حمص التي أضحكت العالم وغيَّرته
د.أحمد محمد كنعان
· بمناسبة مرور عام على وفاة المخترع العظيم ستيف جوبز ، حمصي الأصل ، أهدي حمصنا المنكوبة من آل الأسد هذه المقالة
حمص .. مدينة سورية وادعة تستلقي بدلال على كتف نهر "العاصي" تلقمه في فمه حبات العنب ، بينما يسقي هو بساتين ساقيها ، ويقبلهما بشغف عاشق ولهان ، وما بين قبلة وأخرى تهمس حمص في أذن حبيبها نكتة من نكاتها الرايقة فيضحك العاصي ضحكة تصل أصداؤها إلى آخر الدنيا !
ولا غرابة .. فحمص معروفة للقاصي والداني بخفة دمها ، وشفافية روحها ، والابتسامة البريئة الفاتنة التي لا تفارق شفتيها .
وخفة دم حمص هذه جعلتها قريبة من القلب ، ومما يزيد قربها إلى القلب أنها هي التي تفبرك النكات عن نفسها ، وتطلقها لكي تضحك العالم وتسعده ، حتى يخيل إليك أن الضحك والسعادة صناعة حمصية بامتياز !
وقد سعد العالم كله لروح حمص الشفافة ، وضحك طويلاً لنكاتها العذبة ، دون أن يدري بأن حمص هي التي كانت تضحك عليه وتعد له أكبر نكتة في التاريخ !
ولأن حمص معروفة بهدوئها ورزانتها وحكمتها وحنكتها فقد بدأت تحيك نكتها الكبيرة تلك على مهل ، في هدوء تام ، قبل خمس وخمسين عاماً من الآن ، حين أنجبت طفلها المدلل (صطيف) هناك بعيداً في الولايات المتحدة ، لأنها كانت تخشى عليه عيون الحاسدين .. وعيون الأمن السوري !
وبما أن حمص تحب أولادها وتخشى عليهم حتى من نسمة الهوا فقد أطلقت على طفلها اسماً حركياً مستعاراً هو (ستيف جوبز) وعلمته الإنكليزية وأوصته أن لا يتحدث إلا بها كي لا يتعرف عليه هامان سوريا وجنوده ، لكن الطفل بسبب حمصيته المتأصلة في روحه ظل طوال حياته يغلف إنكليزيته بتلك اللكنة الحمصية المحببة التي لم تفارق شفتيه حتى آخر لحظة من حياته حين ودَّع العالم قبل عام من الآن قائلاً باللهجة الحمصية إياها : بخاطركن ، استوروا ما شفتوا منا !
وهكذا في غفلة عن عيون هامان وجنوده أعدت حمص طفلها الرائع لأكبر نكتة سوف تقود بعد خمس وخمسين عاماً ربيع الثورات العربية .. بل .. وتقود التغيير الأهم في تاريخ البشرية !
فكيف بدأت تلك الحكاية الحمصية العظيمة ـ وكل شيء حمصي هو عظيم بشكل ما ـ لقد بدأت الحكاية ذات شتاء من عام 1955 عندما غادر الطالب الحمصي عبد الفتاح جندلي مدينته العزيزة حمص متخفياً تحت جنح الليل ، فراراً من عسس هامان ، وتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته العليا ، وهناك تعرف على طالبة أمريكية لم يلبث أن نام معها ( وهي عادة عربية أصيلة يمارسها العربان كلما التقوا بالأمريكان ) وأنجب منها طفلاً ، ولأن القانون الأمريكي لا يسمح للطلاب بتربية الأطفال فقد اضطر عبد الفتاح مرغماً لإرسال ولده إلى دار الرعاية حيث تبناه بول جوبز وزوجته وأطلقا عليه اسم ستيف ، وهو اللفظ الإنكليزي لاسم (صطيف) بالعربية ، وهو اسم الدلع من مصطفى !
وعندما شب (صطيف) الحمصي عن الطوق ـ والحماصنة يشبون عن الطوق قبل الفطام ـ حضر محاضرة في شركة هيولت باكارد للإلكترونيات فاستهوته هذه التكنولوجيا العجيبة التي تصنع المعجزات ، وقدَّم طلباً ليلتحق بالشركة فقبلته على الفور لما رأت من نجابته الحمصية ، وهناك التقى بالمهندس الشاب ستيفن ووزنياك الذي عمل معه على تطوير بعض القطع الإلكترونية ، ثم التحق صطيف بالجامعة لكنه سرعان ما تركها وأخذ دورات في مهارة الخط أفادته لاحقاً في تصميم حروف الحاسوب ، وفي سنة 1976 أقنع صطيف صديقه ليعملا معاً في بناء حاسوب شخصي ، فباعا ما يملكان وجمعا ألفاً وثلاثمائة دولار فقط لا غير ، وأسسا شركة أبل Apple (أي التفاحة) .
