من دمهم... قوس قزح
من دمهم... قوس قزح
د. سماح هدايا
ليس عودة للماضي؛ فالوجوه تبدّلت والأشكال تغيّرت؛ لكنّ القلوب هي نفسها المعتقة بعراقة عسل الحرية في قرص النحل الشرس. والمكان له الجذور ذاتها، ومازالت أصوات أقدامهم تطرق حجارة الأزقة في سيرها، وأرجل الخيل المحاربة القديمة تخبط الأرض بين السور وخارجه. وفي وقع سيرهم وركضهم وهم يحاربون الجنود الغرباء المعتدين في أطراف الحارات وفي بقايا الغوطة، ترتسم الولادات... قد تكون جهيضا. أو أشوها وقد تكون وليدا سليما رائعا.
هم ذلكم المحاربون القدماء طواهم الزمن، وتعاقب عليهم النسيان؛ لأنهم قلّة؛ لكن صوتهم ظل طليقا؛ لأنهم لم يكتملوا أحرارا في دورة زمنهم، ولم يكملوا مهمة شموخهم. ذهبوا قبل أن يضمدوا الآلام وقبل أن تندمل الجراح وتلتئم العافية. وبعدهم، تفشّى، عبر عقود الرق، القيح والعفن، وأصبح لا مفر من معركة الكي، ولاهرب من عملية التطهير...آن أوان فصل الرعود والصواعق وزمن الطوفان؛ لكي يشفى الجسد ويقوم للحرية والكرامة. وبنجو الوطن من الغرق ومن عصر اليباب. ولأن الوقت كان تأخّر طويلا، جاء ثمن التطهير باهظا جدا.. وارتفعت الكلفة عاليا، أقلّها الألم الشديد...
وها هو القلب غيمة من دم مطير...
وتلك الشاهدة من ألاف الشهود في مواكب لا نهاية لها، واقفة مذهولة من المشهد ... تغمض العينين وترسل القلب بعيدا في السماء...وتراها تبتسم كأنما لخيال حي هناك، ترفع يدها، وتكتب في الهواء رسالة، ثم تردّد كلمات رسالتها بهدوء دامع:
"أراك هناك... يا أنت الذي هناك في البعيد... أتذكرك جيدا لمحة عابرة في طفولة بعيدة...تضع على رأسك ذلك الطربوش الأحمر وترتدي زيك الدمشقي الأنيق، جالسا على مقعد زيارتك شبه اليومي...أتذكرك لمحات سريعة تبتسم لي وتلاعبني طفلة صعيرة مازالت تحبو، وتطعمني حلوى طرية. أتذكرك وأنت تجلس إلى جانب أختك جدتي تتكلمان بعذوبة. وأتذكرك من كلمات جدتي عنك لأنك كنت محبوبا جدا منها. و أتذكرك من كلمات أبي لأنك كنت، أيضا، محبوبا جدا منه؛ فأنت خاله الوحيد الذي أحبه وصادقه وتعلم منه نخوة البطولة والثورة ضد المعتدي... عندما كان المعتدي فرنجيا(فرنسيا).
اعذرني لأني أقتحم سكينتك، وأفتح باب الذكرى والنجوى وأكتب لك.. لا أعرف لماذا أكتب لك. لكنّ قدسية الإيمان التقي التي أتذكرها في وجهك الطيب وهول ما يحدث من روع تدفعاني لأكتب لك، مع أنني لا أعرفك كثيرا كثيرا. إنه حفيدك الذي أوجع القلوب... ووطننا الذي أوجعنا...وإنّه الواقع الشرس أكبر من الفزع وأكبر من الهلع. اكبر من الرعب، وأكبر من كل خوف. وأعرف أنك ربما ستقرأ كلماتي وربما لن تقرأها، لكنّني أجد نفسي مشدودة إليك لأكتب....
عائلتك كلها: بناتك وأبناؤك. أهلك وأقرباؤك. أصدقاؤك، كلهم صنعوا أسرهم وحكاياتهم ودروبهم، واطمأنوا إلى أنهم قاموا بما يلزم؛ لكن ّ الحياة دوّختهم، وتاهت بهم الصراعات...ومات من مات، ومن مازال حيا كان عليه أن يشهد القيامة ومجريات اليوم العظيم... وبعد أن صرنا بفعل عصير التدحين أوغادا، ننزوي في خانة " لا تستطيع العين أن تقاوم المخرز....والحجر لا يقاوم بندقية. والمعركة ذباحة غير متكافئة، يفاجئنا القدر بالجدبد؛.ويتغير الوقت ويخرج الزمن من زنزانة العطالة...وتسابق البطولات الرياح...ومع البطولات فصص مأساة وأهوال وفجائع.
