ حِملَكَ الثَقيلَ لِتَعودَ مُتَدحرِجاً نَحوَ قاعِكَ في أزَليَّةٍ تَبدو لا نِهائيّةَ العَذابِ، وانتَ الساذَجُ الذي يُمنّي النَفسَ كُلّ ذاتَ طُلوع ٍ بِصُلحٍ سَيطوي بِساطَ شَكّ تَفتَرِشُهُ أسئِلَةٌ نَهِمَةٌ رُبَما ليسَ آخِرَها: ما جَدوى الكِتابَة؟
لَئِن أجهَدنا أنفُسَنا في عَبَثَ المُحاوَلاتِ لالتِقاطِ خَيطٍ قَدْ يَقودُنا – بِشيءٍ مِنْ حُسنِ الحَظّ – إلى تُخومِ الحَقيقَةِ أو مَنابِعِها الغائِرَةِ خَلفَ سَلاسِلَ مِنْ جِبالِ الزيفِ والأوهامِ، فَلَنْ نحظى إلّا بِما هو دونِ تهدِئةِ الغَلواءِ أو إشباعِ الفُضولِ.
لَكِنْ لا ضَيرَ مِنَ إدلاءِ الدَلوِ وَنَشرِ الشِباكِ حتّى وإنْ عادَ الدَلوُ خائِباً بـ "يوسُفَ" أو ارتَدّتْ الشِباكُ عَنْ "عِفريتٍ حَبيسٍ في قُمقُمٍ مَختوم".
الكِتابَةُ يا سادَتي هي ذَلِكَ التَفاوتُ الجَميلُ بينَ البَشَر، تِلكَ المُنحَةُ الرَبّانيّةُ والهِبَةُ السَماويَّةُ التي اُختُصّتْ بِها قِلّةٌ وَحُجِبَتْ عَنْ كَثرَة، فَشَقيَ المُصْطَفونَ وَسَعِدَ المَحرومون.
هيَ مَلَكَةُ التَناغُمِ الذي يَصِلُ حَدَّ الدِقّة الموسيقيّةِ المُرهَفَةِ في تَدفُقاتِ النَزفِ بين شَرايينِ الأديبِ وأورِدةِ القَلَم.
هيَ أنْ تَغرِسَ الآفَ الدَبابيسِ في محجَرِ عَينِكَ، في نِهاياتِ أعصابِكَ، في جَنّةِ الساديينَ الضَيقَةِ المَعروشَةِ بينَ اللَحمِ الطَريّ والأظافِرِ كُلَما دَهَمتكَ نَوبَةُ كِتابَةٍ مُفاجِئة أو انتابَكَ صُداعٌ أَدَبيٌّ عارِض.
هي أنْ تُقبِلَ على شَهيّ الطَعامِ جائِعاً بِلا شَهيّة وَعلى الأفيونِ صاحياً بغيرِ وَصفَةٍ أو نَصيحَةٍ طبيّة، أنْ تُعيدَ رَسمَ موناليزا الحَضارةِ عَلى رُقُمِ الطينِ السومَريّة.
أنْ تَشرَحَ للغافِلينَ سِرَّ اختِفاءِ الشُعراءِ والأُدباءِ والحالِمينَ بِعَصرِ سيادةِ الكَلِمَةِ مُنذُ فَجرِ الدَواةِ والحُواةِ والرِقاعِ والنِطاعِ وَمحاكِمِ التَفتيشِ والرقابَةِ الفِكريّةِ حتّى رابِعَةُ الإرهابِ والاغترابِ والانقلابِ وَجرائِمُ التَدوينِ الإلكترونيّة.
أنْ تَصرُخَ، أنْ تَصدَحَ، مِلئَ حِبالِكَ الصوتيّة، أنْ تَجنَحَ في قارَبِكَ المشروخِ مُتأبِطاً دُستورَ المَدَنيّة وَبِشارَة النورِ نَحوَ جَزيرَةِ الوَثنييّنَ وأكَلَةِ اللُحومِ والأفكارِ والآمالِ البَشريّة.