وهكذا تضافرت أحلام صطيف مع مهارة صديقه فأنتجت الشركة حاسب ماكنتوش سنة 1984 الذي يحمل علامة (التفاحة المقضومة) الشهيرة التي استطاعت في غضون سنوات قليلة أن تغير العالم كما غيرته من قبل تفاحة أبينا آدم التي أخرجته من الجنة ، وتفاحة العم نيوتن التي غيرت نظرتنا إلى حركة الأفلاك ، وليكون ذلك الحاسوب أول حاسوب شخصي تعتمد شاشته على الرسوم بعد أن كانت الحواسيب تعتمد على الحروف فقط ، وقد بيع من حاسوب ماكنتوش أكثر من 400,000 جهاز في أول سنة لإنتاجه ، وهذا ما دفع بقية الشركات إلى تقليد ماكنتوش وليظهر بعد ذلك نظام الويندوز المعروف الذي انتشرت أجهزته في أرجاء العالم .
وبعد أن اطمأن صطيف لنجاح شركة أبل رأى أن يتركها تتابع نجاحاتها وذهب هو ليؤسس شركة أخرى ليسجل نجاحاً آخر باسمه واسم حمص ، وهذه هي طبيعة العلماء الكبار ـ الحماصنة وغيرهم حتى ما يزعل حدا ـ الذين لا يتوقفون عند أول نجاح بل يتابعون الطريق من نجاح إلى نجاح إلى نجاح ، وهكذا أسس صطيف شركة نكست للحواسيب ، ثم شارك بتأسيس شركة بيكسار التي تعاونت مع شركة ديزني لإنتاج أفلام الرسوم المتحركة فأنتج الفيلم المشهور توي ستوري ( حكاية لعبة ) الذي جمع مئات الملايين من الدولارات في أول عام لإطلاقه !
ثم بدأ صطيف بالتركيز على المنتجات العملية التي لها سوق واسعة ، فركّز على الأجهزة الذكية مثل "آي بود" و "آي فون" و "آي باد" الغنية عن التعريف ، وظل طوال حياته بسبب طبيعته الحمصية المتأصلة يؤمن أن الإبداع ليس له حدود ، وظل همه الأول هو التميز ، وظل ينصح الشباب أن يعملوا فيما يحبون ، وأن يحولوا أفكارهم إلى منتجات مفيدة ، وكان يذكرهم دوماً أن ليس ثمة نجاح لم يسبقه إخفاق ، ومن هذا المنطلق ظل صطيف يشجع هواة البرمجة ليطوروا البرامج لأجهزته ويبيعوها عن طريق موقع أبل ستور الذي أعطى مؤخراً جائزة للمشتري رقم (10مليار) وهو رقم فلكي لم تبلغه مبيعات شركة كومبيوترات من قبل !
وهكذا استطاع صطيف الحمصي أن يغير العالم بفضل مجموعة الأجهزة الخارجة عن المألوف التي صممها أو ساهم بتصميمها فحولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة يتواصل فيها الناس فيما بينهم بالصوت والصورة والهمسة والنكتة حتى وإن كان أحدهم في القطب الشمالي والآخر في القطب الجنوبي .. وكأنهما يسكنان نفس الغرفة !
وأهم من هذا أن الأجهزة التي صممها صطيف أو ساهم بتصميمها كانت هي المحرك الأول لثورات "الربيع العربي" الذي انتفضت فيه الشعوب العربية مؤخراً ضد الفساد والظلم والدكتاتورية ، فقد ساهمت أجهزة صطيف العبقرية في التواصل بين شباب الثورات العربية ، وفي تسجيل صور تلك الانتفاضات وبثها عبر القنوات الفضائية ليراها العالم ويطلع على فظاعة الجرائم التي يرتكبها زعماء الاستبداد ضد شعوبهم ، وتلك هي أكبر نكتة ، وأجمل نكتة ، وأذكى نكتة ، أهدتها حمص الرائعة لا للعرب وحدهم ، بل للعالم أجمع الذي لم يعد بعد صطيف الحمصي كما كان من قبل !