وتردني إليك للحديث معك فاجعة مروعة في ذريتك... لا يكفي فيها العزاء...ولا يكفي أن أكتبها بدم قان في ديوان المراثي ..فأحببت أن أسبق الجميع إليك لأرجوك ألا تقبل من أحد فيه العزاء، بل تقبّل الزغاريد والتحيات؛ فأنتم الأجداد الأموات الأحياء أصلب من أبنائكم الأحياء الموجوعين الآن بحصار الدماء. وماعادت الحياة تغريكم بالبكاء...والدماء صارت مجرد جسر عبور من الحياة الدنيا إلى الحياة العليا. وعصافيرك التي لم ترها عينك وربما رآها قلبك، طارت من قشور البيض قوية تواجه بجناحيها الرصاص. تعلمت من إرث وجدانك وجدانيّة شجاعة أصيلة استبطونها بعد ألم...فافرح في مقامك الغامض وايقت أن الهمم لم تفتركما تخيلتم وخفتم.
أتذكرك في حكايتك لما كنت مع الثوار ضد فرنسا، واختبأت تحت تحت جسر النهر في الغوطة قرب المدينة متعلقا هناك في الأسق بشجاعة وصلابة مدة يومين.. لكن دموع ابنك الذي بللت شلله وأحسّت بنارها عروقه، قد تكويك نارا...فوجع الرجال يطحن الدم ويحفر في رمله كهف أسى...وآه ما أشدها مأساة فاجعة ابنك في ابنه؛ فحكاياتهم قد أفرغت حمولة الألم ثقيلة على أكتاف الأهل والمحبين. ويقولون له ولأسرته صمتا صمتا وإلا قتلنا الجميع. قتل كل إخوانه. يا لفجيعة أمه التي أفقدها وعي الفاجعة عقلها. لكنّ بطولاته جيل أحفادك فاقت ماكان يمكن ان تتخيله يوما من بطولات. أعداء أبنائك واحفادك فاقت وحشيتهم كل ما خبرته في التاريخ وفي حياتك من وحشية الأعداء. هي أشد من وحشية الفرنجة والمغول والتتار والمغول. وفي هذا شرف البلاء.
حفيدك الشاب الصغير، وإخوته وأصدقاؤه لم يقترفوا ذنبا لم يرتكبوا جريمة...لكنّهم صرخوا في وجه الظلم؛ فمزّق المهوسون بالجريمة حفيدك الخارج على ظلمهم. نعم قطعوه إربا إربا, وشطروا رأسه.. لم يكتفوا بتعذيبه وتعذيب أخوته أشد العذاب ولم يكتفوا بقتله. بل شوهوا جثته ومثلوا فيها ، قطعوا أطرافه وجعلوا مزقا تئن تحت ساطورهم ..
.آه.. يا ويح قلب أخته، ويالحزنك هناك. أنا لا أسرد الحكاية لأوجعك بالفاجعة؛ لكنّ في المأساة زهوك وزهوهم....فهم الذين من دمك لم يهدروا كلهم حلمك على سفح التناسي والتكاسل والصمت والتغاضي عن الحق. بل أنجزوا مهمتهم ببسالة؛ فمن صلبك ودمك تجددت حياة..وسار قلبك على الأرض..وتوضأت الأمنيات الكبيرات بالدماء من أجل الصلاة في رحابة حلم بالحرية..وتقاسموا معك كسرة الألم...ربما كان نصيبهم أكبر...
اعذرني أنّي لن أقول كل شيء، ولن أكشف لك كل شيء، فهو كثير فجائع ومآس...لكني ...أردت ان احتس معك فنجان الحلم ممزوجة مرارتته الللاسعة بحلاوة الأمل إنّنّها أحلامنا. ونرفض أن نزول. ومن وهج المأساة يتدلى الأمل...ويمسك بنا وبأبنائنا وأحفادنا، لكي نتسلق إلى سفح الشمس. أودعك."
الشاهدة، فتحت عينيها لقوس قزح جميل يضيء السماء، أبهجها لونه، وراحت تمشي بثقة إلى موقع في موكب الشهود الشاهدين المنتشر على امتداد الأرض، يكسر الحصار عن العيون والقلوب... ورعم أن المآذن والأجراس والأشجار مازالت تبكي... وأرواح الياسمين الشاحبة السوداء تفوح دماء...لكنّ حمولة الأمل تسابق المعركة لكي تزيح حمولة الألم. وحتما جباههم قوية لكي تحمل تيجان الحرية إلى عرس النصر.