إقامة المجتمع الفاضل..
إقامة المجتمع الفاضل..
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
إن من أهم مقاصد الشريعة، سعادة الناس فى دنياهم وآخرتهم، وذلك بإيجاد المجتمع الفاضل الذي يأمن الناس فيه على دينهم و أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم دون تمييز، لذا حدد الشرع هذه الضرورات وحرص على حمايتها بوضع عقوبات صارمة وشديدة لكل من يعتدي على أي منها، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، ولا بين غنى وفقير وإنما الجميع سواء أمام أحكام الله فيما شرع وحدد لتحقق المساواة التامة بين الناس فلا يطغى قوي، ولا يعصف سلطان بضعيف. كما أن الشارع الحكيم يريد أن تكون هذه العقوبات المحددة كالشواهد الهادية إلى عقوبات الجرائم الأخرى فمثلاً من ارتكب أى جريمة من جرائم الحدود أو جرائم القصاص حُكم عليه بالعقوبة المقدرة من غير زيادة أو نقصان هذا إذا كانت الجريمة كاملة أى مستوفية لكل شروطها فإذا لم تستوفِ الجريمة كل هذا اهتدى القاضي إلى العقوبة المقدرة بحيث يخفف على الجانب بمقدار ما فقدت جريمته من مقومات أو شروط الكمال لهذه الجريمة، فكلما اقتربت جنايته من حد التمام اقتربت كذلك عقوبته من حد الكمال، وكلما ابتعدت جنايته من الجريمة الكاملة ابتعدت عقوبته كذلك بنفس النسبة، فالعقوبة تكبر وتصغر بكبر الجناية وصغرها مهتدين فى تقدير ذلك بالعقوبات المشروعة والمحددة.
وإذا بدا فى بعض الحدود شيء من الشدة في نطاق ضيق محدود فإنها تفضي إلى رحمة واسعة شاملة بالنسبة للمجتمع كله، وإذا خولت العاطفة للبعض أن ينظروا إلى الجاني في جرائم الحدود بعين العطف، فإن الأجدر بهذه النظرة هو المجتمع الذي يجب أن يعيش أفراده في أمن وطمأنينة، ومع هذا فالإسلام تشدد في وسائل إثبات الحدود. فالإسلام يوفر الضمانات الكاملة والكافية لكل متهم حتى لا يؤخذ بغير دليل ثابت، ولذلك كان من المبادئ المقررة في الشريعة أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أن الجاني ارتكب الجريمة، فإن كان هناك شك في ارتكاب الجانى لجريمته ولم تتقرر بالنسبة له أدلة الإثبات وجب العفو عنه، وأصل ذلك المبدأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». ومن جهة أخرى نجد أن أدلة الإثبات التي قررتها الشريعة فى الحدود دقيقة قلما تثبت إلا على محترفي الإجرام، فهي في الزنا مثلاً الإقرار أو أربعة شهود رجالاً يقرون برؤية الفعل، فإذا لم يتكامل العدد أربعة وأصر واحد أو اثنان أو ثلاثة على قولهم اعتبر من أصر قاذفاً ويحد حد القذف، وفي القذف بشهادة اثنين أو بالإقرار بعد الدعوى، وفي السرقة الاعتداء على مال الغير المتقوم المحرز خفية...الخ تلك الشروط. ولا بد معها من الإقرار وشهادة اثنين. وفي الشرب مثل السرقة بالإقرار أو بشهادة اثنين، ومثل هذه الشروط لا تنطبق إلا على المصر المجاهر بمعصيته الذي تكررت منه حتى أمكن أن تقع منه علناً، ويضبط متلبساً بها، ومن حق المجتمع أن يحمي نفسه ممن لا يأبه بحرمة الله دون استثناء لأي اعتبار كان، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيم الحدود دون مجاملة.
وزيادة على ذلك، فإن من الأمور التي تدل على كون الشارع لا يقصد العقوبة إلا للمجاهر بمعصيته الضارب بشرع الله عرض الحائط أن الشريعة رغّبت في الستر، وحثت عليه سواء من قبل الجاني بأن يستر على نفسه أو من اطلع على معصيته أن يستر عليه، فقد ورد «عن زيد بن أسلم: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأُتي بسوط مكسور، فقال فوق هذا، فأُتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: بين هذين، فأُتِىَ بسوط قد رُكب به فلان، فأمر به فجُلِد، ثم قال: أيّها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، فمن أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يُبْدِ لنا من صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله عز وجل». ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن من ستر مسلماً أصاب حداً وحثه على التوبة مقدماً على إقامة الحد عليه.
ولم يكتف الشارع بأمر الجاني أن يستتر بستر الله، بل حثّ من اطلع على معصية أخيه أن يستره، ورغّب في هذا العمل بأن يكافئ من فعل ذلك فيستره يوم القيامة والجزاء من جنس العمل. فقد أخرج الترمذي في سننه «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نفس عن مسلم كُربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسّر على مُعسرٍ في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر على مسلم مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فضلاً عن ذلك فليس للشارع هدف في إلصاق التهم بالمنضوين تحت لواء الدين الإسلامي الحنيف، فلا يستحق العقوبة إلا من ثبتت إدانته، وكل متهم بريء حتى يثبت اقترافه الجرم، فالحدود تدرأ بالشبهات، وقاعدة درء الحدود بالشبهات هذه من القواعد التي أوردها المحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايات متعددة في مسائل كثيرة وقعت في أوقات مختلفة، وهي قاعدة مؤداها أنه حيث قامت لدى القاضي شبهة في ثبوت ارتكاب الجريمة الموجبة لعقوبة من عقوبات الحدود وجب عليه ألا يحكم على المتهم بعقوبة الحد، وقد يجوز مع ذلك الحكم على المتهم بعقوبة تعزيرية في حالات معينة، فالشبهة كما تؤدي إلى الحكم ببراءة المتهم مما أسند إليه، قد تؤدي إلى تغيير وصف التهمة بحيث يدان المتهم في جريمة أخرى غير التي رفعت عليه الدعوى عنها، فمن لم تقم البينة على ارتكابه الجريمة الحدية بالصورة التي يقتنع معها القاضي ويصل اقتناعه إلى حد اليقين بأن الشخص الماثل أمامه قد ارتكب الجناية الحدية التي أُقيمت بينتها عليه، لم تلزم هذا المدعى عليه عقوبة الجناية الحدية ووجبت تبرئته من هذه الجناية
لأن الأصل فيه البراءة.