شُكراً لِلقَتَلَةِ على مَرَّ تاريخِ اغتيالِ الأدبِ حينَ صَلّتْ سيوفُهُم يومَ سَحَبوا الدِثارَ عَنْ فِراشِ النُبوّةِ فَلم يَجِدوا غيرَ إنسانٍ يُتمتِمُ بِهذيانِهِ الدائِمِ عَنْ انجيلِ الحُبّ الضائِع.
شُكراً لِفِرَقِ الاغتيالِ مُساهَمَتَها الفَذَّةِ في مَدّ قامَةِ ضَحاياها مِنْ الأُدباءِ الراحِلينَ، اولئِكَ الذين لَحَظَ جُمهورُ النَظّارةِ - مُنذُ ما قَبلَ سِقراطَ وحتّى ما بعَدَ لوركا - طيفَ ابتِسامَةٍ شاحِبةٍ عَلى مُحيّاهُم المُصفرّ قَبلَ انهِمارِ زَخّة الرَصاصِ الأخيرة، هَل كانوا بِهذهِ الشفّافيّةِ التي تَرَكتهُم يُلقونَ مِنْ شُرُفاتِ أرواحِهِمُ الظَمِئةِ نَظرَةً عَلى باحَةِ الاعدام؟ هُناكَ حيثُ ساوَمَهُ قاتِلوهُ على مَنحِهِ فُرصَةَ ذُلّ أخرى شَرطَ تَقبيلِ خاتَمِ السُلطانِ واعلانِ بيعَةِ الشيطانِ وَنقضِ العَهدِ المُبرَمِ مَعَ الذاتِ، مَعَ النَفسِ، مَعَ الإنسانِ عَينهِ وليسَ أحداً غَيرَه؟ هَل كانَ اختيارُ التَحوّلِ إلى قِديسٍ غيرِ مُتوّجٍ يَشطُبُ جَميعَ مُحاوَلاتِ التَقَرُّبٍ، ويُلغي كُلَّ فُرَصِ التفاوُضِ؟
لا زالَ سيزيفُ يُجرجِرُ صَخرَتَهُ الثَقيلة، ولا زالَ كُلَّ أدباءِ الأخدودِ العَربيّ مُتشردينَ عَن ذواتِهِم، يَخشونَ أن يَفضَحَهُم زَعيقُ كَلِماتِهِم الغاضِبَة، مُنغَمِسينَ في جَحيمَهُمُ الذاتي وَفَضائِحيَتِهِمُ الخاصّة، ولا زالَ الجنرالاتُ في مَكاتِبِهُم التي حولوها مؤخَراً إلى صالوناتِ تَعذيبٍ حَداثيّ، لا زالوا يُمرّرونَ الكَهرَباءَ في أجسادِ أُدباءَ ثوريينَ يَرفُضونَ لَثمَ أقدامِ صاحِبِ الذاتِ العَليّة او مُجرّدَ النُطقِ بِوحدانيّةِ آلِهَةِ الأرض المُتعَجْرِفَة، لا زالَ نَفسُ الأديبِ المُحبَطِ يَقِفُ عارياً أمامَ مِرآة الحَمّام مُطلِقاً الرَصاصَ على صَدغِهِ، هكذا، بِتلقائيّة، ودونَ وَصيّة، في إعرابٍ دَمويّ عَنْ استنكارهِ لِجريمَةِ اختِطافِ الذائِقَةِ الشِعريّة، فَحَتّى المَجانينُ لَهُم قَضيّة، وَحتّى الأدباءُ يَجري عَليهِم قَدَرُ الغَرَقُ في بِركَةٍ مِنْ كَلِماتٍ لَيلَكيّة، ولا زالتْ طوابيرُ المُعجَبينَ والمُقتَفينَ والمُنتَحِلينَ والمُتاجِرينَ تُلقي – في ذِكرى الغَيبَةِ - كَلماتَ الرِثاءِ وأزهارَ التأبينِ عِندَ ضَريحِ الأديبِ الذي استَمرَّ مَجهولاً، في رَقْدَةٍ أبَديّة.